أخبار عاجلة

صور الغائبين في ديوان «مروا علي» لعيسى الشيخ حسن د.خالد محمد عبدالغني

يحضر الأب جليًّا واضحًا في ديوان “مروا علي” للشاعر السوري عيسى الشيخ حسن، الأب الذي غاب في ديوانه الأول “أناشيد مبللة بالحزن” (1998) والذي كان كله موجها للأم ، ولكنّه جاء على استحياء في ديوانه الثاني “يا جبال أوبي معه” (2002) وذلك لأن الأب عظيم التأثير في وجدان عيسى، فصحيح أن الحزن لا ينتهي الحزن بنهاية سحرية في وقت معين بعد وفاة الشخص العزيز. فالمناسبات التي تذكرك غالبًا ما تعيد شعورك بألم الفقد. والموت لا يقتصر على فكرة نهاية الحياة وخروج الروح من الجسد، بل هنالك ما يشبه الموت أو يوازيه أو يجعله حاضرا باستمرار كالمنفى والهجرة، وحين يفارقك شخصٌ عزيزٌ عليك عن طريق الموت، يمكن أن تصاب بالحزن من هذه الخسارة، وتجد نفسك في مواجهة هذه المشاعر مرارًا وتكرارًا وأحيانًا تمتد لسنوات. ويمكن أن تعاودك مع كل حدث من شأنه أن يعيد تلك الذكرى، وما يمكن قوله أن الشاعر عيسى الشيخ حسن لم يتخلص من مشاعر الحزن على فقدان الأب لأنه لم يعيش تجربة الفقدان كاملة ولا تحققت أعراضها بشكل يرضي الأنا الأعلى، وربما كان منبع ذلك أن الشاعر كان أكبر إخوته ومسئولا عنهم ولابد من أن يظهر بعض الجلد وإعلان عدم الحزن حتى يستطيع القيام بأعباء دوره الجديد في رعاية الأخوة مع الأم، وبالتالي ومع مرور الوقت ظلت مظاهر الحزن مؤجلة، ولما كانت الغربة والسفر للعمل بقطر (1999) واقع عاشه الشاعر أيضا بعد سنوات قليلة من وفاة الأب، إذ جاءت وفاة الزوجة أثناء غربته، وتوالت الأحزان بموت العديد من الأهل والأصحاب أو تركهم العمل وعودتهم لبلادهم وحدوث الصراع على السلطة داخل سوريا وهجرة وموت الملايين من الشعب السوري وما تتركه تلك الأحداث من أسى وحزن لدى الشاعر ، فكان أن توالت ألام الفقد الجديد مع الفقد القديم المؤجل ليهر ليظهر لنا الأب وكأن التسوية الأوديبية قد حدثت لتأتي صورة الأب /المعلم /الشيخ/ الصوفي ليقول لنا عيسى في آوخر ديوانه “مروا علي” .
أستعين بشيخي: “أبي”
فما زلت أحفظ صورته منذ سبعٍ وعشرين
ما زلت أعرفه
حين تنهض بسمته ملء أحزانه
أملأ كل البياض المتاح
بليلٍ يشبه هذا السديم
وأنثر برقاً خفيفاً
أجمّع فيه تفاصيل شيخٍ يمشّط لحيته
باسماً
رغم هذا السديم المقيم.
ويبدو أنه عندما قام الشاعر لاشعوريا باقصاء الأب – في ديوانه الأول – من العلاقة الثلاثية التي تضم (الشاعر والأب والأم) كأنه يلعب لعبة الحضور والغياب تلك التي كان يلعبها حفيد فرويد حينما كان يقذف بكرة الخيط ويخفيها ثم يحضرها ويقول مبتهجاً إنها جاءت، وكان ذلك الحفيد يفعل ما يفعله بهدف مواجهة غياب الأم عنه، وقد يكون مما زكى ذلك الشعور أن الأب كان كثير الغياب، وهذا يشرح لنا سر غياب الأب في هذا الديوان الأول للشاعر، حتى نجد ورود الأب في الديوان الثاني له (يا جبال أوبي معه) إذ يقول:
أي أم وأب يبعثان الحنين
ويتبدى لنا كيف جاء ذكر الأب على هيئة استفهام يفيد الشك، وغير معرف بـ ال “التعريف” – وفي مستدعيات الشاعر يذكر أنه في هذا البيت لم يكن يقصد الأب الحقيقي – وهذا يؤكد ما توصلنا إليه فيما يتصل بالموقف الأوديبي وبقاياه الموجودة في حاضر الشاعر. فالشاعر – في ديوان يا حبال أوبي معه – هو يوسف – طبعا متوحد به كما سبق وأوضحنا في دراسة سابقة (2007)- الجميل، صورة أبيه البهية والذي قد يتحقق ميلاده الجديد عبر غوصه في عمق الظلمة – الجب والغربة – مثلما كان يوسف الصديق كان عيسى الشيخ حسن يحلم بلقاء الأب ذلك اللقاء الذي جاء في الديوان الثاني، وربما يفسر ذلك سيطرة مفردة الرؤيا وكأنها إرهاص باللقاء المرتقب. ثم يتحقق اللقاء في ديوان “مروا علي” كما سبق ورأيت عزيزي القارئ.
لقد صدَّرتُ دراستي عن ديوان “أناشيد مبللة بالحزن لعيسى الشيخ حسن” (2007) بقول هنري برجسون: “كل كاتب أتى ليقول شيئا واحدا بعينه، وهو غالبا ما يقوله في أول انتاج له ، ثم يبلوره ، ويفسره ، ويؤكده ، ويعيد اكتشافه في جميع ما يتلو من انتاج ” . وبعد ستة عشر سنة قرأت خلالها كل ما كتب شاعرنا أجد العبارة صالحة لوصفه الآن والأدلة على ذلك كثيرة في هذا الديوان ، بعدما سيطر الحزن على الديوان الأول بكامله تسيطر على هذا الديوان ألام فقد الأصدقاء والأحبة وغيرهم ليقول الشاعر :
لم يكن ظل صديقي عالياً.. كي أستريح
حين آخينا البنفسج يا صديقي
كان ثمة إخوة نادوا علينا:
أن أقيموا أول الموتِ, ولا تنتظروا /
شفقا يبكي وليلاً يُستتاب
وكان ثمة أصدقاءُ تناثروا مثل الأهلّة
واستباحوا كلّ حزني / حين مرّوا
وارتقوا درج الغياب.
كان ثمة إخوة نادوا علينا
وتهادوا خوفهم في ليلِنا / و تعاموا
عن هزائمنا… طويلا
ومشَوا في النصّ ليلا
لم يرافقْهم أحدْ
فإذا كان الموت هو سلب للحياة، كونك غائباً عن الزمان والمكان، فإن المعنى المرادف لهذا الانعدام هو الغربة والمصاعب الجمة والحالة النفسية الرثة التي تعتري الشاعر السوري عيسى الشيخ حسن حين قال في تداعياته العذبة والمؤلمة في آن وهو المغترب الذي هجر دياره ويعيش في قطر “إن الحياة ليست حلوة هنا وليست حلوة في أي مكان آخر أيضا”، وخلال غربة عيسى الممتدة لربع قرن من الزمان فقد خلالها عددا من أفراد عائلته أو أصحابه وخلانه ومحبيه وزملائه، دون أن يتمكن من إلقاء نظرة الوداع الأخيرة على من يحب ويشارك بمراسم دفنه، وقرأة الفاتحة على روحه، وأحيانا المعرفة المتأخرة بحالة الوفاة أو المعرفة من خلال الصدفة عبر وسائل التواصل الاجتماعي وهنا يعبر عيسى عن حالهم وحاله معا .
كان ثمة إخوة
كتبوا على خد ّ الهواء رحيلَهم
ورموا على الورد السلام
فأورقوا
في أول البيتِ/ وناموا في القصيدة
كان َثمّة عابرون إلى الخديعة ِ
يكتبون أسماءهم بنشيدنا
ويسافرون إلى النهاية ِ
صحيح أن الموت هو الحقيقة المطلقة في هذه الحياة وهو مصير كل حيّ، إلاّ أن مشاعر الحزن والشعور بالفقد تكون قوية في حال البعد والاغتراب وقد مروا – ماتوا أو رحلوا عن الديار – أحباب وأصدقاء عيسى عليه ولأنه مشغول بهم نتيجة مشاعر الفقد العالية فقد كتب عن أولئك الذين رحلوا بالموت آخر أعماله النثرية ليقول لنا في مقدمة سرديات رمضان (2022) ولكنّي في هذا العام، ذهبت في منحًى آخر، إذ تذكّرت من خلاله وجوه الغائبين الذين أثروا حياتي، وأثّروا فيها، ومنحوني من المحبّة الشيء الكثير، فتذكّرت طائفة منهم، ولو امتدّ بي رمضان لتذكّرت ضعفهم. وقد كانت نماذج تمثّلني في حياتي الممتدّة ستّة وخمسين عامًا، فتذكّرت العمّ والخال والمعلّم والجار، والمثقّف والأمّي، والمشهور والمغمور، ولكنّ الذي يجمعهم أنّي التقيتهم في محطات الحياة المختلفة، فمنحوني من المحبّة ما يفيض على طاقة العرفان، ومؤونة السرد”. وهنا تتأكد مشاعر الحزن وألام الفقد لتظهر في “مروا علي” إذ يقول:
مرّوا عليّ
عرفتهم من نفثة ِ الحبر ِ القليلةِ
في سطوري
كنت عرفتهم … سرباً من الموتى
أطالوا في احتمالاتِ القصيدةِ
رفرفوا في أضلعي
فحسبت أن ّ خيامهم نُصبت عليَّ
و جـفـّـفت تعبي
وحسبت أن جهاتِهم طلٌّ خجولٌ
فانتمى في أضلعي دمع القصيدة ْ
وارتدى حزني دفاترَهم
مروا على ورقي… وكنت عرفتهم
عاثوا طويلا ً في السطورِ
وأولموا حبراً قليلا ً للمساءِ
وحلقوا في الحزن ِ ليلا ً ، ثم ناموا
ومع التسليم بحقيقة الموت وحتميته لكل حي حتى أن الحس الشعبي يعبر عن ذلك بالقول” وإللي ما يموت منين يفوت” وهنا يستسلم الشاعر للموت حين ينادي أصحابه فيقول :
لا تردّوا الموت إن نادى بكم
كنت عرفتهم مرّوا على بئر الحكايةِ
أولموا كلَّ الذئابِ
و زيّنوا موتي
وعادوا بالدمِ القاني
على صدر القميصِ
ونشعر بموت الأحبة وبفقدانهم أننا فقدنا قطعة من القلب وفي خسارتها ضياع لنصيب كبير من المشاعر والأحاسيس التي يعيشها المرء:
في دفتر الحزنِ العتيقِ
وعشتُ بهاءهم
لا أوّل الذكرى مسافةُ عاشقٍ تندى قصيدته
لا موتهم موتي الذي لبثوه أحياناً
لأشرب سيرتي من كهفهم
ولا خببي صدى خطواتهم …طالت
ولا كوخُ القصيدة ِ آيل ٌ للبحر
متكئاً على سفني
ولا يمني شآم
مرّوا عليّ
وأولموا حبراً قليلاً للمساء
وحلقوا في الحزنِ ليلاً
ثم ناموا

وهذا الفقد وألامه وما يفعله بنفس الشاعر المغترب تمتلأ به صفحات الديوان الثالث في تجربة الشاعر عيسى الشيخ حسن التي يظل الحزن أبرز ملامح تلك التجربة التي بدأت معه منذ ديوانه الأول ، وربما تستمر معه في أعماله اللاحقة التي نود الوقوف معها تباعا لمعرفة هل تطور الحزن في أعمال عيسى الشيخ حسن وأتخذ أبعادا خارج الذات ليشمل الوطن بكامله، هذا ما سوف نراه عند العودة لبقية التجربة الشعرية له.