أخبار عاجلة

“محاولاتٌ لعبورِ الجسر” قصيدة للشاعر “محمد غازي النجار”

*محاولاتٌ لعبورِ الجسر*

( آه لوْ كانَ بيَدي إعادةُ تشكيلِ الماضي )

مِثلَ الليلِ المنقوعِ في كأسِكِ المتلألئِ
طفوتُ
وقلتُ:
أخلقُ لنفْسي ذراعَينِ ورِجْلَينِ
كيْ أستطيعَ المشيَ إلىٰ قلبكِ المُتّسِعِ بالخضرةِ المُشْمِسةِ والنسيمِ البكْرْ

غزلانٌ ووعولْ
وأشجارُ سِدرٍ
وموسيقىٰ صوفيةْ
درْبي إلىٰ عينَيكِ المُنوّرتَينِ
المغمورتَينِ في الإحساسِ والألماسْ

( آه لوْ كانَ بيَدي إعادةُ تشكيلِ الماضي )

إكليلُ الشوكِ علىٰ رأسي
ومشيتُ علىٰ ذراعِ الدربِ المتمردةِ
إلىٰ كتفِ جبلِ الطورْ
-صاعدًا إلىٰ سِدرةِ المُنتهىٰ-
فوقَ هامتهِ أستجلي النورْ

( آه لوْ كانَ بيَدي إعادةُ تشكيلِ الماضي )

صعدتُ فوقَ كتفيَّ
ونظرتُ عبْرَ قصيدتي
رأيتُني
رَغْمَ الحرائقِ المستعرةِ
والمدينةِ المدمَّرةِ بعدَ الحربِ
أؤلِّفُ سِرينادةً لعينَيكِ
كيْ أغنّيَها تحتَ شرفتِكِ
كالعشاقِ القدامىٰ
رأيتُكِ
رَغْمَ فوّهةِ المَدفعِ في مؤخّرةِ رأسي
ماشيةً في الضبابِ العابرِ
في ردائكِ الأسودِ
كانَ قلبُكِ ألماسةً تبرقُ
وفي شعرِكِ الأسودِ
كانَ وجهُكِ فتنةَ الأبدِ
علىٰ ذراعكِ قطُّكِ الأصمُّ
وكفُّكِ فراشةٌ
تَحطُّ عليهِ
تداعبُهُ
يا سيّدةَ الكائناتِ البَرّيّةِ والأليفةْ
وملِكةَ الغاباتِ الوديعةْ

( آه لوْ كانَ بيَدي إعادةُ تشكيلِ الماضي )

تَسحبينَ غابةً
والعواصفُ غيلانٌ تسعىٰ
وجريتُ إلىٰ قلبكِ
وقلْبي ألماسةً تبرقُ
يدِي في يدكِ
نَعبرُ مِنْ بينِها بسلامْ
ونَقبَلُ ما جادتْ بهِ
حتىٰ نروّضَها
ونرسلَها حمامًا
يعودُ إلينا بالغائبِ المُشتهىٰ

( آه لوْ كانَ بيَدي إعادةُ تشكيلِ الماضي )

يدِي في يدكِ
أقبّلُ بيْنَ عينَيكِ
ونلتفُّ
نركضُ
نهربُ
نتخفّىٰ
نَعبرُ الجسرَ
فوقَ هوّةِ الزمنِ الرابضةِ كالتنّينْ
إلىٰ
عالَمِنا الذي تخيّلناهُ طويلًا
ورسمتْهُ أناملُ بهجتِنا الحالمةْ

( آه لوْ كانَ بيَدي إعادةُ تشكيلِ الماضي )

لنا الأرضُ لمْ تطأْها قَدمٌ بَعْدُ:
النهارُ خطوتُك الأولىٰ.
والنهرُ الثانيةُ.
والثالثةُ نظرتُكِ الأولىٰ؛ إذْ وُلِدَ الحُلْمُ، وصارَ “الأوّلُ” وسْمَ الفريدِ، وخُلِقَتِ النجومُ مِنْ لألاءِ عينَيكِ، وعلىٰ صورتِهما المصابيحُ.
وفي الرابعةِ خطوْنا معًا؛ فاخترعْنا الرقصَ والموسيقىٰ.
وفي الخامسةِ نطقتِ: ها يَدِي…
فقلتُ: سمّيتُكِ “هايدي”!
والتحمتْ أصابعُنا؛ فنَما الأقحوانُ منْ ظلِّها مُحاكيًا صورتَها، ووُلِدَتِ الذكرىٰ والحنينُ توأمًا ومِنْ نسلهِما كانتِ المشاعرُ.
في السادسةِ قلتِ: أشتهي أنْ تعتليَني فلا أرىٰ سِواكْ.
فسَمَوْتُ؛ ووُلِدَتِ السماءُ وصارَ لها لونُ جسمِكِ ورائحتُهْ، وكانتِ القُبلةُ فعرفْنا بها مَصيرَنا وخُلِقتْ مِنْ رحيقِها الأزهارُ، وكانتِ النشوةُ فأدركْنا تاريخًا لمْ يُكتبْ وابتكرْنا مِنْ سُكرِها الخمرَ، وشَربْنا حتىٰ ابتدأَ العالَمُ الدورانْ.
وفي السابعةِ استقرأْنا واستنبطْنا فكانتِ الفلسفةُ، واكتملْنا فكانَ البدرُ، وتَوحّدْنا فكانَ الشعرُ.
مِنْ هُنا صارتِ “السبعةُ” رمزَ أبديّتِنا
وصارتِ السماواتُ سبعًا
والأرضونْ
والفنونْ
ومنازلُ الحُبِّ
وأعيادُ العشاقِ
وفصولُ السنةِ
وأيامُ الأسبوعِ
وساعاتُ اليومِ
وألوانُ الطيفِ
ودرجاتُ السلّمِ الموسيقي
ومشينَا
كُلُّ خطوةٍ أغنيةٌ
وأمنيةٌ محقّقةْ

لنا الهيئةُ الجديدةُ مستوحاةً مِنْ ذاكرةِ طائرِ الفينيقْ:
تيجانُ الهداهدِ
عيونُ الوعولِ
شَعرُ الخيولِ
جبهةُ النخيلِ
أجنحةُ العقبانِ
أرواحُ الجنِّ
أجسامُ البشرِ
بشرةُ اللوتسِ
صوتُ الموسيقىٰ
رائحةُ الأرضِ
سرعةُ الفهودِ
حكمةُ البومِ
صدقُ الأيائلِ
بهجةُ الدلافينِ
زهوُ الطواويسِ
مرحُ القططِ
مزاحُ الثعالبِ
وضحكاتُ الكراوينِ الطويلةْ

ووقفْنا أعلىٰ حدائقِنا المُعلَّقةِ مُترادفَينِ مُندهشَينِ
لا يُميّزُ أحدُنا الآخَرَ إلا بضوئهِ العاطرِ المُنبعثِ مِنَ القلبِ
وضحكْنا طويلًا حتىٰ أنشأتْ ضحكاتُنا قرًىٰ مُطمئنةً وأحلامًا للطيبينْ

لنا بساطُ الريحِ
يأخذُنا حيثُ شئنا
قبائلُ الريحِ تلبّي وتغنّي
والملائكُ تحرسُ أحلامَنا

لنا الارتحالُ مُقامٌ
والجوُّ مِهادٌ
والسحابُ مراكبٌ مواكبْ
خضراءُ حمراءُ صفراءُ زرقاءُ
تنشأُ كُلّما تبخّرتِ الأغنياتُ في الأرضِ والذكرياتْ
وتَهطلُ أخيلةً ورؤىٰ

لنا البيوتُ معمارُ السكينةِ
والطرقاتُ جميعُها تؤدّي إليكِ
والكائناتُ إخوةٌ لنا
مِنْ هذا الذي لا يُرىٰ
إلىٰ القناطيرِ الجسورةِ تبني عالَمَنا وتزرعُ حقولَهْ
مِنْ هذا الذي يقضي عمرَهُ أسفلَ صخرةٍ
إلىٰ الخيولِ المجنّحةِ تَحمي سماءَنا

لنا الليلُ القرمزيُّ مترقرقًا في جلالِ اللحظةِ والمنزلةْ
وسبعُ جبالٍ خضرٌ تَسكنُ الضحىٰ والغروبْ
تنبثقُ منها سبعُ بحيراتٍ تحلمُ بالإوزِّ والبجعِ ومراكبِ العشاقْ
والخزامىٰ ممددةً في السهولِ المعتمرةِ أكواخَها الزمرديةْ
تحلمُ بالرسّامينَ
وتحلّقُ فوقَها دوائرُ مِنَ الطيورِ الخرافيةْ

لنا الأنهارُ الجاريةُ في السماءِ مُضوّئةً بالألوانِ المبتكرةِ في خيالِ الشاعرِ الأخيرْ
علىٰ ضفافِها شجرُ الفرحِ المنهمرْ
علىٰ أغصانهِ كائناتُ اللؤلؤِ الطيّارْ
والنخيلُ مُسدِلًا صحائفَ القدَرِ الطويلةَ علىٰ كتفيِّ البراحِ السارحِ في المستحيلْ
والصفصافُ شلالاتٌ تُورِقُ منسكبةً بالأحلامِ تفتحُ أبوابًا منسابةً للعالَمِ الجديدْ
والسنديانُ مصابيحُ عملاقةٌ مصفوفةٌ علىٰ جانبيِّ كُلِّ حُلْمْ
وكنا نرفرفُ وننادي:
“أنِ اعبروا ولا تخافوا”
فتستحيلُ نداءاتُنا في مدىٰ العابرينَ فراشاتٍ وسنونواتْ

لنا البحرُ مليونُ عازفٍ
والنجومُ بلابلُ وعنادلُ تغنّي فوقَ الشجرِ والحجَرِ وسطوحِ المجرةْ
والأقمارُ أسماكٌ وحيتانٌ تتقافزُ في المدىٰ
والشاطئُ ساحةٌ للرقصِ البدائيّْ
فارقصي في الألوانِ علىٰ رمالِ الأغنياتْ
وارقصي علىٰ هضبةِ قلبي
وارقصي كيْ يلتمعَ الياقوتُ في الوَردِ
وينمو النباتْ

لنا مهرجانُ الطفولةِ المندهشةِ في أوجِ التفتّحِ الشاهقْ
وقشعريرةُ الجَمالِ في الجسدِ المتوحِّدْ
والطمأنينةُ التي غابتْ ثُمَّ عادتْ أحلىٰ

لنا اللغةُ البِكْرُ ونسلُها
ووهجُ المعاني النامياتْ
فاكتبي..
فاكتبي كيلا نموتْ
واكتبي هذهِ القصيدةَ علىٰ محرابِنا كيْ نبكي