أخبار عاجلة

د. خالد عبد الغني: حين تفتقد أمك تبحث عنها أكثر… قراءة في “جردل فارغ ثقبته الظروف” للبهاء حسين

 

 

كتب د.خالد محمد عبدالغني:

سوف يدرك القارئ بفطنته لم كانت نهاية القراءة النقدية هي عنوانها ومقدمتها أيضا حول فقدان الأم وحضورها الطاغي بعد الموت ؟. فمن مقولة فرويد عن الشعراء :”إنهم معلمونا في معرفة النفس، لأنهم ينهلون من ينابيع لم نتوصل بعد إلى تمهيدها أمام العلم ( )” ننطلق في قراءة مع شاعرنا البهاء حسين في ديوان “جردل فارغ ثقبته الظروف” لنجده وقد توصل لعدد من قضايا التحليل النفسي بقدرة هائلة من الوعي والاستبصار والإلهام ليؤكد لنا تلك المقولة فحول صورة الجسد الذي يؤكدها وجود الظل والتي تحتل مكانة مركزية في التحليل النفسي ليقول عنها:

“الظل معجزة
الشجرة لا تستحق اسمها إن لم يكن بها عشّ
إن كانت من غير ظل”
ثم يقول :” كل ما أنت فيه ، تقوله يداك”
“تقول اليد، وهى تسلّم، ما لا يقوله الفم”
“غير أننى لا أملك ما يكفى من الأصابع
لأقول كل عواطفى”
مع تلك المقاطع الشعرية المحملة بدلالات عميقة في التحليل النفسي تذكرنا بمقولة فرويد الشهيرة “عندما يصمت اللسان تثرثر اليدان” ونستطيع اعتبار اليد بديلا عن الكلام في كثير من المواقف التي يتعطل اللسان فيها عن الكلام قكانت الصور التعبيرة التالية .
” نسيتْ حبيبتى أن تحبّ
ففاتها الفرح
لم تجرب القبلات
فتعطل فمها عن الكلام”
فجاء الشاعر ليقول لنا :
“جعلتُ يدى إناء ماء
وتركتها لك فوق السطوح
حُطى
انتظرتك بكل بجسدى، بقلبى كله
وحلفتُه ألا يخونك
اسكتى يا حبيبتى
يدى لم تجد من يهنؤها على مهارتها فى إيواء العصافير
فهات يدك تهنؤها”
حتى تم استبدل الدعاء والكلام جملة وتفصيلا فكانت اليد هي التعبير الرمزي عن الدعاء ، واليد هنا تستجيب لا شعوريا بالتضرع نيابة عن اللسان العاجز عن البوح
“وكلتا يدىّ كانت ضراعة
رب إنى مسّنى الحب
وأنت أعلم بالمحبين ”
وحتى هذا التناص مع القرءان الكريم “ربّ إنّي مسّني الضرّ وأنت أرحم الرّاحمين”. يحمل دلالة على عجز المحب عن البوح والشكوى اللفظية ، فالحب قد لمس المحب وما اللمس إلا باليد. وعندنا في التحليل النفسي الفرويدي أن العين وريثة عقدة أوديب ولهذا عوقب أوديب بفقأ عينيه ، أما أن تكون العين وريثة اليد بحسب صلاح مخيمر فقد جاء قول الشاعر ليؤكد ذلك وإني لأعجب لهذه البصيرة النافذة وهذا الإلهام المعجز.
فى المرة المقبلة
حين يقع عكازك، حين تهمين برفعه من الأرض
لا تدارى صدرك بيديك
امنحى الخلود لعينىّ
ومرة أخرى يقول “
سلامى لإشارات المرور التى غافلتُها
وغازلت نهديك”
وهنا نلمح إشارة رمزية لأحد رموز العكاز فبعد أن كان دلالة على العجز ، أصبح العجز نفسه مصدر القوة فتخيل عكاز الكفيف في يديه يفرض على الجميع مساعدته وإفساح الطريق له، وتخيل عكاز العاجز عن الحركة وقد امتلك قوة طلب المساعدة التي لا يقف أمامها أحد بل وتشيع الحسرة في نفوس المتقاعسين.
“ما الذى فى عكازك يشعرنى بالذنب
بالذنب
قولى أنت “
” سأستند على روحك، كأنها عكاز، لأجد الطريق إليك”
و ارتبطت الألوان بالملابس وسيكولوجية الموضة لدى صلاح مخيمر حيث الموضة في الملابس تقوم على مبدأين هما الدينامية والوظيفية فالموضة تمثل محصلة الرغبة الغريزية الاستعراضيةة عند المرأة في ان تكشف عن مفاتنها والرغبة الاخلاقية لديها في أن تستر مفاتنها ومن هنا تكون المحصلة ساترا لا ستر ما تحته وغطاء يكشف عما يخفيه ، إن المرأة الواحدة تغدو كيانات جمالية عديدة ، تنظر إليها فى الصباح فإذا بها مختلفة عنها فى المساء ، وتراها فى ثياب العمل غير ماتراها فى ثياب السهرة ، وهاهى تغرق ساجدة فى صلاتها لا تكاد تتبين فى ثيابها الفضفاضة ، فإذا ما كان الليل خرجت إلى العشاء بثياب السهرة وهى ضاحكة عابثة ……. إلخ نعم إنها الكثيرة فى واحدة ، هى واحدة تتكثر مبدية فى كل موقف من مواقف حياتها كياناً فريداً له سحره وله جماله وله مذاقه الخاص ( ).وصحيح أن الملابس تلعب دورا هاما في حياة الأفراد وتؤثر عليهم تأثيرا قد ينعكس على شخصياتهم وأعمالهم، وفي علاقاتهم بالآخرين. وتعتبر الملابس أول مفتاح لشخصية الأمة وحضارتها، وأسبق دليل عليها، لأن العين ترى الملابس قبل أن تصغي الأذن إلى لغة الأمة وقبل أن يتفهم العقل ثقافتها وحضارتها. وللملابس أهمية في سد الحاجات الأساسية للإنسان، وأصبحت تنال مكانة رئيسية في مجال العلوم الاجتماعية، كما شغلت علاقة الملابس بالنواحي الاجتماعية اهتمام الباحثين في علم النفس الاجتماعي، فأصبح هناك عديد من الدراسات والبحوث التي تربط بين هذين المجالين. وتتطلب الحياة الاجتماعية العناية بالمظهر الذي يدل على سلامة الذوق الذي يتفق مع المستوى اللائق، وسواء أكانت الملابس وطنية أم أجنبية فالمفروض ألاَّ يبدو الإنسان مهملا في مظهره، وأن يوجه اهتمامه بصفة خاصة إلى إتقانها ونظافتها. وكل زى يعتبر مقبولا ولائقا بشرط أن يتفق مع طبيعة عمل الشخص وصلاته الاجتماعية. وقد تجلى في هذا الديوان ذلك الوعي بمكنونات النفس ودلالة الالوان والملابس كتطابق الكفين بين الصورة الشعرية والتحليل النفسي فقال الشاعر :
“كيف أن جلبابها الأسود لم يعد ينضحُ لوعة”
لأن اللون الأسود علامة على الحزن والفقد، ثم يؤكد الشاعر ذلك بقوله :
” أحكى لزملائى من الموتى
عن جلبابك الأسود”
ثم يقول:
“تقول الملابس ما لا يقوى عليه الفم
الملابس مقنعة أكثر
عرفت، مثلاً ، من ملابسك، أنك تفضلين الحضن على القبلات
وحين تلبسين قميصك الكاروه
فمعنى ذلك أنك في منتهى الوحدة “
“أن أحكى لقمصانك
لوجهك المسترسل في البياض، للإيشارب
كل ما يخص جسدى
كيف أن الشتاء لا يمنح الفقير معطفاً
كيف أننى أشترى، الآن، ملابس كثيرة
تيشرتات وأربطة عنق، لأقول لك حبى بطرق مختلفة
تقول الملابس صاحبها بحذافيره ، أصله وفصله، كأنها تشفه
حتى خجله تقوله البقع
ثم تأتي خلاصة الدلالة النفسية للملابس حين يقول الشاعر الملهم :
” أن الملابس تجعل الوحدة ملونة
من، غير الملابس، يعبر عنك
من، غير الملابس، يفهم الإنسان ؟”
الذات:
هذا الديوان الحالي «جردل فارغ ثقبته الظروف( )»، وديوان “يمشي وأنه يتذكر ” قد كتبا في فترة زمنية واحدة خلصنا الى هذه النتيجة عندما قرأنا الديوان الحالي ومقارنته بالديوان السابق عليه ، فالشاعر البهاء حسين يقول في قصيدته ” أحلام اليقظة” :
” هذه الأدخنة
الأنقاض التى تكدر سنواتى الأربعين ” وهذه من القصائد المكتوبة بين عامي 2007 – 2011. وهذه عمره تقريبا يومذاك .
ثم يقول في قضيدة “اذهب إلى طفولة أخرى” المكتوبة بين عامي 2021 -2022 :
“جعلتنى طفلاً في الرابعة والخمسين
يفرح بالقمصان التي اشتراها اليوم”
وهذا عمره الان ومن هنا يمكن أن نطلق علي قصيدته بعامة قصيدة الذات . وأليس يقول لنا؟ :
” صرت كهلاً
فجأة ، دون أن آتى لها بالمستقبل
من ذيله
التناص ودلالته:
وبحسب رولان بارت أن” كل نص إنما هو تناص، والنصوص الأخرى تتراءى فيه بمستويات متفاوتة، وبأشكال ليست عصية على الفهم بطريقة أو أخرى، إذ نتعرف نصوص الثقافة السالفة والحالية، فكل نص ليس إلا نسيجا جديدا من استشهادات سابقة ونسيج من “الاقتباسات تنحدر من منابع ثقافية متعددة” ويرى بارت أن “التناصّية هي قدر كل نصّ، مهما كان جنسه. ولا تقتصر على التأثر فحسب .” وقد عبر عن تناصية كل نص بقوله إن”النص هو جيولوجيا كتابات”، فهو إنتاج متراكم من النصوص يشارك فيه الكاتب والقارئ ويشكل شبكة متفرعة من التناصات.
وانطلاقًا من هذا الفهم للتناص وجدنا ذلك التناص بين الديوان ورواية ” أحدب نوتردام ” تحكي الرواية الأصلية “أحدب نوتردام” مأساة «كوازيمودو»، الطفل الذي ولد أحدب بملامح قبيحة فبات العالم يتنمر عليه وكأن قبحه الذي لا ذنب له فيه هو خطيئته التي يجب أن يعاقب عليها. يصادفه أحد رجال الدين ويدعى «الدوم كلود فلورو» فيواريه بعيداً عن أنظار العالم ويعهد إليه أن يكون قارع جرس الكاتدرائية، يكبر المراهق وتكبر معه مأساته كقبيح تتأسس علاقته مع العالم على الرعب المتبادل. يعيش «الأحدب» داخل جدران المكان لا يعرف شيئا عن العالم الخارجي حتى يحل موعد مهرجان يسمى بـ«مهرجان المهرجين»، وتقود الصدفة الأحدب ليشارك فيه، فيتورط بسلسلة من الأحداث تقوده للمحاكمة، وهو بين الحياة والموت، يطلب شربة ماء فلا يجد سوى السخرية والشماتة، وحدها الفتاة الغجرية الجميلة التي تنتزع آهات الإعجاب بقوامها الرشيق ورقصاتها المدهشة «أزميرالدا» هي من تحنو عليه وترفق به فيقع في حبها، تتطور الأحداث في اتجاهات مختلفة فتجد الفتاة الغجرية نفسها على حافة الموت عقابا على جرائم لم ترتكبها وتخفي التهم مكائد وأحقادا، ينقذها الأحدب مؤقتا من ثم يقعان في النهاية ضحية لمجتمع قاس يحترف الظلم.
ليقول لنا الشاعر ما يلي :
” كنت على وشك أن أجلب الحظ السعيد لبيتى
لكننى، من فرط تعاستى
تعثرتُ بميت أحدب
الرجل الذى يوقظنى كل ليلة
فى المنام
بيده المتورمة
يهز كتفى، ثم يفتح بقجة ويُخرج منها أمعاءه
ورجله اليسرى وأعضاء أخرى
إصابتها طفيفة
يا له من كابوس
يا للذعر الذى ينتابنى من أنفه المجذوم
وفمه الملطخ بالضحك
أيكون مصيرى مثله
أحمل حظى المسكين
فى صرةٍ هكذا
كأنه ضحية حرب
وأفرد أشلاءه
فى وجه شخص آخر لا يعرف نفسه
لا يكون بمأمن من الخوف
سوى فى النوم” !
حلم اليقظة :
إذا كان حلم اليقظة بحسب تعريف “ستانلي هول” هو ضوء الشفق الذي ينبئ عن إشراقة الخيال، وإذا كان الخيال خصباً غنياً فإنه يستطيع إكمال كل نقص إذ يمنح الضعيف جسماً رياضياً ويهب السائل المعدم ثراءً عريضاً ، وهو بهذا الشكل ملكة للتعويض والتكميل ، وعليه فحلم اليقظة ممتع وسار وسهل لذلك يقدم نوعاً من الإغراء فيعيق العمل في الواقع ، ومن ثم يجب العمل على توجيهه وحسن استخدامه حتى لا يعترض نمو الشعور بالواقع ولن يتحقق ذلك دون فهمه ( ). وهذا الفهم لأحلام اليقظة هو ما نجده لدي الشاعر في قصيدة حملت عنوان “أحلام اليقظة” فيقول :
” فى النهار ، حيث يمكن لظلك أن يستقل عنك
أدير بضعة أحلام عزيزة
أكون فيها الممثل والجمهور والمخرج
وإن بدأتُ مؤخراً أتخلى عن البطولة
وهذا ما يضايقنى
عشتُ كل الأدوار
وصلت إلى كل حافة
ما من رغبة لم تترك لى غبارها
حتى استنفدت حصتى من اليقظة
: كثيراً ما كنت أحلم
أننى شخص هبطتْ عليه ثروة
تقديراً لنبله
لكونه بارًا بالعالم ، كما يليق بالابن نحو أبيه
بالمحتاجين، لأنهم إخوة
لكننى ، شيئا فشيئا ، بدأت أمسك يدى
كى لا يعتاد الأصدقاءُ التبطل
أردتهم أن يعتمدوا على أنفسهم
أن يأكلوا من كدّ أحلامهم مثلى
الأحلام:
وهنا نعرض لقضية نفسية تحليلية يقدمها لنا الشاعر وهي قوة حضور المحبوب حين يغيب وكأن هذا الغياب هو قوة الحضور في آن ( ). حين يقول:
“حين تفتقد أمك تبحث عنها أكثر”.
وهنا تحقق ما هو ذاتي لدى الناقد – كاتب هذه السطور- وربما لدى الشاعر وربما لدى كل قارئ فقد أمه . ونرى في دلالة الألوان الغامقة – الاسود الازرق والرمادي وتواترها في هذا الديوان ما يكاد يشير الى ملامح الحزن والكآبة لدى الشاعر ولم لا أليس هو القائل :
“أنا وانت مكتئبان”.
ثم يعبر عن هذا أكثر بالشعور بالاغتراب :
“غرفة شاغرة بداخلنا
بئر لا شىء فيها غير الصدى”
بالاضافة لسيطرة مفردات وصور عن الحزن والفقد والقبر الذي يشير الى معاناة الفقد أو على الأقل العودة للرحم الآمن بعد فقد الأم :
“القضاء والقدر
ثم يقول :”
“لكنّ أحدًا لا يشاركنى الحزن”
الوحشة التى ينشرها الهواء فجأة بداخلنا
جربتها”
“أمس سمعتُ قطة تموء تحت شباكى فعرفت أنها أنت
يعبّر حزنك عن نفسه بالخربشة”
وفي نهاية الرحلة مع الحزن والفقد يقدم وسيلته العلاجية أيضا كما أكرر باستبصار فريد حين يقول:”
أحتاج دائما إلى أحلام جديدة
تملأ وحدتى”.
وكأن الأحلام التي يقول عنها التحليل النفسي أنها الطريق الملكي لمعرفة اللاشعور ، فين حين اعتبر فرويد أن التحليل النفسي اكتمل مع كتابه “تفسير الأحلام”( ).
وهكذا توصل الشاعر لمعالم كبرى تفسيرية في قضايا صميمية بالتحليل النفسي.