أخبار عاجلة

د.خالد محمد عبدالغني : قدري حفني عالما وسياسيا ( الجزء الثاني )

الدراسة الأشمل للحياة الفكرية والسياسية للعلامة خالد الذكر الدكتور قدري حفني

* قدري حفني عالما وسياسيا *

بقلم / د.خالد محمد عبدالغني

الجزء الثاني :

وعن فهم دلالة افتتاح فونت لأول معمل يحمل اسم علم النفي في لايبزج عام 1879 يصبح مستحيلا إذا لم نفهم فونت المفكر والإيديولوجي والمناضل السياسي ، فقد كان فونت في النهاية فيلسوفا مثاليا يتبع فلسفة إرنست ماخ فقد كان غارقا في التفلسف حتى إذنيه قبل إنشاء معمله وكان ألمانيا متعصبا وكان سياسيا وكان أقوي دوافعه للانجاز العلمي كانت السياسة واهتم بالسياسة لدرجة انتخابه عضوا في المجلس النيابي لبادن ممثلا لمقاطعة هايدلبرج وكان مرتبطا بالحزب التقدمي الحاكم وموقفه من قضايا الصراع الطبقي والفسيولوجيا ورأي إن علم النفس يجب أن يكون تجريبيا واستخدم منهج الاستبطان وكان علم النفس يهدف في نظر فونت إلى تحليل العمليات الشعورية إلى عناصر. واكتشاف طبيعة الاتصالات بين تلك العناصر . وتحديد القوانين الحاكمة لتلك الاتصالات والروابط . وهكذا اختلطت أفكار العالم وجهوده ونتائج بحوثه بما يعتنقه من أفكار فلسفية ومذاهب سياسية ، ولا يختلف الأمر كثيرا بالنسبة إلى فرويد الذي تستحيل الإحاطة بدلالة نظريته في التحليل النفسي أو فهم طبيعة الخلاف المستعر بينه وبين مخالفيه إذا لم نتعرف على بنائه الفكري وطبيعة انتمائه السياسي والأمر كذلك بالنسبة لدلالة فهم وليم جيمس رائد علم النفس الأمريكي الذي يصعب فهم دلالة إسهاماته في مجال علم النفس دون الإحاطة بظروف سيادة الفلسفة البرجماتية على المناخ السياسي الفكري في أمريكا آنذاك كما أننا لا نستطيع أن نفهم إسهامات سكنر في مجال التعلم بمجرد الإحاطة بنتائج تجاربه على الحمام معزولة عن موقفه السياسي الفكري الذي أفصح عنه في كتابه المعنون “ما وراء الحرية والكرامة” (قدري حفني :2000).

وقدم رؤيته حول السلام الهجومي مع إسرائيل ليقول فيها : لقد ظللت أعواما طويلة منذ توقيع معاهدة كامب دافيد ثم اتفاقية السلام متبنيا لما أطلقت عليه آنذاك إستراتيجية السلام الهجومي, وفصلت في ذلك ما استطعت, وكان أهم ما حذرت منه أن حالة اللاحرب اللاسلم تكفل المناخ الأمثل لازدهار العدوانية الإسرائيلية, ولم تلق تلك الدعوة قبولا حكوميا ولا شعبيا, و كنت موقنا رغم حماسي للفكرة- أنه لا قيمة لها إذا لم تجد مساندة من تيار مؤثر داخل الصف الوطني, ومن ثم أخذت الفكرة في الشحوب تدريجيا خاصة أن العسكرية الإسرائيلية ظلت وما زالت- لا تألو جهدا في سحق أية بادرة تفوح منها رائحة سلام مهما خفتت حني لو صدرت عن يهود أو إسرائيليي (قدري حفني :2018)”
ثم كانت رؤيته حول الوحدة الوطنية وكيفية دعمها وتنميتها تربويا ونفسيا في المجتمع من خلال المدرسة فيقول : تقدمت بمشروع لمركز البحوث الاجتماعية والجنائية منذ أكثر من 25 عاما طالبت فيه بإضافة حصة للقيم المشتركة بين الأديان السماوية بجانب حصص الدين الإسلامي والمسيحي وبدأت أحلم بذلك فمثلا قيمة الصدق يأتي قسيس وشيخ ويتحدثان مع التلميذ، فالقسيس يقول ورد في العهد القديم أن الله يأمرنا بأن لا نكذب وأن المسيح قال كذا وكذا والشيخ يقول إن الرسول عليه الصلاة والسلام وصف بأنه الصادق الأمين وأن الرسل كلهم الناس صدقوهم لأنهم لم يعرف عنهم الكذب وهكذا، ثم بعد ذلك قدمنا المشروع لوزارة التربية والتعليم وفجأة دارت دائرة الانتقام واتهمنا بأنها مؤامرة لإلغاء حصة الدين اقترحنا بأن يتحدث الأستاذ الذي يدرس الدين المسيحي عن مبادئ الإسلام وبالمثل على من يدرس الدين الإسلامي إن يعطى نبذة عن قيم الدين المسيحي ولكن الفكرة رفضت. وأخيرا تبنت المشروع وزارة السكان ثم جاءت حادثة إحراق كنيسة وتوقف المشروع(قدري حفني :2018)”.

وقد أنتج قدري حفني -كما سبق وعرضنا لمجموعة من النماذج التي تؤكد قيمة إسهامه – عالما نفسيا ومفكرا سياسيا وسط تيارات سياسية واجتماعية واقتصادية متصارعة فيما بينها في مصر في منتصف الخمسينيات وكان لانتمائه للحركة اليسارية القاسم الأكبر من التأثير عليه في اهتمامه بتتبع نشأة وميلاد وتطور علم النفس وكان لفترة اعتقاله التي اقتربت من الأربع سنوات تأثير مهم في حياته وعنها يقول : أثناء فترة الاعتقال تلك قمت بمراجعة فكرية لأفكار التنظيم الشيوعي ورفضت الاستمرار في العمل التنظيمي وإن بقيت في عقلي الأفكار الماركسية. ولعل هذا الفعل كان من أسباب قربه النفسي للماركسية والتحليل النفسي وفئة الفرويدببن الجدد وما قاموا به من مراجعة وتمرد على أفكار فرويد ولقد اهتم قدري حفني بفلهلم رايخ وإريك فروم وتناول حياتهم وأعمالهم بكثير من الاهتمام والمتابعة والعرض.
كما ترك التعذيب في المعتقلات أثره على جسمه ونفسه والذي وصفه بأنه نوع فريد من التعذيب يمكن أن نطلق عليه “التعذيب من أجل التعذيب حيث يجري التعذيب ليس للحصول على الاعترافات بل بهدف وحيد هو إذلال الضحايا وكسرهم، فقد تنقلت بين معتقلات القلعة وأوردي ليمان أبو زعبل والفيوم والسجن الحربي ومعتقل الواحات حيث تعددت ألوان التعذيب الفردي والجماعي بين الضرب والجلد وتكسير الحجارة إلى التجويع والعزل والتهديد فضلا عن الإهانات اللفظية ، وظل الحرمان من الزيارات مستمرا في كل الأحوال ، لقد كتب الكثيرون عن ذلك وليس لدى مزيد من التفاصيل التي يمكن إضافتها ما يعنيني في هذا المقام الإشارة إلى أن التعذيب في تلك المعسكرات خاصة أوردي ليمان أبو زعبل كان أشبه بالتعذيب الذي كنت قد قرأت عنه في معسكرات هتلر النازية فيما عدا أفران الغاز الشهيرة، وقد تؤدى عملية التعذيب المبرمجة تلك إلى خلق حالة من الاغتراب وانعدام المعنى وانهار البعض فعلا وسقطوا في هوة الاضطراب العقلي الصريح وكان نظام العمل في الأوردي يمنع الحديث بين المعتقلين وكان الحبس الانفرادي من أشد ألوان التعذيب ولقد مررت بخبرة الحبس الانفرادي أكثر من مرة (قدري حفني :2010).

لقد خرج قدري حفني من المعتقل بعد ما يقترب من أربع سنوات ليرفض عرضا قدمته له السلطة للعمل في الصحافة مفضلا العودة لعمله الأصلي أخصائيا نفسيا بمصلحة الكفاية الإنتاجية ولم نقرأ له في هذه الفترة – بعد الخروج من المعتقل – له سوى ثلاث مقالات تمثل عروض كتب أجنبية في علم النفس والتحليل النفسي منشورة بمجلة “المجلة” عام 1965، وقد سبقتها ترجمته لكتاب مشكلات الحياة الانفعالية 1959. ويبدو هنا أنه سوف يبدأ في الانشغال بقضايا علم النفس بعيد عن السياسة وما جرته عليه من ويلات، وربما سيعد رسالته للماجستير كبقية أبناء جيله وخاصة أنه لم يكن قد تم تعيينه أكاديميا بعد بالجامعة وهو الأول على دفعته وربما واقعة الاعتقال منعت عنه ذلك التعيين وربما أمور أخرى يعلمها معاصرو تلك المرحلة، وإني لأتصور أنا أمرا ما قد وقع بينه وبين مصطفى زيور قاده للهجوم على فرويد عملا بميكانيزم الإزاحة الذي دفعه لتوجيه العدوان لفرويد بدلا من زيور الذي يخرج على المعاش في عام 1967، ولم يتم تعيينه بالجامعة إلا في عام 1972 بعد أن أنجز رسالته للماجستير في مجال علم النفس الصناعي 1971، ونشر كتابه تجسيد الوهم 1971، وفار عنه بجائزة الدولة التشجيعية التي كانت حكرا على العاملين بالجامعة يومذاك، ومنحته تلك الجائزة فرحة صاحبته طوال حياته فيما بعد لذلك السبب. وسجل خطة الدكتوراه 1972 بإشراف أستاذه السيد خيري الذي سبق وأشرف على رسالة الماجستير أيضا، وقد قام قبل ذلك بترجمة كتاب هانز أيزنك، الحقيقة والوهم في علم النفس، 1969. ومعروف بالطبع المدرسة السلوكية التي يمثلها المؤلف وكتابه والانتقاد البالغ للتحليل النفسي الذي يمثله ومؤسسه – في آن – في مصر والعرب مصطفى زيور ليقول قدري حفني عن ذلك: فكتاب الحقيقة والوهم لعالم النفس البريطاني السلوكي هانز أيزنك، والمدرسة السلوكية تقف علي طرف النقيض من مدرسة التحليل النفسي التي يعتبر أستاذي الراحل مصطفي زيور رائدها في مصر والعالم العربي؛ ولم يكن زيور كعادته يخفي رأيه في السلوكية وهانز أيزنك تحديدا، ولكني وجدت لزاما علي وقد صدرت ترجمة الكتاب أن أذهب بها متوجسا إلي أستاذي الجليل زيور، الذي أمسك بالكتاب ناظرا إلي عنوانه متمتما “ألم تجد إلا أيزنك”، وفتح الكتاب، وكنت قد كتبت إهداء له جاء فيه “إلى الدكتور مصطفى زيور الذي لم يشأ أن يعيد صنع تلاميذه على شاكلته” فتبسم وتفهم ومر الموضوع(قدري حفني :2018)”.