أخبار عاجلة

الكاتب الصحفي خيري حسن يكتب : في حب رياض القصبجي

[رياض القصبجي في ذكراه.. يسأل:
[شغلتك على المدفع.. إيه؟ .. بورروم!!]

***

[القاهرة ـ 1962]

«هايل يا أستاذ حليم.. براڤو يا نادية.. اتفضلوا.. ساعة راحة، وبعدها نستعد للمشهد القادم» – كانت هذه تعليمات المخرج الراحل حسن الإمام، لفريق عمل فيلم “الخطايا”. الآن يتم تجهيز الاستوديو لمشهد آخر، سيظهر فيه لأول مرة ـ بعد الشفاء من المرض ـ الفنان رياض القصبجي، الشهير بـ”الشاويش عطية”. بعد دقائق.. الجميع بدأ يعود إلى مكان التصوير. الديكور يتغير، والإضاءة، والإكسسوار، والصوت، والكاميرات.. فريق العمل كله في حالة ترقب، وانتظار، وفرحة، والسبب هو عودة “الشاويش عطية” للوقوف أمام الكاميرا !

***
[ستوديو مصر ـ بعد 10 دقائق]

دخل الفنان رياض القصبجي، ليجد الجميع واقًفا في انتظاره وعلى الوجوه حالة من السعادة مع تصفيق حاد، وسلامات.. وابتسامات.. وأحضان.. و..و.. «وحشتني يا عم رياض»!
كلاكيت.. مساعد المخرج بصوته المسموع للجميع يقول صارخاً: «اتفضل.. اتفضل يا عم رياض.. الكاميرا معاك».ثم يُعاود النداء قائلاً: «عم رياض.. يا عم رياض»! – عم رياض ليس هنا – أو بمعنى أدق – لم يعد قادرًا على الوقوف أمام الكاميرا، وهو الذي قدم عشرات المسرحيات والأفلام من أول أفلامه: “سلامة في خير” و”علي بابا والأربعين حرامي” و”ليلى بنت الأغنياء” إلى سلسلة أعماله المتميزة مع الفنان الراحل إسماعيل ياسين. اليوم يقف أمام الكاميرا، لكنه ليس قادرًا على الحركة! الدقائق تمر وهو يحاول.. ويحاول.. والنتيجة يفشل في النهاية. قوته الجسدية لا تساعده، والذاكرة تخونه. ولسانه فاقد القدرة إلا على الكلام العادي. هذه اللحظات انتظرها الجميع مع المخرج حسن الإمام حتى طال الانتظار. والسكوت في (اللوكيشن) أحدث حالة من الصمت الحزين! وفجأة بدأت عيون (القصبجي) تهاجمها الدموع! في أثناء ذلك جال ببصره يتذكر أياماً مضت، عندما كان صوته يهز المكان، في ذلك الزمان البعيد الذي كان فيه يصرخ أمام الفنان إسماعيل ياسين قائلاً: “شغلتك على المدفع بورروم” و”بص قدامك يا عسكري رجب” و”اعدل رقبتك يا عسكرى”؟و”هو بغباوته”! هذه الكلمات وغيرها التي تُعد علامة بارزة في مشواره، وشاهدة على نجاحه، وتألقه أثناء تأدية دور (الشاويش عطية) في أعماله السينمائية الشهيرة مع الراحل إسماعيل ياسين ! الآن يتذكرها بحزن وألم! بعد دقائق ـ في الاستوديو ـ انهار الرجل ولم يعد قادرًا لا على الوقوف أمام الزمن، ولا الوقوف أمام الكاميرا، ولا الوقوف أمام دموعه التي تساقطت بغزارة. المخرج حسن الإمام وقف متأثراً وهو يغالب دموعه هو الآخر قائلاً: “فركش.. مفيش تصوير النهاردة” .. ثم تقدم إليه واحتضنه بحميمية شديدة وهو يقول: “الزمن مبقاش زمانا يا قصبجي ..اجلس هنا وارتاح”! وبالفعل جلس الرجل، لكنه منذ هذه اللحظة لم ( يرتاح)!
قال ذلك الراحل حسن الإمام قبل أن يعيش ليرى ويسمع عن أرقام فلكية، مليونية، مستفزة يحصل عليها البعض من إعلانات ودراما رمضان فقط! فماذا كان سيقول (الإمام) للـ (القصبجي) لو كان رأى سيارة الفنان محمد رمضان؟! في رمضان وغير رمضان!
***

[الاستوديو – غرفة 7]

عاد (القصبجي) إلى غرفته والتف حوله الجميع. هذا يضحك معه، وهذا يُسلم عليه، وآخر يتكلم إليه، وهناك من يحضنه بفرحة كبيرة. الكل يحاول إدخال السعادة إلى قلبه، بعدما خذلته قواه الجسدية وفشل في تأدية الدور الذي رشحه له المخرج حسن الإمام. لكن كيف تم ترشيحه لهذا الدور أصلاً ؟ رغم أنه لم يكتمل شفاؤه من الوعكة الصحية التي ألمت به في أواخر الخمسينات؟ الكاتب الراحل عبدالله أحمد عبدالله (ميكى ماوس) كان قد تحدث عن هذه الواقعة قائلاً: «المخرج حسن الإمام سمع ذات يوم بأنه تماثل للشفاء من الشلل الذي أصابه – وكان شللاً نصفياً نتيجة ارتفاع في ضغط الدم – وأنه بدأ يتحرك ويمشي، فأراد أن يرفع من روحه المعنوية فهو ـ أي حسن الإمام ـ فنان يدرك أن الفنان أسعد أوقاته عندما يكون أمام الكاميرا أو عندما يكون على خشبة المسرح، ومن هنا اقترح على أسرة الفيلم إعطاء دور له، والدور بالفعل كان مناسبًا، وكانت هذه لفتة طيبة من (الإمام) أسعدت (القصبجي) كثيراً، لأنه شعر بأنه ما زال محبوبًا، ومطلوباً، لكن قدرته الجسدية جعلته غير قادر على أداء الدور.. فعاد إلى بيته مهمومًا وحزينًا وكانت هذه آخر مرة يقف فيها أمام الكاميرا !

***

[القاهرة ـ 2017]

في حديث لي مع الابن فتحي رياض القصبجي في ذلك العام قال: “أبي.. كان إنسانًا يجمع ما بين الشدة واللين، وأظن حالة اللين بداخله كانت أكثر من الشدة، على عكس ما قد يتصور البعض. أحياناً أدواره في السينما هى التي أعطت انطباع القوة والغلظة عليه، لكن ذلك ليس صحيحاً. كان رجلًا عطوفًا ودمعته قريبة، يفرح من أي شيء ويحزن من أي شيء! وأنا طفل صغير، كنت أخرج معه حتى أكون ذراعه التي تسنده إلى أن يصل إلى المقهى الذي يحب الجلوس عليه في وسط البلد (شارع عماد الدين) وكنا ونحن نسير أسمعه يردد: “الصبر.. الصبر يا رب”! فسألته بطفولة بريئة: “ولماذا كلمة الصبر يا بابا”؟ فيقول: “لأن الصبر مفتاح الفرج”! وعندما كبرت عرفت معنى كلامه. عرفت أنه كان شديد الرضا بما هو فيه، وهذا الرضا كان يستمده من الصبر”!
ثم يكمل الابن: “كان رجلًا بسيطاً، يحب التمثيل والحياة والناس. وحياته بسيطة، وكان دائماً يردد: “يا رب.. الستر والصحة”.. والحمد لله عاش مستور وبعدما تحققت له نعمة الستر، صحيح المرض هاجمه، وضغط عليه، وأبعده عدة سنوات عن الجمهور، لكنه كان راضياً.. حتى آخر يوم من حياته”!

***
[القاهرة ـ 1903]

في ذلك العام ولد الفنان رياض القصبجي في 13 سبتمبر ورحل فى مثل هذا اليوم 23 إبريل عام 1963. عمل في بداية حياته (كمسارى) بالسكة الحديد، وأحب التمثيل منذ الصغر، وبعد فترة انضم إلى فرقة التمثيل الخاصة بهيئة السكة الحديد، ومنها انضم إلى فرق الهواة، ثم (فرقة علي الكسار)، و(فرقة دولت أبيض) ثم استقر مع (فرقة إسماعيل يس المسرحية). عاش حياته لا يمتلك سيارة ـ كما يقول الابن ـ ويسكن في شقة عادية، ويذهب إلى المقهى بـ (الحنطور) حيث كانت هوايته ركوبه، ولا يستخدم غيره.
ثم يكمل:
– “ترك لنا السيرة الحلوة وحب الناس. ولم يكن من الشخصيات التي تهوى جمع المال.. فهو من جيل عاش الفن للفن، وليس من أجل المال والشهرة!”.

***
[الإسكندرية ـ 1963]

في صيف ذلك العام سافر بمفرده إلى (عروس البحر المتوسط) ومعه من يقوم على خدمته ـ هكذا يتذكر الابن ـ خاصة بعدما ساءت حالته النفسية بسبب المرض وانحسار الأضواء، وتوقفه عن التمثيل. وكان باقي أفراد الأسرة في مصيف (رأس البر)! بعد أيام اتصل بنا وطلب حضورنا فوراً. وبالفعل عاد هو من الإسكندرية وعدنا نحن من (رأس البر ). في تلك الأيام ظل يقاوم المرض بقوة، وثبات، حتى جاءت ليلته الأخيرة التي جمعنا فيها حوله وطلب الاستماع إلى صوت (أم كلثوم) ـ الذي كان يعشقه جداً ـ وبدأ يتحدث عن حياته ومشواره من (مسرح السكة الحديد) إلى ما وصل إليه من نجاح.. ثم وهو يتحدث لنا، وأم كلثوم بجواره تغني (أروح لمين) أغمض عينيه وانتقل إلى جوار ربه في هدوء، وسلام !

***
[القاهرة ـ 1963]

الساعة الآن الرابعة عصراً أمام منزله في (شارع حجر)، المتفرع من (شارع قطة) في شبرا. الجنازة تخرج محمولة في طريقها لمثواها الأخير. تتحرك الجنازة ببطء ولا يسير وراءها سوى عدد قليل لا يتعدى 20 شخصاً من أهله وجيرانه ـ طبقاً لخبر صغير نُشر في صحيفة “الأخبار” بتاريخ 25 إبريل 1963 ـ حيث لم يكن من بينهم أحد من الفنانين، فيما عدا محمد الغزاوي، نقيب الفنانين ـ حينذاك ـ نيابة عنهم، وباقة (ورد) متوسطة الحجم، يحملها خلف الجنازة (فرّاش) النقابة!
• خيري حسن
القاهرة – إبريل – 2021
•••
•• الأحداث حقيقية – والسيناريو من خيال الكاتب
•• الصور المصاحبة:
الفنان رياض القصبجي