أخبار عاجلة

الخلطة السرية لتشكيل السلوك البشري بقلم “ميسون الجبوري”

 

خلال سنة 1979 أقتضى الامر 125 مليون دولار فقط ، لكي يرضع الاطفال في ساحل العاج القهوة بسعادة قلَ ان حظي بمثلها طفل لم يتجاوز العشرين شهراً من العمر . هذه السعادة اللامتناهية هي التي جعلت العالم الفرنسي هنري دوبان المدير السابق لهيئة بحوث الاغذية والطعام الافريقية يقول عن نفسه انه ” كان الابله الوحيد الواقف بين مجموعة كبيرة من نسوة ساحل العاج لمجرد انه سألهن باستهجان لماذا يرضعن الاطفال القهوة ؟

قالت النسوة للعالم الفرنسي بكل بساطة : ألم تقرأ … ألم تسمع ذلك الاعلان الذي تردده الاذاعة طوال ساعات اليوم ، بأن البن الذي تنتجه احدى الشركات العالمية ” يجعل الرجال اكثر قوة والنساء أكثر حيوية ومرحاً والاطفال أكثر ذكاءً

ربما في هذا الامر بعض الطرافة ، ومايثير قليلاً من الفكاهة ، لكنه يقودنا ايضاً الى اكتشاف أننا جميعاً نفعل الشيء ذاته ، وان كنا لانرضع الاطفال القهوة . فكلما كانت الدول اكثر تقدماً ، كلما كان بامكان ( الاعلان التجاري ) ان يحظى بنتائج اكبر بما لايقاس مع دولة كساحل العاج ، لسبب بسيط له علاقة بانتشار وسائل الاتصال الحديثة وطرق الاعلام والدعاية الاكثر تطوراً وقدرة على دخول البيوت

ان علماء النفس الذين يتوارون وراء الاعلانات التجارية يقولون أنه كلما كان الفرد اكثر ثقافة ، كلما كان استعداده لتقبل الدعاية اوسع ، فالثقافة تجعل الانسان يرى اكثر من امكانية وتفرض عليه ان لايكون متيقناً من قناعاته ، وهنا يتوجب على تقني الاعلانات التعرف على كيفية النفاذ اليه من ثغرة الشك والقلق هذه والاستفادة من قدرته على الاصغاء باهتمام . ومع ذلك فانه ليس في الامر كله اية خديعة طالما اننا نختار دائما مانفضل شراءه بملء ارادتنا الا اذا كان بامكان مصححي الاعلان توجيه ارادتنا تلك نحو مايفضلونه هم بالذات ، او بالاحرى نحو تلك المنتجات التي قبضوا سلفاً ثمن ترويجها من صانعيها . لهذا السبب بالذات يبدو مبلغ الـ ( 125 مليون دولار ) الذي انفقته شركة البن على الدعاية لمنتجها قليلاً جدا بالنسبة الى المليارات المدفوعة سنويا على الاعلانات التجارية . وتقدر بعض الاحصائيات مجموع ما حصلت عليه وكالات الاعلان المتخصصة من المعلنين في كل سنة من سنوات السبعينيات مثلاً بخمسين مليار دولار وهو رقم تضاعف في العقود اللاحقةان الاعلان الناجح هو القادر على القضاء على الفروق بين مانحتاجه فعلاً وبين مانستطيع الاستغناء عنه والحياة دونه . فالاعلان التجاري الايستهدف فقط كسب المنافسة بين السلع الشبيهة بل يرمي الى خلق حاجات جديدة باستمرار لسلع ومعروضات لم تكن حتى تلك اللحظة ( الاعلانية ) معروفة او ضرورية للمستهلكين . هذا الامر لم يكن ليتحقق لصانعي الاعلانات لولا نجاحهم الباهر في ممارسة الدعاية على صعيد العاطفة والعقل بشكل اقل بكثير مما يمارسونها في مواقع اخرى ، سايكولوجية وغير واعية في سبر اغوار ومجاهل النفس البشرية ، حيث توجد الأهواء والعادات اللامعقولة والمتناقضة منطقيا ، وحيث مازالت في المناطق الاكثر ظلمة في اللاوعي الجماعي البشري تأثيرات مهمة للسحر والاساطير والغرائز المنفلته من عقالها .

لذا نلاحظ انه في اعلان تجاري ناجح واحد ، يختلط علم النفس والاجتماع بالسحر والتكنولوجيا والميثولوجيا ويرتدي الجميع حلة مثيرة جميلة توفرها تقنيات الاتصال العصرية ، لتبدأ اقوى وامتع ، حلة انتشار للسلعة بالتسلل كالغازات بين مسامات جدران البيوت ووسط طيات وعقول وقلوب سكانها

ان اول مايتعلمه كل مصمم اعلانات تجارية انه لن ينجح اذا لم يتعرف كيف يترجم نظرية الانعكاسات الشرطية الشهيرة لبافلوف الى مواد اعلانية ، وتتلخص تجربة بافلوف بفكرة العلاقة بين سيلان لعاب الكلب وبين قطعة اللحم والجرس . اما في حالة الاعلان فان المؤثر الشرطي المركب هو السلعة ( الجرس ) بينما المؤثر الشرطي البسيط ( يقابل اللحم ) فهو غالبا مايكون صورة امرأة جميلة مغرية تظهر في الكثير من الاعلانات كالسيارات والعطور .. او من خلال مظاهر القوة الرجولية والفروسية ومشاهد الحيوانات القوية كالنمور والاسود دون ان يكون لتلك المشاهد اية علاقة مباشرة بالسلعة المعلن عنها .كعلاقة اعلان عن مياه معدنية أو غازية بالمرأة !!! او اعلان عن سجائر برعاة البقر او رواد الفضاء !! .

هكذا يخلق الاعلان لدى المستهلك نوعاً من التواطؤ مع السلعة او غيرها دون اية مبررات منطقة سوى مايستدعيه ظهور تلك السلعة في واجهة العرض عند شعورنا بالحميمية تجاهها اكثر من سواها ، كون منظرها يستدعي تلك الومضة من الشعور بالدهشة واللذة نحو تلك الصورة او غيرها

يقول خبراء صناعة الاعلان ان هذا التأثير يكون مضاعفا ان وجدت علاقة ما غير مباشرة في الاعلان بين السلعة المقصودة والمؤثر الشرطي البسيط كعلاقة العطور والشامبو بالمرأة والاحذية الرياضية بسباق السيارات

لقد ساعد التقدم التقني للاعلان على التطور الى مرحلة جديدة في تطبيقه لنظرية بافلوف المشار اليها . فصار الاعلان لايرمي الى اقناع الزبون بل الى انتزاع انبهاره ، وبدل من اسلوب الشرح ساد اسلوب الايحاء ، فاختفت تلك الاعلانات الجدية والتفسيرية وحلت محلها اعلانات تستفز الغرائز لدى المتلقي / المستهلك ، وتستلب قدرته على اتخاذ القرار الصائب

واستدعى ذلك اللجوء نحو اعلانات مكثفة وجذابة وقصيرة جداً ( لحظية ) .. ويدرك خبراء الاعلان اهمية اقامة دعاياتهم مع مايبدو انه اراء مسبقة للجمهور المتلقي مستندين الى احدى قواعد علم النفس التي تقول ان الانسان يفضل دائما تدعيم ارائه الذاتية وتقوية ذلك الاحساس المريح لديه بانه كان على حق ، او ان الامر معروف لديه ومتأكد منه . وينجح المعلنون بذكاء بالايحاء للناس باراء وحاجات سيعتبرونها فيما بعد اراءهم الخاصة ، وهذه الاراء هي التي يجري تركيب الاعلان عليها اثر ذلك ، ليجري التعامل مع السلعة المقصودة وكأنها لبت امراً موجود اصلاً في افكار المتلقي / المستهلك.

اضافة الى ذلك تعتمد سيكولوجية الاعلان على مايعرف اليوم بالسيوسيولوجيا ( بغريزة القطيع ) التي يجري الاستناد اليها لتطبيق قاعدة مهمة وهي الاجماع والعدوى.

حيث يفضل جميع المعلنين الايحاء دائما بأن الجمهور كله يستخدم السلعة المعلن عنها ويفضلها على سواها ، ادراكا لحقيقة ان معظم الناس يحرصون باستمرار على التناغم مع الآخرين.

ونادراً ما يتجرؤون على تعكير الانسجام المهيمن عليهم . والطريف في هذا السياق ان قدرة المعلن على تركيب (وهم الاجماع) هذا يجعل مايسمى بالرأي العام ليس اكثر من مجرد امتثال لفكرة قصدها المعلن مسبقاً ، ونجح في تكوين انطباع لدى الكثيرين بأن الرأي الذي يحملونه حولها هو الرأي العام.

يدرك صانعوا الاعلانات ان المتلقين اليوم يعانون من الشك في انفسهم ومن الاكتئاب الذي يشدهم بشكل عفوي نحو اولئك الذين يبدون وكأنهم مالكين لاسرار السعادة الابدية ويحظون دون غيرهم بحق الشهرة والبطولة وبمفتاح المستقبل فيلجؤون الى استخدام نجوم السينما والتلفزيون والرياضة وحتى بعض السياسين للتسويق التجاري.

هكذا تظهر مادونا ، واليسا ، ونانسي عجرم وغيرهن في اعلانات عن المشروبات الغازية او الشامبو او غيرها … بينما يظهر ستالوني في اعلانات عن شفرات الحلاقة مثلا.

تقول احصائية ان الانسان في بلاد تتركز فيها الاعلانات يكون شاهد 1800 ساعة اعلان عندما يبلغ الثامنة عشر من عمره اي انه يقضي سنتين من عمره في مشاهدة الاعلانات … أليس ذلك وقتا كافياً لتشكيل السلوك البشري !!! ؟؟؟؟