أخبار عاجلة

عمر طاهر يكتب: عن “سيد المداحين” في مئويته  

سيد النقشبندي
(1)
الراديو معلق على حائط المطبخ ويرقد الواحد منهكا في فراشه من أثر الصيام على صبى في لهيب رمضان في الصعيد في منتصف يوليو، هانت.. ذلك ما يقوله الخليط المنبعث من المطبخ، رائحة الطعام وصوت المنشد القادم من الراديو يقول بصوت يحطم الزجاج لا يستطيع الصبي أن يميز من كلماته سوى صيحه (الله.. الله) مع إيقاع الدفوف (دوم تراك تاك تاك دوم.. تراك تاك.. دوم دوم دوم)، جرس إنذار يحيي العروق التي تيبست بفعل العطش، ويدعو غدد اللعاب لأن (تقوم تسخن).
قبل المغرب، كان الشيخ سيد يطل من الراديو أو عبر كليبات تليفزيونية تحتوي على مناظر طبيبعية للسحاب يجري أو أسماك ملونة تشق الماء أو العنكبوت وقد نسج بيته بين وردتين ملونتين (الله.. الله..يا الله)، لم يكن هناك مدخلا آخر للنقشبندي في حياة الصبي بقية شهور السنة، بل أن صوته إذا ما جاء مصادفة خارج رمضان كان يبدو وكأن ثمة نشاز ما في وعي هذا الصبي.
(2)

أفتش كل فترة عن تراث الغناء في محلات صوت القاهرة، كلما توفر المال كنت أدخل محلا أفتح الكتالوج أطلب أعمال الكبار، الذين أعرفهم اسما، لكن لا مساحة للتعرف على أعمالهم، حيث لا إنترنت بعد، وفي إحدى المرات، بينما أتنقل بين صفحات الكتالوج، أطلت أغنية غريبة، تسمرت مكاني أستمع بكل كياني، ثمة نور ساطع يطل من مكان ما، شخص يغني ويقشر القلب كثمرة بندق، ويزيل قساوة ما تحيط بالثمرة، كان يقول (تحلو مرارة عيش في رضاك.. ولا أطيق سخطا على عيش من الرغد)، بينما الكورال خلفه يضبط الإيقاع بترديد جملة واحدة (مولاي إني ببابك) لا يتوقف عنها مهما حلق المنشد بصوته بعيدا عن المقامات واللحن والإيقاع، أذكر جيدا أنني أردت أن أسأل البائع عن اسم المغني، لكنني وجدتني غير قادر على ابتلاع ريقي وتعثرت الكلمات بشدة قبل أن يخرج السؤال، (الشيخ سيد النقشبندي) قال البائع، لم يكن شريط الكاسيت يحمل صورة للشيخ سيد، ولكن منظرا طبيعيا وبالداخل مكتوب أن الأغنية (كلمات: عبد الفتاح مصطفى، وألحان: بليغ حمدي)، خرجت عائدا إلى بيتي سيرا على الأقدام والصوت لم يفارقني بعد، وصلت فنمت في فراشي بملابسي كما لم أنم من قبل، منهكا أشعر بغربة كبيرة وونس عظيم، فرحة ما لكنها أثقل كثيرا من أن تحيط روحك بها، ثمة عاصفة اقتلعت البيت وتركتك في العراء، كان البيت هشا لأنه بلا جذور وكانت علامات الاستفهام الوجودية شروخ تنتشر في كل جدرانه، ثم جاء النقشبندي بدون مقدمات كقرار إزالة هو في حد ذاته مناسبة لأن تبني بيتك من جديد.
(3)
في الطريق إلى طنطا حيث البلد التي خرج منها النقشبندي كنت أسأل نفسي (رايح فين؟)، أزور بلدا لم أدخله من قبل أبحث عن أي شيء له علاقة بهذا الرجل.
في مقعد السيارة البيجو الأخير كنت أميل برأسي على زجاج النافذة واضعا سماعات الووكمان في أذني مخلصا للتدقيق فيما يقوله الشيخ سيد:
مَهما لقيت من الدُنيا وعَارضها
فَأنّتَ لي شغل عمّا يَرى جَسدي
تَحّلو مرارة عيش فى رضاك
و مَا أطيق سخطاَ على عيش من الرغد
تذكرت شيخى.
بعد شهرين من الزيارة المنتظمة انتحى بى أحد الأشخاص جنبا وحذرنى من صعوبة اتباع شيخ، قال فى خطورة الطريق ما أثار مخاوفى فلم أكرر الزيارة.
بعد فترة بينما أسرق نصف ساعة نوم فى منتصف النوم رأيت شيخى يزورنى ويعاتبنى على الغياب، كان العتاب رقيقا لكنه لم يخلو من حزم وطلب منى أن أرتدى ملابسى وأتجه إليه فورا.
استيقظت وتوجهت إليه بالفعل، كان الوقت بين العصر والمغرب، عندما دخلت إلى الزاوية وجدته يجلس بمفرده تماما ممسكا بسبحته يقوم بورده اليومى، ابتسم واشار لى بالجلوس إلى جواره.
جلست صامتا حتى أنهى ورده، لم يزد عن تحيتى، ثم عاد إلى الصمت لكن الابتسامة لم تفارقه.
بعد قليل سألنى: تعرف تأذن؟، قلت : نعم، قال: آذن للمغرب.
أذنت، ومن يومها لم أفارقه.
أما الشخص الذى حذرنى فلم أراه هناك مرة أخرى.
(4)
أفتش فى طنطا عن أى شىء يخص (الشيخ سيد) قبره، عائلته، صديق له، كان النقشبندى فيما يبدو على علم بالزيارة، مع أول سؤال وجدت شخص يقودنى من يدى إلى حفيد الشيخ سيد (الشيخ أحمد)، هو اندهش من كون الصحافة لازالت تذكر جده، خفت أن أقول له لست هنا كصحفى لكن لم أشا ان أفسد فرحته بالامر،وأنا اندهشت عندما عرفت أن الشيخ أحمد هو نفسه بطل الصورة الصحفية الوحيدة المتاحة للشيخ سيد إذ أن الشيخ أحمد هو الطفل الذى يجلس إلى جوار االشيخ سيد على الأرض وأمامه المصحف مفتواح فوق حامل.
(كنت أول أحفاده لذلك كانت لى عنده مكانة خاصة، كان يرسل لى سائقه بسيارته الصغيرة ويستأذن والدى أن أحضر معه الحفلات والليالى التي يحييها، كنت أقف مع البطانة التي تضم شقيق الشيخ سيد وأصدقائه، وكان كل مرة يسحرنى صوته فأترك البطانة وأذهب لأقف إلى جواره، كان يفرح، وفى مرة أعطانى الميكروفون قائلا (انشد) كان عمرى عشر سنوات ولم أفعلها من قبل، شجعنى فأنشدت فصار يقدمنى للناس في كل مرة.)
(5)
أغمض الشيخ سيد عينيه رجلا يعيش فى جنوب الصعيد لا يفكر فى أن يغادره، زاره (السيد البدوى) في المنام وأخذه تحت إبطه باستقبال طيب وحنان وافر، فغادر الشيخ سيد فراشه متجها إلى طنطا، واستقر في منزل تطل شرفته على مسجد (السيد البدوى)، ولمس الونس فى جواره، وعندما تصدع المنزل وأوشك على الإنهيار ذهب إلى محفاظ الغربية وطلب منه أن يوفر شققا لسكان هذا المنزل في مساكن المحافظة، فاستقروا جميعا هناك إلا هو فقد استطاع أن يخفف الحمول على المنزل بما يكفى لأن يتحمله بمفرده ليهنىء كيفما شاء بالجوار.
(6)
كانت ابتسامة ابنة الشيخ سيد تتسع بشكل غريب كلما قالت كلمة (الشيخ سيد)، (الشيخ سيد ماكانش بيسلم على حد..كان بياخده بالحضن على طول)، (الشيخ سيد كان هايم في حب الله ومش مشغول بالدنيا)، (الشيخ سيد لما سجل التواشيح للإذاعة قال لهم مش عايز فلوس بس طلعونى أحج) (الشيخ سيد كان بيدخن كتير بس ياخد نفسين من السيجارةو يرميها) (الشبخ سيد فضل محافظ على وظيفته في الأوقاف كمقرىء لقرآن الجمعة في جامع (سيدى سالم) كان يخلص شغل ويقعد على سلم الجامع ويوقف المحتاجين طابور يوزع عليهم صدقات الناس والزكاة) (وردة كانت بتعش الشيخ سيد ولما قابلها في مرة عند بليغ وقال لها بنتى مابتسمعش غيرك لقيناها بعد يومين داخلة علينا البيت في طنطا وقضت معانا اليوم) (الشيخ سيد لما يكون رايق كان يقعد يغنى لنا “لايق عليك الخال” بتاعة عبد الحليم) (الشيخ سيد اتشهر برة مصر الأول وبعيدن جابوه يغنى في مولد السيدة زينب وبالصدفة بابا شارو سمعه وأخده الإذاعة) (الشيخ سيد هو اللى أحيى جنازة أبو الرئيس السادات بعدها السادات جاب ينشد في فرح بنته بعدها قال لهم احبسوا النقشبندى وبليغ مع بعض لحد ما يطلعوا حاجة..فكانت مولاى إنى ببابك).
أفتش عن رائحة الرجل في منزل ابنته ولا شيء سوى (العود) القديم الذى كان يعزف عليه ابنه فيغنى معه، وصور قليلة لها معظمها في شرفة البيت المطل على السيد البدوى.
(7)
فى طريق العودة كنت أشارك الشيخ سيد الغناء
أدّعوك يَاربّ فأغّفر ذلّتي كَرماً

و أجّعَل شفيع دعائي حُسن مُعتَقدّي

و أنّظُر لحالي..في خَوّف وفي طَمع

هَلّ يرحم العَبّد بعد الله من أحد؟
تذكرت (عمار الشريعى).
كنت أحاوره وحكى لى عن مشقة الطريق وعن كونه لم يترك فرصة عمل ليقدم نفسه فى كل مرة كأنها أول مرة وعدد أسماء من عمل معهم إلى أن جاء اسم الشيخ سيد، قال : كنت عازفا فى الفرقة الموسيقية التى نفذت أول أعمال الشيخ سيد، بعد ذلك شاءت الظروف أن نعمل سويا فى تنفيذ أغنية جديدة، وكنت أنا الفرقة بمفردى.. وكنت أغنى خلفه -كنت البطانة يعنى- وفى هذه المرة استطعت أن أشاهده بشكل أفضل.
المرة الثالثة عملت معه وهو متوفى.. بعد وفاته أحضر لى أحد المسئولين شرائط للشيخ سيد لم تذع من قبل وأخذت منها صوته وقمت بتركيب الموسيقى عليه، لنقدم بصوته أشهر التواشيح التى تذاع يوميا فى رمضان: «الله.. الله.. يا الله”.
قال عمار: كان رجلا بسيطا يحب ما يفعله وكان كل طموحه أن يخرج ما يقدمه بشكل جيد وأن يتوفر له قبل التسجيل قطعة حلاوة طحينية يجلى بها صوته.
تذكرت آخر كلمات ابنة الشيخ سيد:
(مافيش حد مهتم بسيرته خالص مش عارفة ليه)، صمتت بعدها ثم قالت : (بس أصلا الشيخ سيد ما كنش عايز حاجة من الدنيا).

(8)
قرأ الشيخ سيد قرآن الجمعة في مسحد التليفزيون ثم خرج وزار أخيه وأعطاه ورقة قال له لا تفتحها إلا وقت اللزوم، عاد إلى بيته، ثم مات، فتح الأخ الورقة فوجد الشيخ سيد قد كتب فيها (ساموت غدا، لا تقيموا مأتما واكتفوا بنشر النعى، وأدفنونى في العنوان المذكور)، في العنوان المذكور وجدوا مقبرة جاهزة بلوحة رخامية تحمل اسم الشيخ سيد، سألوا إن كانت قيمة المقبرة قد سددت بالكامل فقالوا لهم سدد ثمنها كاملا منذ عدة أيام.