أخبار عاجلة

الأمير المغربي مولاي هشام واحتمالات التحول الديمقراطي

من أهم المنشورات القيمة والنوعية التي أثرت المكتبات العربية في الآونة الأخيرة ، الترجمة العربية للمؤلفين الجماعيين الذين يتناولون قضايا التعليم في العالم العربي ، والتي شارك في تأليفها الأستاذ هشام العلوي والدكتور روبرت سبرينغبورغ، وحمل عنوان: “الاقتصاد السياسي للتعليم في العالم العربي”.

روبرت سبرنغبورغ ( 77سنة)، خبير أميركي في شؤون مصر والشرق الأوسط، سبق له أن عمل مستشارا في وزارة الخارجية الأميركية، مختص في دراسة الاقتصاد السياسي للشرق الأوسط، والسياسة الخارجية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، والصراع الإسرائيلي- الفلسطيني. وله في هذا الشأن مؤلفات.

أما هشام العلوي (58 سنة)، فباحث مشارك في مركز ويذرهيد للشؤون الدولية بجامعة هارفارد. ومثل أغلب الأكاديميين المغاربة يتعمد عدم الإشارة إلى درجته العلمية، حيث تسبق اسمه عادة كلمة التشريف: (مولاي)، لانتسابه للعائلة الملكية، فهو ابن عم ملك المغرب محمد السادس.

في سنة 2014 أصدر مولاي هشام كتابه المثير للجدل “الأمير المنبوذ” باللغة الفرنسية، يحكي فيه عن والده الأمير مولاي عبد الله، ووالدته الأميرة لمياء ابنة رياض الصلح، أول رئيس وزراء لبناني بعد الاستقلال، وعلاقاته مع عمه الملك الحسن الثاني، وابن عمه محمد السادس.

وتضمن الكتاب انتقادات شديدة إلى “المخزن” (السلطة الحاكمة)، وإلى الأحزاب المغربية، التي لم يتردد في وسمها بالانخراط في اللعبة السياسية للسلطة.

وفي 2015 نشرت الترجمة العربية للكتاب بعنوان مختلف: “سيرة أمير مُبعد”، وقام بتدقيق ترجمته صاحب “دار الجديد” البيروتية، المثقف والناشط اللبناني لقمان سليم، الذي اغتيل على يد حزب الله في فبراير 2021.

بعدها بعامين، قرر الأمير مولاي هشام “التحرر من لقبه الأميري”، دون أن ينأى عن الاهتمام بالشأن السياسي. فتخلى رسميا عن لقبه البرُتوكولي: (صاحب السمو الأمير مولاي هشام)، رافضا تصنيفه “ضمن ورثة العرش في المركز الرابع”، مفضلا أن يكون مواطنا عاديا باسم “هشام العلوي”.

في حوار سابق مع مركز الدراسات بقسم الشرق الأوسط لجامعة هارفارد الأميركية، أكد هشام العلوي أنه “لم تعد تربطه أي صلة بالمؤسسة الملكية بالمغرب”. وحدد وضعه كمواطن مغربي – أميركي: “أنا حاليا واحد من خمسة ملايين وستمائة ألف مغربي من الجالية المقيمة بالخارج، والوطن الذي تبناني هو الولايات المتحدة الأميركية، وأنا هذه السنة في جامعة هارفارد الأميركية أعيش تجربة غنية ومتنوعة”.

هكذا تفرغ “الأمير السابق” بحرية وأكثر استقلالية لأنشطته الخاصة، في مقدمتها مجال الدراسات والأبحاث والكتابة الفكرية، حيث دأب منذ أزيد من ربع قرن على نشر مقالاته وتحليلاته السياسية في شهرية “لوموند ديبلوماتيك” الفرنسية. كما يشرف اليوم على تسيير (مؤسسة هشام العلوي)، التي تهدف إلى “تشجيع البحث في العلوم الاجتماعية حول بلاد المغرب الكبير والشرق الأوسط. والقيام بدراسة المجتمعات والأنظمة السياسية”.

بهذا صار هشام العلوي من الشخصيات المغربية والعربية التي تحظى باحترام وصيت دولي. عرف بمطالبته بالإصلاح الديمقراطي في المغرب، وبدعوته إلى تحويل النظام الملكي المطلق إلى نظام ملكي دستوري، “حتى تتمكن المملكة من الدوام”، مؤكدا أن أفق النظام المغربي “منسد”، وأن التوترات الاجتماعية من المحتمل أن تفضي إلى “انتفاضات عنيفة”. إضافة إلى علاقاته مع شخصيات مغربية معارضة، بل إن بعض أصدقائه من المصطفين بالتيارات الراديكالية، ومنهم من صرح بتفضيله للنظام الجمهوري، مثل محاميه الخاص الراحل عبد الرحيم برادة.

إلا أن المغاربة والصحافة، (كما تعمدنا في عنوان هذا المقال)، ما زالت تلصق به لقبه الأميري، وتكرر هذا عند نشره مؤخرا تعزيته الخاصة لعائلة الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة التي اغتالها الإسرائيليون في ماي الماضي.

***

بالعودة إلى مضامين الكتاب الهام الذي نشر في السنة الماضية باللغة الانكليزية، وصدرت ترجمته إلى اللغة العربية هذا العام (2022)، عن دار الإحياء للنشر والتوزيع، تحت عنوان: “الاقتصاد السياسي للتعليم في العالم العربي”، فيتناول موضوع التعليم في عدد من الدول العربية. وتؤكد مقدمته أنه على الرغم إنفاق الحكومات العربية، وكذلك الجهات المانحة الدولية ميزانيات ضخمة على النظم التعليمية في المنطقة، تبقى النتائج التي حققها الطلبة العرب دون المرجوة.

عند ظهورها، نالت النسخة الأصلية من الكتاب، الكثير من الاهتمام والترحيب النقدي من نخبة الباحثين والمهتمين. وحصل الاتفاق بين مختلف القراءات الخاصة على أن الكتاب يقدم تحليلا متنوعا للديناميكيات والمشكلات التعليمية في العالم العربي، “الذي تم بحثه جيدًا وفي الوقت المناسب، يغطي الكثير من المجالات الجديدة”. كتب بيتي دبليو مور، من جامعة كيس ويسترن ريزيرف. وأصبح “لا يمكن لأي عمل مستقبلي في مجال التعليم في المنطقة العربية أن يتجنب إشراك الرؤى والتحليلات الواردة في هذا المجلد”، كما كتبت الـ”ميديل إيست جورنال”. وبات الأمل “أن يلتقط هذا الكتاب بعض التكنوقراط والمشرعين العرب الحاليين (والمستقبليين)”. ليقفوا على “مناقشة في الوقت المناسب، حول إلحاح القضية المطروحة بشأن كيفية إعادة هيكلة الأنظمة التعليمية العربية بعيدًا عن سياق المحسوبية السياسية”، للارتقاء “إلى بيئة حيث مستويات عالية من التحصيل التعليمي من قبل الطلاب في الواقع يكافؤون ويتحققون بما يتناسب مع النجاح والمكانة في مجتمعاتهم”.

عكف مؤلفو “الاقتصاد السياسي للتعليم في العالم العربي” بجدية واضحة في البحث عن سبل علمية للوصول إلى أجوبة مقنعة، ووجدوها في الاقتصاد السياسي لهاته الأنظمة الاستبدادية بالمنطقة العربية. من خلال تقديم دراسات همّت شمال إفريقيا ومنطقة الخليج، مع تقديم وجهات نظر مقارنة من آسيا وأميركا اللاتينية. وعملوا على توضيح أن الجهود المبذولة لتحسين التعليم وتعزيز التنمية الاقتصادية وتوسيع قاعدة المواطنة، التي تعتمد عليها بعض تلك الأنظمة المتصفة بـ”استقرار أكثر وبفعالية يمكن بناؤها”، أنها ستفشل ما دامت النخب الحاكمة غير قادرة على زيادة قوتها السياسية والاقتصادية على حساب الصالح العام.

وعن النظم التعليمية العربية، يؤكد هشام العلوي أنها “ستظل غير منتجة إلا في حالة تراجع تحكم النخب الحاكمة وفقدان هيمنتها السياسية والاقتصادية لصالح المصلحة العامة. لقد طال انتظار الإصلاحات الهيكلية لتعزيز التفكير النقدي والابتكار الفكري، لكنها ستفشل حتما ما لم تتوقف الحكومات عن توظيف التعليم لمقتضياتها على حساب الاحتياجات الأخلاقية والمعنوية والمادية لشبابها”.

***

وأنت تطالع خلاصات أبحاث الكتاب، ربما سيتبادر إلى ذهنك كما لو أن بين يديك بيانا سياسيا طويلا، أو مقررا ناريا لهيأة راديكالية معارضة. وهذا لا يعني مطلقا التنقيص من منهجية واستنتاجات الجهد العلمي الجاد الذي اضطلع به فريق الباحثين المرموقين، لكن الدراسات التي احتواها الكتاب بإمكانها أن تهز الأرض من تحت النائمين فوق ترابها، وتسلط الأضواء حول عتمة واقع تشتد حلكته كلما تعاقبت السنوات والعقود. خصوصا وأنه ينطلق من إجابة جازمة وواضحة، وهي أنه قد “تم تصميم النظم التعليمية الحالية للسيطرة على المجتمع تنظيميا، وليس أساسا لتكوين وتعبئة شبابه وصغاره”.

لا شك أن من كان وراء فكرة بحث العلاقة بين تخلف البلاد العربية وتأخرها في مجالات التنمية، أدرك بأن لا مدخل في الأفق لأي تنمية حقيقية ومستدامة إلا عبر إصلاح التعليم وتجويد مستواه، وأن الصلة وطيدة بين النظام السياسي والتعليم، وبين ما يقدم للأجيال الناشئة من تلاميذ والطلاب لتمكينهم من سبل المعرفة والعلم والتطور والتقدم. فلم يعد خفيا أن معيار التنمية البشرية العالمي مرتبط بمعياري التعليم والديمقراطية، لذلك نجد في الصدارة الدول المتقدمة في أوروبا والولايات المتحدة وأستراليا، في حين تتذيل المراتب بقية الدول والمناطق، وبينها طبعا البلدان العربية.

إلى حد كبير، يمكننا القول إن الخلاصات المتعلقة بالتعليم في المغرب والتي جاءت في الكتاب، تلتقي مع توصيف الحالة التي سبق نشرها على امتداد سنوات الاستقلال، كأبحاث ودراسات ومقالات، أو كبيانات ومقررات سياسية حول التعليم في المغرب، لعل أهمها ما تراكم من أدبيات المعارضة الديمقراطية والتقدمية، وبالأخص أدبيات حزب التقدم والاشتراكية والاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وباقي تيارات اليسار المغربي التي انبثقت عن هذين الحزبين.

ولن ننسى كتاب “أضواء على مشكل التعليم بالمغرب” للمفكر محمد عابد الجابري، الذي وصف قضية التعليم بالمغرب بـ”المشكل المزمن”، الذي يحتل الصدارة وبلا منازع ضمن مجموعة المشاكل الأخرى التي لم تعرف بعد طريقها نحو المعالجة الجدية والحل الصحيح”.

فكيف يا ترى سيكون جواب من لا يزالون يتكلمون اليوم عن الإصلاح المزعوم للتعليم، من لا يخجلون وهم يتفاخرون بألسنة الخشب في الإعلام، بارتفاع جودة التعليم في المغرب، إذا علمنا أن كتاب الجابري، وكان من أبرز قادة المعارضة التقدمية ورموزها الفكرية، هو مقالات متسلسلة ظهرت في الستينيات بمجلة “أقلام”، وأعيد جمعها سنة 1973 بين دفتي كتاب. لكن الواقع مستمر على حاله.

منذ الاستقلال إلى اليوم، تولى مسؤولية وزارة التعليم في المغرب 33 وزيرا، أولهم محمد الفاسي (حكومة مبارك البكاي)، وآخرهم شكيب بنموسى ضمن الحكومة الحالية.

لكن مسار الإصلاح المتاح في المغرب، كما في ظل باقي أنظمة الحكم العربية، يبقى هو “الإصلاح من الأعلى إلى الأسفل، أي أن الحكومة تقرر أن عليها أن تأخذ إصلاح التعليم على محمل الجد وتعمل عل تنزيل ذلك”. إلا أن ما حدث في هذا السياق، كان هو الفشل الملاحق بفشل يؤكده.

فعبر ولايات هؤلاء الوزراء، طرح خمسة عشر مشروع لإصلاح التعليم، بمعدل “إصلاح” لكل أربع سنوات، لم يحالف التوفيق والنجاح أي منها. وها نحن اليوم أمام مشروع جديد يشرف على تنفيذه رئيس “اللجنة الملكية الاستشارية للنموذج التنموي الجديد”، وزير التعليم الحالي شكيب بنموسى: “الرؤية الاستراتيجية (2015-2030 )”، الذي كما يتضح من قوس السنوات التي يحددها، هو امتداد أو استكمال للمشروع السابق، الذي كان حظه الفشل الذريع، ونعني به “البرنامج الاستعجالي لإصلاح التعليم”.

وللإشارة فإن شكيب بنموسى ليس هو الوزير الوحيد الذي شغل من قبل منصب وزير للداخلية، فقد جرى في السابق تعيين وزراء للتعليم قدموا من وزارة الداخلية، مثل أحمد رضا اغديرة ومحمد بنهيمة وحدو الشيكر ومحمد حصاد. ما يفشي الرؤية الأمنية للقائمين على شؤون البلاد في معالجتهم لقضايا التعليم، حيث لم ييحدث التخلص من النظرة الأرنيابية إلى القطاع كعبء يرهق ميزانية الدولة، وكخطر داهم، خصوصا إذا استرجعنا الانتفاضات الاحتجاجية التي شهدها المغرب، والتي أججتها الشبيبة المدرسية والطلابية، المسلحة بروح التحرر والتمرد، منذ انتفاضة 23 مارس 1965 الدامية.

كما أن إرادة الحاكمين في إصلاح للتعليم، “لا تتعدى حماية ذاتها من التمردات، وتحصر مجالات الإصلاح ضمن حدود خدمة المنظومة السياسية والاقتصادية المهيمنة”. وكما خلص المفكر عبد الله العروي، صاحب “الإيديولوجيا العربية المعاصرة”، إلى أن غياب إرادة حقيقية لإصلاح التعليم هو ما أدى إلى الوضع المأساوي الذي تعيشه المؤسسة التعليمية المغربية، وذلك بعدما فشلت كل المخططات والمشاريع الإصلاحية، ما أدى إلى تراجع جودة التعليم. وهو ما تؤكده نتائج تقارير دولية، حيث يحتل المغرب مرتبة متأخرة جدا.

لذلك، هناك استياء واسع النطاق من تدني جودة التعليم ومن تكلفته المرتفعة في القطاع الخاص، وأن ما يحدث الآن هو “تصفية سياسية للتعليم العمومي”، ضمن “مخطط تراجعي تخريبي يستهدف تفكيك ما تبقى من الخدمة العمومية”، ويؤشر إلى “مرحلة جديدة في الإجهاز الرسمي على مجانية التعليم وتكريس التعاقد في التوظيف، والانتصار لخيار المزيد من بيع وتسليع التعليم العمومي (الحكومي) وخوصصته من الأولي (الابتدائي) إلى العالي”، وفق الجامعة الوطنية للتعليم -التوجه الديمقراطي.

إن جودة التعليم هي أساس التنمية. والتنمية لا يمكن فصلها عن قضية الديمقراطية، وبالنتيجة فإن دمقرطة المجتمع تمر عبر جسور المعرفة والتعليم، وما دام التعليم في البلدان العربية غارقا في الرشوة والسلطوية والمحسوبية، فلا يصح الكلام عن أي تنمية. فلا تنمية من دون ديمقراطية. لذلك وضع كتاب”الاقتصاد السياسي للتعليم في العالم العربي” الأصبع على مكمن الداء والجراح، بربط الديمقراطية بالتعليم، وبأن غياب الديمقراطية هو سبب التخلف عن مواكبة العصر والتحديث، و”أن المنظومة التعليمية المتبعة، تقلل بالضرورة من احتمالات التحول الديمقراطي”.

فما العمل؟