أخبار عاجلة

دكتور عمرو منير يكتب: المرض النفسي في المجتمع الغلط

يعتبر تطور التكنولوجيا الحديثة من أهم المتغيرات التي طرأت على الحضارة البشرية في صورة نقلة نوعية ثورية في الاتصالات و النقل والتواصل الاجتماعي من خلال شبكة الإنترنت الدولية مما جعل البشرية في حالة ضغط عصبي ونفسي مستمر .. أدى إلى انتشار واسع لحالة عارمة من القلق والتوتر و التي تدعمها أيضًا زيادة متطلبات الحياة المادية و قلة الموارد مما صنع جبلا جليديا من المرض النفسي تظهر فقط قمته الصغيرة بينما قاعدته تجثو خفية في الأعماق كقنبلة موقوتة تهدد البشرية والعالم أجمع …..
في أوطننا العربية ذات الطبيعة الخاصة المحافظة – و بالرغم من ظهور أمراض نفسية متنوعة من قلق وتوتر وفوبيا و اكتئاب و رهاب اجتماعي بشكل مطرد في الآونة الأخيرة – إلا أن التعامل المجتمعي مع هذه الأمراض لا يزال يتصف بدرجة متدنية من الإيجابية والاحترافية نظرًا لوجود العديد من الحواجز الثقافية و المجتمعية التي تجعل تلك النوعية من الأمراض عارا مجتمعيا و سبة في جبين أي أسرة يعاني أي فرد فيها من مرض نفسي ما بالإضافة إلى إلصاق تهمة ضعف الإيمان بالله و اختلال العقيدة بالمريض في حين أن المرض النفسي علميا وطبيا هو نتاج مجموعة من الأسباب الجينية و الظروف الاجتماعية الضاغطة و أخطاء التربية تؤدي جميعها إلى حدوث اختلال كيميائي في النواقل العصبية كالسيرتونين و النورادرينالين و التي تحافظ في الوضع الطبيعي على الثبات النفسي للإنسان وقدرته على تحمل الضغوط و أعباء الحياة مما يبرئ المريض من نقيصة ضعف العقيدة والثقة بالله …..

من الظواهر الملفتة والتي يلاحظها أي متابع بعناية للسلوك المجتمعي المصري في التعامل مع تلك الفئة من المرضى هو محاولة إنكار وجودها من الأساس و محاولة تفسير تلك الحالات النفسية المرضية بظواهر غيبية و تفسيرات من التراث الشعبي مما يدفع أهل المرضى إلى اللجوء إلى رجال الدين و للأسف الشديد الذهاب الى بعض المشتغلين بالدجل والشعوذة بحثا عن علاج لتلك الحالة المرضية بدلا من اللجوء إلى الطبيب المتخصص في علاج الأمراض النفسية والذي يعتبر الاستعانة به اعتراف ضمني بوجود هذا المرض في العائلة مما قد يشكل خطرا على الشكل المجتمعي لتلك الأسرة والتي قد توصم بسبب وجود هذه النوعية من الأمراض مما يعرضها للتنمر و الاستهجان…..

كل ما سبق يؤدي بطبيعة الحال إلى التأخر في علاج الأمراض النفسية بشكل طبي خصوصًا أن علاج هذه النوعية من الأمراض يتطلب تضافر جهود طبيب نفسي مؤهل يصف العلاج الدوائي المناسب و معالج نفسي يعيد تأهيل المريض معرفيا و سلوكيا حتى يستطيع التغلب على مصاعب الحياة ومواجهة مخاوفه و التي أدت إلى ظهور المرض النفسي في الأساس بالإضافة إلى أهمية دور الأسرة المحيطة في تقبل المريض و احتوائه و دعمه النفسي بشكل مستمر مع التأكيد على دور الدين والعقيدة في تقوية الحالة الروحانية للمريض وتقليل قلقه و افكاره السلبية ……

تأخر علاج المرضى يؤدي في معظم الأحيان الي تفاقمها و انتقالها من مرحلة بسيطة إلى مراحل أكثر تركيبا قد تدفع المريض إلى الانتحار أو اللجوء للإدمان للخروج من تلك الحالة النفسية السيئة و في كلتا الحالتين تكون النتيجة كارثية على المريض و أسرته ومجتمعه بالرغم من قدرة العلاج الطبي على شفاء مرضى تلك الاختلالات النفسية بشكل كامل في أغلب الحالات مع توافر أجيال متنوعة من العلاجات الدوائية الآمنة الناجحة والغير إدمانية الطبيعة و يستطيع المريض أن يقلع عنها نهائيا بعد أن تتحسن الظروف المحيطة به ويتقبل مخاوفه و ضغوطه ……

من كل ما سبق…

نستطيع أن نستنتج أن التوعية المجتمعية والتثقيف الإعلامي للأفراد بطبيعة المرض النفسي و أسبابه و كيفية التعامل معه هو أهم خط دفاع أمام استشراء تلك الأمراض النفسية في مجتماعاتنا المحافظة دون علاج بالإضافة إلى حماية المرضى من السقوط في دائرة الإدمان أو التعرض للاستغلال المادي والمعنوي من الدجالين والمشعوذين و لا ننسى دور الدولة المتمثل في تبني تلك الحملات التثقيفية و سن القوانين الرادعة ضد التنمر المجتمعي الذي يجعل المرض النفسي بمثابة خطيئة أو وصمة عار في جبين أي أسرة تضم بين أفرادها شخصًا يعاني من تلك النوعية الثقيلة الوطء و التي تجعل صاحبها يرى العالم من خلال ثقب أسود بلا نهاية …..

د. عمرو منير محمد أستاذ مساعد طب وجراحة العين … كلية طب سوهاج