أخبار عاجلة

عمر طاهر يكتب: لماذا اختار السادات أن ينزل مطار «بن جوريون» ليلًا؟

خاص “الكتاب ٥٠ + ١”

عمر طاهر

في «الحفيد» كانت كريمة مختار تتصدر المشهد تُغيِّر ملابسها، وفي الخلفية بعيدًا، يقوم مدبولي بالمرور على مفاتيح الكهرباء في الشقة لإطفائها واحدًا تلو الآخر، كنموذج للأب المصري. كان مدبولي القادم من بعيد هو بطل المشهد، ولأجل هذا خُلقت السينما.
تمنيت أن أكتب هذا الفيلم، أو أكتب فيلمًا يبدأ عند اللحظة التي اكتشف فيها عبد الناصر وهو يتلقى العلاج في موسكو عام 1968 أن أصابع قدميه مصابة بـ«الغرغرينا»، وعليه أن يصارع الوقت للنجاة من البتر. أسابيع بين حمامات المياه المعدنية والطينية، خوفًا من التدخل الجراحي بعد أن ساءت الحالة. البرد والوحدة وهزيمة عسكرية وصديق عُمرٍ منتحر. تفتيشه عن لحظات قديمة تمنحه شعورًا بالرضا عن النفس قد يصلح لكسر مرارة اللحظات التي اكتشف فيها كم كان مُفرِطًا في الحماقة. مكالمات تلفونية مع أسرته: هل كان الأب الذي يتمناه؟ الأرق الناجم عن تصلب شرايينه، وساعات نوم قليلة، وكيف كانت أحلامه وكوابيسه، وعلامات المستقبل؟ الضابط الذي كان يأخذ استراحة محارب قبل عدة سنوات في خيمة على جبهة حرب فلسطين، يستمع مع أفراد كتيبته إلى أم كلثوم في الراديو، كيف استقر به المقام هنا في هذا البرد القارس، محرومًا من الأشياء القليلة المفضلة لديه: المشي والدخان والشعور بالزهو؟!
أم كلثوم نفسها تستحق فيلمًا، لكنها ستكون بطلة ثانوية. البطولة الأولى ستكون لشخصية «فاطمة»، زوجة الملحن محمود الشريف* التي كانت «تُبلِّع» أدوية القلب التي تتناولها بكلمات مصطفى أمين في مقاله الذي هاجم فيه بشراسة خطوبة زوجها وكوكب الشرق. فتحت فاطمة بيتها لأم كلثوم، وكانت صديقة للأسرة، لكنها لم تتوقع هذا المصير، لم يمر بخيالها أن لقاءات زوجها وأم كلثوم أكبر من مجرد مطربة وملحن. تفكر في هذا الحب الذي جعل أم كلثوم تقبل أن تكون زوجة ثانية وامرأة ثالثة في حياة الشريف؛ كان الشريف يهرب من أم كلثوم وفاطمة عندما تتعثر في صدره الألحان إلى «فردوس» في المنصورة، لترقق روحه وتلهمه وتفك أسر الموسيقى؛ فتاة ليل وقع في غرامها، ثم هجرت المهنة على يديه، وتفرغت في بيت من حجرةٍ لاستقبال حب حياتها متى احتاج هو إلى ذلك. كتب مصطفى أمين في مقاله ما أنهك قلب زوجة الشريف المريضة فتُوفِّيت. يقول الشريف: «مقال أمين عجَّل بجنازة قلبها المرهق». وهكذا يرى الناس أمين كاتبًا كبيرًا، ما عدا محمود الشريف يراه قاتلًا، وهو ما لم يره بطل الفيلم في نفسه.
أو أكتب فيلمًا عن الأميرة فايزة، شقيقة الملك فاروق، التي بقيت في مصر فوقع في غرامها جمال سالم. جُن بجمالها، وأصبح «متوولًا» بها (و«التِّوَلة» في المعجم: السحر). الضابط القادم من بيئة خشنة وقع في غرام الملكية الناعمة ذات العينين الملونتين، وطاردها كثيرًا، ثم طلب من عبد الناصر السماح له بالزواج منها، فراوغه وطلب منه بعض الوقت حتى تأتي لحظة مناسبة. ترك ناصر صديقه يعيش أحلام النعيم العاطفي المقبل عليه، واستغل أول فرصة فقام بتهريب الأميرة سرًّا إلى تركيا، ليُغلق ملفًّا قد يؤذي الجميع، وقال: «هل قامت الثورة ليتزوج الضباط من الأميرات؟». ثم صدرت أوامر بمحاكمتها غيابيًّا على الهروب بمجوهرات العائلة المالكة، «ليورطها» أكثر في الهروب وعدم الرجوع (و«الوَرْطة» في المعجم: الوحل الشديد).
أو فيلمًا عن الساعات التي قضاها السادات في الطائرة، في الطريق إلى مطار «بن جوريون» (القدس). نظرته إلى مستقبل كل شيء عقب الزيارة، مختلطة بنظرته إلى الطريق الذي قطعه حتى هذه اللحظة. كيف قاوم مخاوفه وهواجسه؟ وكيف تحوَّل كل ذلك إلى مشاهد في رأسه؟ أُفكِّر كثيرًا؛ لماذا اختار السادات أن يدخل الأرض المحتلة ليلًا طلبًا للسلام؟ هل لأسباب أمنية، أم لأنه اطمأن نفسيًّا إلى الليل اطمئنان شخص لستر الظلام وهو يسرق؟ ارتباك السادات بدأ من اليوم الذي أعلن فيه داخل البرلمان أنه على استعداد للسفر إلى إسرائيل: بعد عودته إلى منزله وسَّط شخصًا ليطلب من مسؤولي جريدة «الأهرام» أن يحذفوا هذا الجزء من خطابه، كان الوقت مبكرًا فتم تنفيذ رغبته، لكن قبل منتصف الليل، وبينما الجرنان على وشك الخروج من المطبعة وسَّط شخصًا آخر طلب إيقاف الطباعة، وإعادة الجزء المحذوف، ووضعه في الصدارة.
أو فيلمًا عن اللحظات التي كان فيها رجال النظام السابق يتابعون على شاشة التلفزيون دبابة تابعة للجيش المصري تسير في أحد شوارع وسط المدينة، وقد سمح قائدها للناس أن يكتبوا عليها بالسبراي الأسود وبخط عريض: «يسقط حسني مبارك». كان هناك بينهم مَن يُنظِّم أفكاره للهروب، ومَن يُنظِّم دفقات شعوره بالندم، ومَن يُنظِّم أكاذيب جديدة. هناك الواثق من كونها عاصفة في المحيط، وهناك مَن كان يرى المحيط يبتلعه. أيادٍ ترتعش من فرط الأدرينالين، مكالمات تلفونية تمتلئ بالأسئلة والصمت، لا أفكار واضحة بخصوص المستقبل، لكن شريط أحداث الماضي يمر سريعًا بتفاصيل واضحة. الوقت لا يكفي لملاحقة ما يحدث، حصر للثروات المستقرة بعيدًا عن الأعين، ارتباك صحي يثير فزع المحيطين، اعترافات مؤجلة تنفجر، خيانات صغيرة، أقنعة تسقط، سلطة تُنتزع، أحجام تتضح حقيقة مقاساتها، الأمن غائب، وطرق يحرسها أصحاب ثأر، وناس تغني في ميدان التحرير فَرِحةً، بينما يتصاعد من خلفهم دخان احتراق محرب الحزب الوطني المقدس.
فيلم السينما يعبر عن صراع وأزمة، الأمر الذي يجعل كل لحظات حياتنا أفلامًا: اللحاق بالركعة الثانية في صلاة الجمعة، موافقة الكلاينت، خلع الحجاب وارتداؤه، العثور على «ركنة، واسطة، مدرسة قريبة للبيت، لينك للمباراة، تذكرة لحفل عمر خيرت، محامٍ شاطر، طبيب عنده ضمير»، الوقوف بين يديِّ محصل الكهرباء، وهي اللحظة التي يبدو أنها أزمة قديمة من أيام عبد المنعم مدبولي.

مقطع من كتاب: من علم عبد الناصر شرب السجائر، ويتم مناقشته في قاعة “كاتب وكتاب”، مساء اليوم.