أخبار عاجلة

رواية “الفجر جرح أسود” للأديبة الجزائرية د. وهيبة سقاي … ومرثية قوارب الموت ..

كتب دكتور عمرو منير:

تتشارك العديد من دول العالم العربي خصوصا التى تجمعها جغرافيا مشتركة في العديد من القواسم المتشابهة والتى تشمل تطابق الظروف الاجتماعية والاقتصادية و الجغرافية وصولا الى تقاسم المشاكل والأزمات و العديد من الظواهر السلبية ….

من تلك الظواهر السلبية والتى تعانى منها العديد من الدول العربية المطلة على البحر المتوسط هى ظاهرة الهجرة الغير شرعية على قوارب المهربين إلى سواحل الدول الأوربية حيث يلجأ هؤلاء إلى تلك الدول ليعيشوا كلاجئين أملا في حياة أفضل من تلك التى عاشوها في اوطانهم الأصلية …..

من الأعمال الأدبية القليلة والتى تناولت تلك الظاهرة الأنسانية بكامل أبعادها هى رواية الأديبة الجزائرية
د. “وهيبة سقاي” والصادرة عن دار النسيم عام ٢٠٢٢ والتى سطرت من خلال صفحات العمل التسعين صورة كاملة عن هذه المأساة البشرية والتى تعيشها شباب اوطاننا ….

الرواية تدور حول الشاب “ناصر” – والذي يحمل اسمه رمزية بالغة الدلالة- والذي يقرر الهجرة على سطح قارب أشتراه هو وزملائه من “عيسى” الضابط المتقاعد تاركا أمه “فاطمة” و أخته المريضة “فرح” وراءه في بلدته الساحلية الفقيرة و مضحيا بحب عمره الوحيد ” حنان” ليذهب الي الشمال حيث المصير المجهول المغلف بحلم أشبه بالسراب في الأفق و تسير الأحداث والمواقف لتؤكد ماتمثله تلك الظاهرة من مأساة مكتملة الأركان …..

نحتت الكاتبة شخصياتها بعناية فائقة فنجد مثلا البطل ” ناصر” المهزوم معنويا بسبب بطالته بالرغم من كونه جامعيا و شخصية “فاطمة” أبنة أحدى شهداء ثورة المليون شهيد والذي أرتقى الي ربه على يد المستعمر الفرنسي بسبب وشاية داخلية من أحد عملاء الاستعمار الفرنسي بالأضافة الي شخصية ” عيسى ” ذلك الضابط المتقاعد الذي يمتص دماء ابناء بلدته ويلقي بهم إلى بطن البحر كقربان مقابل المال الحرام و شخصية
” حنان” الجامعية ..حبيبة “ناصر” التى تركها من أجل حلم زائف ….

تناولت الكاتبة بحرفية الظروف الاجتماعية والاقتصادية لتلك الظاهرة حيث البطالة والفقر والتهميش بالأضافة الي ما أفرزته التغييرات الإجتماعية في الجزائر من ظهور طبقة ذات سطوة من منتسبي ثورة المليون شهيد من أمثال “عيسي” المتاجر بالبشر و مدعي الأرث الثوري من والده و ” إبراهيم” العجوز الذي يطنطن دائما بفضله على الآخرين بسبب ماضيه الثوري بينما هو في حقيقة الأمر متحرش يمتلك روح حيوان بري مفترس …

صيغت الرواية بلغة عربية رصينة و حتى الحوار اعتمدت فيه الكاتبة على اللغة العربية الفصحى وإن كانت طعمت الرواية بمجموعة من الكلمات الجزائرية الدارجة من أمثال كلمة “حراقة ” و تعني مهاجر شرعي حرق أوراق ثبوتيته و كلمة ” حيطيست ” اي المتكئ على الحائط بسبب البطالة و كلمة “دزاير” و هى المرادف العامي لكلمة الجزائر …هذه الكلمات القليلة كانت أشبه بالتوابل التى أضافت نكهة و مذاق بطعم الخصوصية الثقافية للدولة محل الأحداث ….

أكدت الرواية على قضية منتسبي الثورة والذين الصقوا نفسهم بها بالرغم من عدم مشاركتهم بها وهى ظاهرة أنسانية متكررة في كافة ثوارت العالم التى كتب لها القدر النجاح …. مثلت شخصية ” عيسى ” الضابط المتقاعد نموذج أبناء الشهداء والمجاهدين المزيفين على حد تعبير الكاتبة و شخصية ” إبراهيم ” الذي بالرغم من تجاوزه للسن القانوني إلا أنه مازال على قيد العمل في وظيفته في الجامعة متشدقا على المحيطين به بأنه من قدامى المجاهدين وأنه سبب فيما هم فيه من رخاء واستقرار بينما سلوكه الأنسانى لا يتماشى ابدا مع روح النضال الوطني الشريف وفي المقابل نجد أن الأبطال الحقيقين لم يلقوا التكريم اللائق كوالد ” ناصر” الذي مات كمدا بعد أن فقد ذراعه أثناء عمله في مصنع للحديد والصلب دون تعويض ووالد “حنان” عامل النظافة الذي استشهد اثناء عمله بسيارة طائشة…..

أختيار أسم ” ناصر” للبطل النبيل المهزوم اعتقد أن الكاتبة قصدت به مآل التيار الناصري القومي في الجزائر من مرحلة مقاومة الاحتلال الفرنسي في خضم التيار القومي الجارف والذي للأسف الشديد تحول تدريجيا إلى الصورة المهزومة في نموذج ” ناصر” والذي لم يعد يحمل من الأنتماء إلا الأسم فقط و هنا ألمحت الكاتبة بذكاء الى التحول السياسي والفكري والذي لم يقتصر على الجزائر فقط بل أمتد للعالم العربي بأكمله …

أخيرا …
جاءت نهاية الرواية بشكل مأساوي من وفاة الأم ” فاطمة ” كمدا بعد وفاة ابنتها “فرح ” في احدى المستشفيات الأوربية المعزولة بالأضافة الى وفاة معظم المهاجرين في حوادث مؤسفة متوقعة لكونهم أضحوا فريسة للمجرمين والخارجين عن القانون …

نجا من القارب فقط “كمال” والذي كان زواجه من فلسطينية عربية طوق نجاة له في دلالة واضحة عن عمق الصلة بين العرب في أي مكان بينما أبى “ناصر” زعيم مجموعة المهاجرين أن يستمر في حياته العبثية تلك كعبد لتلك الإنجليزية ” جاكى” وهنا قرر في الفجر أنهاء حياته غرقا بالسقوط بسيارته في نهر التيمز اللندني في نفس الفجر الذي قرر فيه مغادرة بلده والذهاب إلى المجهول لتنتهى الرواية و تضحى مرثية مؤلمة لقوارب تبحث عن الحياة في شطآن بعيدة ولكنها لا تجد أمامها سوى الموت الأسود يلوح أمامها في كل مكان ….
بقلم:
د. عمرو منير محمد استاذ مساعد طب وجراحة العين كلية طب سوهاج