أخبار عاجلة

محمد عبدالله الخولي يكتب: “تجلياتُ السردِ في البناءِ الشعريّ” في قصيدة “كُلْ بِعَقْلِي قطعةَ سكَّر” للشاعرة/ سارة الشريف 

 

ينفتح النص الشعري انفتاحا يسمح له با ستدخال الأجناس الأدبية الأخرى فيه، وتذويبها في بنيته الفنية؛ إذ يبقى الشعر مهيمنًا بسلطته على سائر الأجناس الأدبية التي يستدعيها؛ لتتمازج معه في إطار فني واحد يتصدره الشعر، ويبقى متعاليا على سائر الأجناس الأخرى بتلك السلطة التي تتأبى على غيرها. فعندما يتحول النص الشعري فضاءً للحكي عبر بنية سردية يستلزم استدخالها لإتمام الفعل/ الحكاية، يقوم الشعر عبر تقنياته الإبداعية بصهر البنية السردية المستدخلة قسرا في النص، وتطويعها للغاية الشعرية، ولا تكون تلك البنية السردية/ الحكائية إلا وسيلة من خلالها يصل المبدع إلى مبتغاه.

ولقد أشار” كريس بالديك” (chris Baldick) إلى إمكانية استخدام مصطلح “السرد” في نطاق الشعر، وأطلق على ذلك المصطلح “الشعر السردي” وعرفه بأنه ” ضرب من القصائد التي تحكي القصة بطريقة مختلفة عن الشعر المسرحي والغنائي” ويعتبر هذا تأسيس لمصطلح ” الشعر السردي” الذي يستدخل الحكاية في فضائه الخاص، ليعرضها بطريقة مغايرة للحكي المباشر عن طريق البناء الشعري، ويتعبر هذا استدخال للأجناس الأدبية في النص الشعري. ولكن الشعر بسطوته يجعل تلك الأجناس تتماهى معه وتنصهر فيه، ويبقى الشعر متربعا على عرشه النصي، فارضا سلطته على كل الأجناس الأدبية المستدعاة إليه.

وهذا النوع من الشعر والذي أعني به “الشعر السردي” أو “الشعر المسردن” يحتاج إلى مبدع من نوع خاص، يمتلك القدرة الفنية التي تؤهله أن يستدخل أي جنس أدبي إلى الفضاء الشعري، شريطة ألا يطغى الجنس الأدبي المستدعى على شعرية النص وغاياته الجمالية والفنية.

ومن هذه النصوص التي استدعت الحكاية وبناءها السردي في فضاءاتها الشعرية قصيدة ” كل بعقلي قطعة سكر” للشاعرة القديرة “سارة الشريف”، والتي استطاعت بحرفية شعرية، وتأنق لغوي، ومهارة تركيبية، أن تستدعي الحكاية وبناءها السردي في نص شعري متفرد، تبزغ فيه شمس الشعر ولا تغيب، ويبقى السرد المحكي وسيلة النص لا غايته، فقد استطاعت “سارة الشريف” أن تطوع السرد بآلياته وتقنياته النصية وتخضعه للشعر؛ لينماز نصها بجماليات الشعر، وليس بتجليات السرد فيه.

تقول “سارة الشريف” :

“كُلْ بِعَقْلِي قطعةَ سُكَّر”

 

عزيزي..

أتذكّرُ عندما التقطنا صورة لنا

ذاك اليوم..

كانت هناك شجرةٌ

تحوَّلتْ إلى إطار

واحْتَضَنَتْنَا.

عنوان القصيدة ” كل بعقلي قطعة سكر” استعارة حية دارجة على ألسنة العامة والخاصة، نستحضرها في مواقف معينة تتخلل الخطاب اليومي، ولكنها تستحضر الألفة والمودة في سياق الحديث بين المتحابين، ولا تحيل تلك الاستعارة إلا على نوع من الملاطفة والمجاملة في الحديث بين المخاطبين، وأظن أن هذه الاستعارة الحية منتشرة متشظية في كل لغات العالم في مواقف تشبه ما سردناه عنها تماما.

” كل بعقلي قطعة سكر” عنوان أظنه يمتلك القدرة على أن يكون عنوانا لقصة قصيرة، أو رواية، لأنه يستدعي حدثا فعليا تشير إليه تلك العبارة، أو حكاية يبتدرها الرواي بعنوان يظنه مرتكزا حكائيا لمتن النص. ولكنه هنا على النقيض المتوقع، فهو عنوان لنص شعري نثري، تبتدره “ساره الشريف” بــ “عزيزي” تلك المفردة التي تشق طريقها نحو الرسالة وكأن النص الشعري الذي استدخل السرد في بنيته الفنية، يتخذ من الرسالة هيكلا شكليا له عبر بنائية الكتابة الخطية. ولا يستبعد أن يكون النص الذي نحن بصدده عبارة عن رسالة ترسلها “سارة الشريف” لعزيزها. ويؤكد ذلك المفردة التالية ” أتذكر” تذكير بالماضي واستحضار لزمن ماضوي يتجلى في “عندما”، “التقطنا”، “أول” ثلاث مفردات متتاليات تنم عن ماضوية الحدث، وانقضاء فعل الحكاية في الزمن المنصرم. وهنا يتجلى الحدث الأول من الحكاية ” التقاط الصورة” واستحضار خلفيتها “الشجرة” التي تحولت إلى إطار احتضن المشهد وظل ثابتا في الخلفية “الشجرة” تلك الشجرة التي عبر التقاط الصورة استوقفت الحدث الماضوي في إطار الزمن المتوقف عنوة في الصورة الملتقطة، عند اكتمالية المشهد باحتضان الشجرة لهما.

تستدعي “سارة الشريف” مقولة من مقولات الكاتب المصري “أحمد بهجت” : ” إن العطاء هو أول عطر يخرج من شجرة الحب” تستدعي “سارة” الشخصية ومقولتها المركزية في النص، فتلك المقولة/ العبارة هي نقطة ارتكاز النص أو نص مواز مستدخل في النص الأصلي ليتموسق معه تركيبا ولغة وبناء وغاية. واستحضار شخصية الكاتب/ أحمد بهجت في النص هو حضور اسمي لا مردود له في النص، سوى اعتباره شخصية ثانوية تتآزر مع شخصية الأب “تيرير” تلك الشخصية المستدعاة من رواية العطر للروائي ” زوكسيند” والتي اعترضت “سارة” على مقولته التي استنزلتها ” سارة” من متن رواية العطر إلى نصها المدهش، ليكون بين الشخصيتين اللتين استدعتهما الشاعرة صراع في حدث اصطنتعه “سارة الشريف” يقوم على أساس التضاد المتخيل لديها بين المقولتين. فالعطاء هو أول عطر يخرج من شجرة الحب” كما قال “أحمد بهجت” وهذا هو ما تراه وتتسق معه الشاعرة. فالحب عطاء نتنسم عطره من تلك الشجرة.

فالشاعرة تنتمي أيديولوجيا لفكرة العطاء المتبادل بين المتحابين، هذا العطاء الذي يتعالى على أي كيان مادي، هو فقط عطر ينبعث من شجرة المحبة، يختلج النفس ويتخلل الروح لا تمنعه الأبواب الموصدة من الوصول إلى المحبوب. فالعطر الذي يتحدث عنه الكاتب “أحمد بهجت” يعبر الحدود لا ينتظر قرع الأبواب، ينفذ من مسامات العاشق وينسرب إلى قلب المحبوب عبر ثقوب الروح. أما الأب “تيرير” يستلزم عطاؤه قرع الأبواب ..، وهذا ما لم تقتنع به” سارة الشريف” فهي تفتح بابها دائما في انتظار العطر/ العطاء، مفردة العطاء تتعالى دلاليا على فكرة الطلب؛ إذ لا يكون العطاء إلا بعد استجداء المعطي، ولكن العطاء العطري الذي تتغياه “سارة” هو عطاء دون طلب، عطاء المحبة، بذل المحبوب روحه وعطره لحبيبه، فالعطاء إن كان بعد طلب فهذا يتنافى مع فكرة الشجرة التي ينبعث عطرها طواعية دون إكراه أو طلب. تقول “سارة الشريف”

قرأتُ اليومَ بالصدفةِ

إن “العطاء هو أول عطر يخرج من

شجرةِ الحبِّ”

لأحمد بهجت

العطاء..

العطر..

الحب..

هذا المثلثُ.. وبهذا الترتيب يعرف

الحب.

هذا المثلث البسيط ذكَّرَنِي بروايةِ

“العطر” لصاحبها “زوكسيند” .

هرعتُ سريعًا أبحث عنها ما بين

أرفف مكتبتي لأتصفّحَها من جديد.

يقول الأب تيرير:

[ عندما يقرع هذا الباب.. فلابد أن الأمر

يتعلق بالمال..

تمنيت لو أفتح هذا الباب مرة لأجدَ

إنسانا يطلب شيئا بسيطًا، عرفانًا بالجميل،

بعض الفاكهة مثلًا، أو بعض المكسرات.

ففي الربيع هناك الكثير مما يمكن

للإنسان أن يجلبه. بعض الأزهار مثلًا.

أو حتى أن يأتي أحدهم ليقولَ

حياكَ الله.. أتمنى لك يوما سعيدًا]

لا حاجة لك لقرعه.

ولا أتفق مع الأب “تيرير”…

لا تجلب شيئا معك.

 

” لا تجلب شيئا معك” تسامي الذات العاشقة عن الطلب/ الرغبة، فقط تريدك أنت، عطرك فقط “عينين ضاحكتين” تأكل منهما ولا تشبع. ابتدرت الشاعرة النص بعنوانها الذي يصلح أن يكون مفتتحا عنوانيا لقصة قصيرة، تستدعي حدثا ماضويا تم اختزاله في مشهد تصويري توقف معه الزمن وهو ملتبس بإطار الصورة، لا يستطيع الزمن الفكاك من هذا المشهد، ولكن الشاعرة باحترافية واقتدار تحرك هذا المشهد وهو تولد الصراع المقولاتي بين أحمد بهجت والأب تيرير المستدعى من نسق روائي، لينبني الصراع المتخيل في فضاء الذات المبدعة، ومن ثم تفتح بابها لينسرب العطر المنبعث من شجرة الحب، وكل هذا مغلف بهيكل نمط الرسالة المرسلة إلى عزيزها الذي لا يأتي عطره مع أن الباب مفتوح، والشاعرة في حالة انتظار دائم. ثم يعلو صوت الشعر وهو متوشح بعباءة الصوت السارد الذي يعلو في أفق الفضاء الشعري، ذلك الصوت الذي يستكمل الفعل الحكائي عبر سرديته المتمايزه في الفضاء النصي الشعري. وتستحضر الشاعرة العنوان مرة أخرى بعدما تم استدخاله في النص في هيئة تركيبة ملتبسة بالنص” كأن تأكل ما تبقى من عقلي بقطعة سكر أو ملح” فهي راضية بسكره وملحه، تضاد مدهش للغاية ينم عن إبداع متفرد للذات الشاعرة، فهي تفتح بابها بيد أن العطر لا يمنعه غلق الباب ولا هو مرتهن بفتحه. بل تصل الشاعرة إلى حالة من الانغماس والتعشق في عزيزها، فسكره وملحه سواء، فقط هي تنتظر عطره/عطاءه أيًّا كان، هذا العطر الذي يستطيع أن يستحوذ على ما تبقى من عقلها، فهي في حالة تآكل فكري، تتنازعها بنات أفكارها، تشتتها، تنقلها من متاهة إلى أخرى، هي فقط تبيع ما تبقى من انتظارها بقطعة حلوى أو حبة ملح تأتي عطاء من محبوبها الذي يتأبى عليها أو يتمنَّع. تقول “الشريف” :

عرفانًا بالجميل

هو أن تأتي

بعينين ضاحكتين

عينين آكل منهما ولا أشبع.

عرفانًا بالجميل

هو أن يسبقك عطرك

بخطوات

كافية ليتدفق الدم في عروقي

ويسبقني عقلي

عند الباب.

حالة من التماهي والتعشق تتبدى في رغبة الذات في حضور حبيبها ذاتا وروحا، “يسبقه عطره” مفردة العطر هنا تنسلخ من فكرة العطاء المتغيا التي هيمنت على النص..، حالة أخرى وعطر أخر، عطره هو وجوده حضوره ،هو غاية الذات الشاعرة التي تنتظر شيئا سوى محبوبها، حالة من التجرد نداء مستمر، سرد متواصل يتعانق مع الشعر لتتبلور الغاية النصية المقنعة خلف هذا البناء الفني. يتخافى صوت السرد ويتجلى الشعر تركيبا وبناء؛ ليواصل مهمته وغايته. ويبقى الصوت السردي همسا في ضجيج صدى الدلالات الشعرية التي تتقافز على سطح الخيال، ثمة تراكيب تخللت المشهد الأخير ليتجلى الشعر بعد أن تخافى عمدا في البنائية السردية للنص:

عرفانا بالجميل

اجعل اليوم سعيدا

بأشياء بسيطة

كأنْ تبل ريقي

بكلمة

أشتهيها منك دائمًا.

كأنْ تأكل ما تبقَّى من عقلى

بقطعة سكرٍ

أو..

حبةِ مِلْحٍ

قبل أن تأكله أفكاري وبناتهنَّ.

خروج من إطار الحدث الماضوي المتمثل في مقطوعة النص الأولى، حيث توقف الزمن في إطار المشهد، تبتدئ الشاعرة تحريك المشهد بالفعل المضارع “يجتمع” و “واو” المعية التي تتموسق مع الفعل المضارع، خروج من إطار الزمن الماضي وخلفية المشهد/ الشجرة، تحرر من ربقة القيد الزماني والمكاني، ربما تريد الشاعرة أن تلتقط مشهدا آخرا على أي رصيف بصحبة فنجان القهوة وحديثها مع عزيزها المستدعى للنص، ولكنه يأبى الحضور الفعلي فيه. نحن أمام حدث ماضوي تسترجعه “سارة الشريف” ليكون فاتحة للزمن المضارع الحالي، تستدعي الآخر لتكتمل الصورة مرة أخرى على أي رصيف بصبحة فنجان القهوة. فهي ما عادت تنتظر فاتحة بابها في انتظار عطره، ولكنها خرجت إليه تستقبله، فلا باب يمنع ولا جدران تحيل بينه وبينها، وإنما هي في المطلق حالة من التحرر المكاني، تستفزه رغبة ليأتي إليها، ولكنه لايزال يتأبى على الحضور، مشهد حكائي لا نهاية له، وربما الشعر وقف حائلا بين الحكاية ونهايتها، ليثبت الشعر وجوده النصي المتعالي، فإن كان القارئ اعتاد أن لكل قصة نهاية، فالشعر لم يرتضِ ذلك، وجعل نهاية النص مفتوحة، ليفتح آفاق التأويل أمام المتلقي. هكذا استطاعت الشاعرة الكبيرة “سارة الشريف” عبر بنائها الشعري أن تستدعي الحكاية وبناءها السردي، مستدخلة نمطية الرسالة إذ جعلتها هيكلا شكلا فنيا للنص الشعري، وهذا ينم عن اقتدار الشاعرة وفرادتها الإبداعية، فقد زواجت بين الأجناس الأدبية بصورة فنية متعالية وجعلت من الشعر سلطانا على كل هذه الأجناس، التي انمحقت تحت سلطته.

عرفانًا بالجميل..

أن يجتمعَ حديثُكَ

وفنجانَ قهوتي

و..

وأي رصيفٍ

ولا بابَ لنا لنقرعه.

نخبِّيءُ الكثير من الضحكات

في جيوبنا

لكي

لا..

تكون فارغةً تماما

من..

كل شيء..

ونبتسم في وجه الريح

ونلتقط الصورَ

نكايةً بها.

أحبُّكَ..

ليست كلمة

إنها عطر يرشه قلبي

ليمتليء به.