أخبار عاجلة

أفكار لا نهاية لها بقلم الأديب العراقي عبد الفتاح التميمي



بعد أن تجاوزت الساعة منتصف الليل ، الليل الذي يحمل بين طياته نوع من الهدوء الغريب والذي يشعر المرء بالحنين لشيء ما ، لم يستطع “ليون” النوم بالرغم من محاولته البائسة ، أنقلب بعد أن كان يتوسد يده كي يسمح لعيناه التمعن بحرية في السماء الصافية والتي تزينها النجيمات المتناثرة هنا وهناك . كانت عيناه تنظران الى النجوم وترقبان حركاتها بدقة في حين كانت أخيلته في مكان آخر . فكر في البداية ثم تساءل : بالرغم من اني أشعر بتعب شديد لماذا لا أستطيع النوم ؟ أستغرب “ليون” من غرابة هذا السؤال ، تمطى قليلا ثم عاد إلى وضعه وقال : كم أعشق هذه الليلة فهي ساكنة مثلي ، ثم قال بعد أن حول بصره الى زاوية أخرى من زوايا السماء : أنا بحاجة للتفكير ويمكنني أن أجعل من هذه الليلة صديقتي مع أنها لا تستحق صداقتي ، لكن ماذا أفعل ؟ سأصدق أنها صديقتي وأكشف أمامها كل أوراقي . في البداية سأخبرها بأني وقبل أن يفكر بما سيخبرها خطرت له عبارة “ديكارت” التي لم يدرك مغزاها ، والغاية منها : أنا أفكر أذن أنا موجود . كم هذا رائع ، لم يشعر الأنسان بوجوده إلا حين يفكر ، ماذا لو لم يفكر هل ينسى وجوده ؟ هل كان “ديكارت” يفكر عندما قال هذه العبارة ؟ بماذا كان يفكر حينها ؟ تنفس “ليون” بأرتياح ثم قال وكأنه يهمس مع نفسه : ما هذه السفاهة المقيتة ؟ من أين لي أن أعرف ؟ إنها فكرة سخيفة فعلا . أبتسم “ليون” مع نفسه وقال : لا ليست فكرة سخيفة ، فطالما أفكر فأنا موجود . وأخذ يستعرض في مخيلته قاموس الأفكار المستقرة بين طيات أوهامه منذ زمن بعيد ، توقف عند “أكون أو لا أكون” أين سمعت هذه العبارة ، يبدو أنها مألوفة ، صمت فجأة ثم تذكر “هاملت” : سمعت هذه الكلمة من “هاملت” ذلك الفتى المسكين كم يحزنني موته بتلك الطريقة . ثم تساءل “ليون” : ما معنى أكون أو لا أكون ؟ ربما كانت جملة بلا معنى سقطت سهوا من أنامل شكسبير الحادة كالشفرة ، فأعجبت “هاملت” فحفظها . لا ، لا ليس شكسبير الذي يكتب كلاما بلا معنى ، لما لا ؟ أليس شكسبير مثلنا ؟ ربما علينا أن نسأل “هاملت” . ما هذا الكلام ؟ ردد “ليون” مع نفسه ، ما هذا السخف شكسبير مثلنا لم أسمع أحد يردد هذه العبارة قبل الآن . تلفت “ليون” كي يطمئن من عدم رؤيته من قبل أحد ، أو أن أحد يسمع كلامه ، قسما سيقولون أنه مجنون ، من الرائع جدا أن جبران في العالم الآخر فأن كان موجود لتخلى عن عبارته الشهيرة “أنا غريب عن هذا العالم” التي أطلقها على نفسه وألصقها بي ، تحسس “ليون” وجهه : رائع لا أزال على طبيعتي لست غريبا عن أحد . نظر “ليون” الى الأفق البعيد حيث كانت النجوم وكأنها تتجه الى هناك ، مد يده ليلمس نجمة بدت وكأنها قريبة جدا من متناول يديه ، تذكر لا يحق لنا لمس النجوم لأنها وجدت لا لتكون إلعوبة بيد أمثالي من الناس ، بل وجدت لتبقى نجوم تهفو نحوها أعين الناظرين اليائسة . فجأة سقطت في ذهنه فكرة كسقوط تفاحة نيوتن ، تلك التفاحة التي يفترض أن ننجذب نحوها ، لا أن تنجذب الى الأرض حسب مقاييس نيوتن ، تقلبت الفكرة في ذهن “ليون” ربما لاتوجد جاذبية ، ربما سقطت التفاحة بسبب مللها من التعلق بتلك الأغصان الخاوية ، أو سئمت النظر من الأعلى ورؤية الناس صغار ، أو ربما كان نيوتن من الذين يجب أن يحاكموا بتهمة الهرطقة تأسيا بغاليلو وسقراط ، وبرغم كل الأحتمالات لم يكن في خلد التفاحة أنها ستصبح خالدة بين صفحات تاريخ الجاذبية ، أرسل “ليون” عيناه نحو نجمة لا زالت ساطعة بالرغم من خفوت جميع النجيمات اللامعة . ركز بنظره على تلك النجمة ، ما هذه ؟ تساءل “ليون” بأستغراب ، كم تبدو مألوفة بالنسبة لي : قال ذلك متمعنا في صورتها ، يخال لي أنها تشبه شخصا أعرفه : قال هذا وعادت به الذكريات الى ذلك اليوم الذي لازال يحتفظ بذكراه الى الآن ، يسترجع ذكراه كي يشعر أنه على قيد الحياة ، كي يشعر أنه يرغب في الحياة ، لكن في النهاية تبقى أنها مجرد ذكرى أصبحت من الماضي ، واليوم هو مجرد يوم عادي ، لكن هذا ليس صحيحا فاليوم لا زال حيا الى الآن وكأنه الأمس القريب ، والذكرى لم تزل ذكرى جميلة يشعر بخفقات قلبه بمجرد مرورها بخاطره المكتظ بالآلاف الذكريات ، وهذا ما يشعره بأنه على قيد الحياة وحينها تنتهي سلسلة أفكاره الجنونية وتنقطع خيوط خيالاته المستوحاة من واقع مجهول ، ويبقى طافيا في نظرات ذلك الكيان الملائكي الذي يشبه في طبيعته نجوم هذه الليلة الساكنة .