أخبار عاجلة

” خَــرْبَشَـــاتٌ صِبْيَـانِــيَّةٌ ” قصة قصيرة للكاتب والباحث الليبي ” خالد السحاتي “

مُنهَمِكَةٌ طيلة وَقْتِهَا بِالنَّظَرِ فِي مِرْآتِهَا الصَّغِيرَةِ ، حَقِيبَتُهَا الرَّمَادِيَّةُ الجَدِيدَةُ تَنُوءُ بِمَا تَحْمِلُ مِنْ مُعِدَّاتِ تَجْمِيلٍ حَشَرَتْهَا فِي دَاخِلِهَا بِشَكْلٍ عَشْوَائِي، الفَصْلُ فِي حَالَةٍ يُرْثَى لَهَا، مَقْلُوباً رَأْساً عَلَى عَقِبٍ، الصِّغَارُ يَتَرَاشَقُونَ بِبَـــــقَايَا الوَرَقِ المُـــمَزَّقِ وقُشُورِ البُرْتُقَالِ ،وَيُدَبِّرُونَ الحِيَلَ المَاكِرَةَ لِبَعْضِهِمْ ، السُّبُّورَةُ تَتَسَوَّلُ مِنْ قِطْعَةِ الطَّبَاشِيرِ وَلَوْ حَرْفاً وَاحِداً تَخُــطُّهُ عَلَيْهَا، كُلَّــــمَا ارْتَفَــعَ ضَـجِيجُ الصِّغَارِ فِي الفَصْلِ بَادَرَتِ المُعَلِّمَةُ بِتَلَمُّسِ عَصَا الخَيْزُرَانِ وَضَرْبِهَا عَلَى الطَّاوِلَةِ بِقُوَّةٍ لِتُثـِيرَ الخَوْفَ فِي نُفُوسِهِمْ ، فَيَسُـودُ الصَّمْتُ لِبُرْهَةٍ، ثُمَّ تَعُودُ الضَّجَّةُ مِنْ جَدِيدٍ لِتُدَوِّي فِي المَكَانِ، وَتَعُودُ المُعَلِّمَةُ لِمِرْآتِهَا وَأَدَوَاتِ تَجْمِيلِهَا، تُخْرِجُ أَحْمَرَ الشِّفِـاهِ الذِي أَهْدَاهُ لَهَا خَطِيبُهَا وَتُمَرِّرُهُ عَلَى شَفَتَيْهَا بِسُرْعَةٍ، تَكْتَحِلُ، وَتُمْشِطُ شَعْرَهَا، تَنْظُرُ فِي المِرْآةِ، يَرْتَفِـعُ صَخَبُ الصِّغَارِ مِنْ جَدِيدٍ، تَتَذَكَّرُ هِيَ جَدْوَلَ الضَّرْبِ، فَتَأْمُرُهُمْ بِتِرْدِيدِهِ مَعَ بَعْضِهُمُ البَعْض، يُطْلِقُ الصِّغَارُ العَنَانَ لأَحْبـَالِهِمُ الصَّوْتِيَّةِ، وَيَبْدَؤُونَ بِالتَّرْدِيـدِ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ، دُونَ تَوَقُّـفٍ: (واحد في الواحد بواحد .. واحد في الاثنين باثنين .. واحد في الثلاثة بثلاثة..).
تَنـْتَشِي المُعَلِّمَةُ فَرَحاً، تَنْظُرُ إِلَى وَجْهِهَا فِي المِرْآةِ، ثُمَّ تَأْخُذُ عَصَا الخَيْزُرَانِ، مُيَمِّمَةً بِوَجْهِهَا صَوْبَ بَابِ الفَصْلِ، لِتَخْرُجَ مِنْهُ بِسُرْعَةٍ، وَتَدْخُلَ كَالْعَادَةِ دُونَ أَيِّ مُقَدِّمَاتٍ فِي الحِوَارِ السَّاخِنِ الذِي كَانَ دَائِراً أمَامَ الفَصْلِ المُجَاوِرِ بَيْنَ بَعْـضِ المُعَلِّمَاتِ، لَيـْسَ ثَمَّةَ خُطُوطٌ حَمْرَاءُ، أوْ أَدَوَاتِ اسْتِثْنَاءٍ، أَوْ حَتَّى قَوَاعِدُ مُعَيَّنَةٌ تَسِيرُ عَلَيْهَا أَوْ تَتَوَقَفُ عِنْدَهَا تِلْكَ الهَدْرَزَةُ النِّسَائِيَّةُ الرَّائِقَةُ، الَّتِي تَمْـضِي دُونَ تَرَدُّدٍ كَتَدَفُّقِ مِيَاهِ شَلاَّلٍ هَادِرٍ إِلَى مَصَبَّهَا، فَتَمُرُّ بِأِطَايِبِ الأَكَلاَتِ اللَّذِيذَةِ، إلى آخِرِ صَيْحَاتِ الموضَةِ فِي الألبِسَةِ وَالمُجَوْهَرَاتِ، وَلاَ تَتَوَقَّفُ عِندَ تَفَاصِيلِ العِلاَقَاتِ الاجْتِمَاعِيَّةِ بِزَوَاجِ هَذِهِ، أَوْ طَلاَقِ تِلْك، تَتَوَسَّعُ دَائِرَةُ الحِوَارِ، يترُكُ الصِّغَارُ جَدْولَ الضَّرْبِ، وَيَعُودُونَ لِشَقَاوَتِهِمْ ، يعبثُونَ بحقيبة المُعَلِّمَةِ، أحمرُ الشفـاه، كريمُ تفتيحِ البَشْرَةِ، مِشْطُ العَاجِ، كُلُّهَا أضحت بين يدي الصَّغَارِ أُلْعُوبَةً، كَمَنْ يُوَاجِهُ مَصِيرَهُ المَحْتُومَ وَيَقِفُ مَكْتُوفَ اليَدَيْنِ، لَوَّنُواْ وُجُوهَهُمْ وَأيْدِيهِمْ، وَرَسَمُواْ بِخَرْبَشَاتِهِمْ عَلَى جِدَارِ الفَصْلِ لَوْحَاتٍ صِبْيَانِيَّةٍ مُزَرْكَشَةٍ بِفِـوْضَى الأَلْوَانِ الفَاقِعَةِ، تَوَقَّفُواْ بُرْهَةً، خَطَرَتْ لَهُمْ فِكْرَةً، بَدَتْ لِبَعْضِهِمْ غَيْرَ رائقةٍ لأوَّلٍ وَهْلَةٍ، تَرَدَّدُواْ، نَظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْـضٍ، دُهِـشُواْ لِمَا بَـدَا عَلَيْهِ فَصْلُهُمْ، سَيْطَرَ الصَّمْتُ عَلَى المَكَانِ، بَدَأَ الخَوْفُ يَدُبُّ فِي أوصَالِهِمْ، احتبست دمُوعُهُمْ فِي مَآقِيهِمْ، لَمْلَمَ بَعْضُهُمْ شَتَاتَ الشَّجَاعَةِ الضَّائِعَةِ، ثمُّ لَمْ يَلْبَثُواْ فِي تَنْفِيذِ حِيلَتِهِمْ المَاكِرَةِ لِلإِيقَاعِ بِمُعَلِّمَتِهِمْ فِي شَرَكِهَا، أخذُواْ أمَاكِنَهُمْ، حَبَسُواْ أنفَاسَهُمْ، تَأَهَّبَ أحَدُهُمْ للتَنْفِيذِ، بَحَثَ عَنْ شَيْءٍ صُلْبٍ يُنْجِزُ بِهِ عَمَــلَهُ، عَثَرَ أَخِيراً عَلى قِطْعَةِ حَدِيدٍ مِنْ مقعَدٍ مَكْسُورٍ، أَمْسَكَهَا بيَدٍ مُرْتَعِشَةٍ، ودُونَ سَابِقِ إنذارٍ، رَمَى بِهَا عَلَى النَّافِذَةِ اليُمْنَى بِكُــلِّ قُــوَّتِهِ، تَهَشَّمَ زُجَاجُ النَّافِذَةِ سَرِيعاً، مُحْدِثاً ضَجَّةً رَهِيبَةً، فَزِعَتِ المُعَلَّمَةُ المِسْكِينَةُ، وَأَتَتْ بِخُطْوَاتٍ مُتَلاَحِقَةٍ، لَكِنَّ خُطُوَاتِ نَاظِرِ المَدْرَسَةِ كَانَتْ أَسْرَعَ، فَوَصَلَ إِلَى الفَصْلِ لِيَنْظُرَ مَا الذِي حَدَثَ، تَعَثَّرتْ قَدَمَاهُ بِالحَــبْلِ الذِي كَانَ مَرْبُوطاً أَسْفَلَ البّابِ، وَوَقَعَ خَارّاً عَلَى وَجْهِهِ، وَسَطَ ذهُـول الصِّبْيَةِ الأشقِيَاءِ، فَالأَمْرُ لَمْ يَكُنْ مُتَوَقَّعاً بِالنِّسْبَةِ لَهُمْ ، دَخَلَتِ المُعَلِّمَةُ الفَصَلَ، رَمَقَــتْ تَلاَمِيذَهَا بِنَظْرَةٍ عَابِرَةٍ ، ثُمَّ أخَذَتْ حَقِيبَتَهَا الرَّمَادِيَّةَ التِي لَمْ تعُدْ جَدِيدَةً، وَخَرَجَتْ مُسْرِعَةً، وَقَدْ عَقَدَتِ العَزْمَ عَلَى ألاَّ تعُودَ إلى هَـذَا الفَصْلِ مـِنْ جَـدِيدٍ.