أخبار عاجلة

المتنبي على أريكة التحليل النفسي للدكتور: خالد محمد عبدالغني

لا يتفق العلماء في نسبه إلا على اسم أبيه الذي كان يعمل سقاء في الكوفة فقط، وتتعدد الآراء فيما وراء هذا النسب، وينسبه بعضهم إلى قبيلة جعفى اليمنية وإن اعتبره محمود شاكر علوي النسب ينتمي لعلي بن أبي طالب ، واعتبره طه حسين من القرامطة . ومع ذلك كان المتنبي يكتم نسبه، وعندما سُئل عن سبب ذلك قال: «إني أنزل دائماً على قبائل العرب، وأحب ألا يعرفوني خيفة أن يكون لهم في قومي تِرَة». هو أحمد بن الحسين بن عبد الصمد الجعفي الكوفي الملقب بأبي الطيب المتنبي.
ولد في الكوفة في محلة كِندة منها، ولذلك ينسبونه أحياناً فيقولون: «الكندي» نسبة إلى هذه المحلة لا إلى القبيلة العربية المعروفة «كندة». كان أبوه سقّاء يبيع الماء في الكوفة، وحاول خصوم أبي الطيب المتنبي أن ينالوا منه بتعييره بهذا المنبت الوضيع، ويبدو أنه كان يدرك هذا ويحاول أن يتجنبه بالفخر بنفسه لا بنسبه، وكان يغلو في أمر نفسه مفاخرا بها ومزدريا عائبيه كرد فعل معكوس لضعف نسبه ، وكان أيضا حسن الرأي في نفسه خبيرا بالناس شديد الازدراء لهم ، وأن غرور المتنبي قد أثار خصومه ، وقد أفسد ما بينه وبينهم إفسادا ([1]) كقوله:
لا بقومي شَرُفتُ بل شَرُفُوا بي
وبنفسي فَخَرْتُ لا بجدودي([2])
وهناك من ينسبوه إلى العلويين نسبا ومنهم من ينسبونه إلى القرامطة ومنهم من شك في أصله ونسبه جملة وتفصيلا، وقد كانت وضاعة النسب هذه من أهم عناصر تكوين شخصيته بل وإحساسه بالنرجسية المفرطة مقابل الدونية المفرطة وكأنها تكوين عكسي كما تقول بذلك نظرية التحليل النفسي .
ادعاء النبوة
لا تذكر المصادر شيئاً عن طفولته ونشأته الأولى، وهذا أمر متوقع. توفيت أمه وهو صغير، فكفلته جدته وقامت على تربيته، وكان يذكرها في شعره، وعندما أصبح يافعاً ارتحل إلى البادية فأقام فيها سنتين، وبذلك نشأ نشأة بدوية، ثم عاد إلى الكوفة ولازم العلماء والأدباء والورّاقين (ناسخي الكتب) فأفاد منهم علماً متنوعاً غزيراً. وارتحل مع أبيه إلى بلاد الشام ووصل إلى عدد من مدنها. وكان المتنبي كثير المشي، يسير سيراً شديداً، وكان خبيراً بطرق البوادي ومواقع المياه، مما أعانه على ذلك، وقدم إلى اللاذقية وهو في نحو العشرين من عمره، فأُعجب الناسُ بفصاحته وحُسنِ سمته، ويقال: إنه نزل على أبي عبد الله معاذ بن إسماعيل اللاذقي؛ وادّعى أمامه أنه نبي، ولما أنكر عليه ذلك قال له:
مثلي تأخـذُ النكباتُ منـه
ويجزعُ من ملاقـاةِ الحِمام
ولو برز الزمانُ إليَّ شخصاً”
لخضّبَ شعرَ مَفرِقه حسامي ([3])
وقدّم له بعض ما يزعم أنه من معجزاته، فتبعه هو وأهله. ولما افتضح أمره قبض عليه والي حمص؛ وأودعه السجن، فأرسل إليه المتنبي أبياتاً يعلن توبته ويذكر أمه:
بِيَدي أيها الأميرُ الأريبُ
لا لشيء إلا لأنـي غريـبُ
أو لأمٍّ لهـا إذا ذكرتْنـي
دمعُ قلبٍ بدمعِ عينٍ سـكوبُ
إن أكن قبلَ أن رأيتك أخطأتُ
فإني عـلى يـديك أتـوبُ ([4])
وقيل في سبب ادّعائه النبوة أقوالٌ أخرى، من ذلك أنه قال: لُقّبتُ بالمتنبي لقولي:
أنا تِربُ الندى وربُّ القوافي
وسِـمامُ الـعِدا وغيظُ الحسودِ
أنا في أمةٍ تداركهـا الله
غـريبٌ كصالحٍ في ثمود ([5])
وبعد أن أطلق سراحه، حاول الوصول إلى عدد من أمراء بلاد الشام ومدحهم، أمثال التنوخيين؛ الذين خلّدهم في قصائده، من ذلك ما قاله في رثاء محمد بن إسحاق التنوخي. والحق أنه قد أصابته علة الغرور والاضطهاد والنرجسية وكل أقواله في نفسه من عزة وكرامة وفروسية ما هي إلا قول شاعر يبالغ في بيان قيمة نفسه وليس إقرار لواقع .
ومع هذا كله فالعقاد ومحمود شاكر وطه حسين ينكرون جميعا ادعاء المتنبي للنبوة ويرونها من مكائد الحساد وبخاصة من الشعراء ويقول طه حسين : وأنا لا أتردد في رفض ما يروى من أنه ادعى النبوة وأحدث المعجزات أو زعم إحداثها وضلل فريقا من عامة الناس وخاصتهم فبايعوه واتبعوه ” ([6]).
ودعونا نذكر بعض مظاهر أخرى للنرجسية في شعر المتنبي إذ يقول في صباه:
أمط عنك تشبيهي بما وكأنما
فما أحد فوقي ولا أحد مثلي([7])
إن هذا البيت مربك في شرحه بالرغم من وضوح المعنى المراد للدلالة على النرجسية، ويمكن تعميق هذا الطرح بأبيات أخرى يتجلى فيها الاعتداد بالنفس بصورة مكشوفة جداً حيث يقول أيضاً:
أي محـل أرتـقي
أي عظيم أتقـي
وكل ما خلق الله
وما لـم يـخـلق
محتـقـر عن همتي
كشعرة من مفرقي([8])
فأبو العلاء المعري – مثلاً – في شرحه لهذه الأبيات، اكتفى فقط بإعادة كتابتها نثراً، وذاك أن معنى الأبيات لا يكتنفه الغموض حيث يقول: “أي محل أرتقي إليه؟ فلا مزيد فوق ما أنا عليه فأصير إليه، وأي عظيم أخشى منه؟ وكل شيء خلقه الله وما لم يخلق بعد، هو محتقر عند همته”. كما كان المتنبي يزدري الشعراء الذين يحاولون بلوغ الشهرة من خلال التعرض له، فقال فيهم:
أفي كلِّ يومٍ تحت ضِبْني شُوَيعِرٌ
ضعيفٌ يُقاويني قصيـرٌ يُطاوِلُ
لسِانِي بنُطْقِي صَامتٌ عنه عادِلٌ
وقلبي بصمتي ضاحكٌ منه هازِلُ ([9])
ونخلص إلى نتيجة مفادها أن المتنبي أحس بتفوقه وسط محيط اجتماعي كان يحس فيه بنقص اجتماعي وشعور قوي بالدونية ومن ثم أصبحت مشاعر النرجسية تعويضاً عن هذا النقص، وتضميداً لجرح الإحساس بالاضطهاد “فالذات تمعن في احتضان ذاتها كلما أوغل الواقع في إحباط النزعات الفردية”.
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها واختصم ([10])
إلا أن هذه النرجسية ليست سلبية دائماً خصوصاً وأن مفهوم الرجولة يتصدر قائمة القيم الاجتماعية في القبيلة العربية والاعتزاز بالأنا موضوع متواتر بشكل كبير في الشعر العربي. وقد جاء المتنبي ليجسد “نرجس” الأسطوري في أرض الواقع العربي. وأن هذا التجسيد الذي أفضى بالأنا حد التضخم ليعد جانباً مهماً لإضاءة سر ارتباط العرب بشاعرهم المفضل.
ويصوغ المتنبي قولا أملاه الغرور وصاغه الكبرياء ووضعه جموح شاعر عن أمه فيقول :
ولو لم تكوني بنت والد
لكان أبك الضخم كونك لي أما([11])
وعن أبيه يقول:
أنا ابن من بعضه يفوق أبا الباحث
والنجل بعض من نجله
وإنما يذكر الجدود لهم
من نفروه وأنفدوا حيله([12]).
والمتنبي قد تأثر بنشأته واستجاب لها بشدة كما عجز عن التكيف مع ما يحيط به فتمرد عليه، وقد أصابه طموح جارف في ظل فساد سياسي وتضخمت شخصيته وتشجع على الثورة التي تبنت ضرورة إعادة توزيع الثروة على الناس ليتحقق العدل والمساواة بين الناس وكانت ثورة القرامطة مجالا خصبا انتمى له المتنبي وزاد من مغامرته ومطامعه ومخاطرته . وهو في الأغلب شاعر مأجور يمدح من يدفع له المال ويكثر له العطاء ويمنيه بالسلطان والملك فهو يمدح العرب وغير العرب فيقول في مدح بن العميد
يا من إذا ورد البلاد كتابه
قبل الجيوش ثنى الجيوش تحيرا
وبقية شعر المتنبي يغني لنلمس تلك النرجسية حيث يقول في موضع آخر:
فالخيل والليل والبيداء تعرفني
والضرب والطعن والقرطاس والقلم
صحبت في الفلوات الوحش منفردا
حتى تعجب مني القور والأكم ([13])
وقيل إن هذا البيت من الشعر قتل صاحبه، فخرج يوما إلى الصحراء عائدا من فارس سنة 354 ه إلى العراق وقابله قوم عدو له فسألوه ألست القائل وذكر البيت السابق؟ فقال المتنبي”بلي” فقُتِلَ المتنبي في حينه وتمت سرقة أمواله التي جمعها من كل طريق كما قتل ابنه محسدا، وبهذا تحققت أبعاد الأسطورة من حيث عشق الذات والعزلة وأخيراً الموت.