أخبار عاجلة

خالد إسماعيل: غسان كنفاني ..حرب على الخيانة ودرس في معنى الأدب الثوري

 

فى الثامن من يوليو1972 ،اغتالت أيدي عملاء الصهيونية ،الكاتب الكبيرالمقاتل بالكلمة والإبداع “غسان كنفاني ” ،ولم يمت ،بل عاش فى قلوب أجيال لم تعرفه على المستوى الشخصى ،بل قرأت قصصه ورواياته القصيرة، النابضة بالصدق والانحياز الوطنى والطبقى ،دون التخلى عن جماليات الفن وما اتفق عليه القراء والنقاد من شروط لاكتمال العمل الأدبى ،ولعل تجارب أدبية مصرية كانت تدافع عن “الفلاحين ” أو”الموظفين” ، مثل تجربة “يوسف إدريس ” و”عبدالحكيم قاسم ” وغيرهما ، لكن الفارق كبيربين هذه التجارب المتعاطفة مع الفلاحين ، والتجارب النابعة من حياة الفلاحين ذاتها ،ولعل هذا هو سر اغتيال ـ إسرائيل ـ للكاتب غسان كنفانى ،فهو الكاتب الذى جعل “فلسطين” جوهرمشروعه الكتابى كله ، سواء فى الصحافة أو فى الأدب ، وهذا “التوحد” بالوطن ، لم يكن توحدا رومانسيا ، بل كان توحدا بالعرق والكفاح ، فى سبيل تحرير الأرض ،نابعا من فلسفة تقوم على اعتبار الإنسان الكادح ، جوهر القضيةالفلسطينية،أو بمعنى آخر، الربط بين ” القومية والهوية الثقافية ” والموقع الطبقى ،وحقائق التاريخ تقول لنا إن الفقراء هم الذين يفتدون الأوطان بكل ما يملكون ، ولأننى ـ مصرى ـ سوف أسوق أمثلة من تاريخ مصرتحت الاحتلال البريطانى “1882ـ 1956″،فالذى حدث عقب خيانة “الخديوتوفيق ” وطبقة كبار ملاك الأراضى للقضية الوطنية ، تقدم الفلاحون الفقراء ،وحملوا لواء الدفاع عن الوطن ، بكل ما تحوى الكلمة من معان ، حملوا السلاح ، وقدموا ما يملكون للجيش الذى يقوده “عرابى ” ،وهزمتهم الإمبريالية ، وسرحت الجيش وعاش المصريون مكسورين ،لكنهم لم يفرطوا فى “عبدالله النديم” ، خطيب الثورة العرابية ، الصحافى والشاعر، وعاش فى اختفاء داخلى لعدة سنوات ، ولم يستطع المحتل القبض عليه ، لأن الفلاحين قرروا عدم تسليمه وهو الذى انحازلقضيتهم وبالوعى الفطرى ،أحبوه وصدقوه ، ولما تفجرت ثورة 1919 ، تقدم الفلاحون والعمال وفقراء المدن وأشعلوا نار الثورة ، وكانت أولى شهيدات الثورة ،امرأة من الحى الشعبى ” السيدة زينب” بالقاهرة ، ولكن الارستقراطيةالزراعية ، والبرجوازية المصرية، خانت العمال والفلاحين وجماهيرالثورة وجعلتها “جولات مفاوضات ” مع المحتل ،وفى العام 1951 ألغيت معاهدة 1936 من جانب واحد ،ألغاها “النحاس باشا” وتقدم الفقراء وحملوا السلاح وتشكلت ” كتائب التحرير”،وظلت “حرب التحريرالوطنية” مستمرة حتى توقيع اتفاقية “الجلاء” فى العام 1954 وخرج آخر جندى بريطانى من منطقة قناة السويس فى العام 1956، وليعذرنى القارىء فى هذه الإطالة والاستطراد، لكن قصدى من هذا السردالتاريخى ، القول إن ـ غسان كنفانى ـ هو فى معركة تحريرفلسطين ، كان صورة حديثة من “عبدالله النديم” المصرى ، الذى جعل من الصحافة أداة للتحريض الثورى ، وكان خطابه يحمل الوعى الطبقى والانحياز للفقراء من العمال والفلاحين ، والعداء للبنوك الأجنبية والمرابين الأوربيين ،وهذا ما جعله خالدا فى قلوب الناس ونموذجا للصحافى الثورى ، وغسان كنفانى ،خاض حربا مركبة ضد أعداء كثيرين وليس عدوا واحدا ، فهو خاض الحرب ضد الذين يعتبرون الصحافة مشروعا استثماريا ، يحقق الأرباح ، بتقديم التسلية الفارغة للقارىء ، وضد الذين يعتبرون “الأدب ” مادة للحكمة والموعظة الحسنة ، وضد الذين يعتبرون احتراف الكتابة نوعا من التميز،يمنح صاحبه مكانة سلطوية ، وقدم الشهيد النبيل نموذجا للمناضل الثورى فى مجال الثقافة ، فالناس يعتقدون أن ” البندقية” وحدها هى التى تحارب العدو الصهيونى ، لكن الحقيقة أن “الكلمة” جعلها “غسان ” بندقية أخرى ، ولهذا ، اغتالته إسرائيل ، لتسكت قلمه الثورى المحرض للشعب الفلسطينى حتى يواصل معركة التحرير، ومعركة الانعتاق من “سماسرة الثورة”،الذين يظهرون فى النهارمع الثائرين ، و”يرقصون” فى الليل مع العدووأذنابه وعملائه ،ولعل إقدام إسرائيل على اغتيال “غسان كنفانى ” كان مهمة مكلفة بها من جانب “الامبريالية” والخونة المحليين أكثرمنه مصلحة مباشرة ، بمعنى أنها اغتالته بهدف “قتل النموذج “، فلايكون بين العرب “غسان”آخر،يعشق تراب الوطن ، وينحاز لطبقته الكادحة ويخلد تضحيات نسائها ورجالها ،وهذا الدمج بين “القومى والوطنى والطبقى ” هوالدرس الذى تعلمناه من “غسان كنفاني “،فهو مزج بين المكونات الثلاثة ، ولم يتخل عن عنصرى المتعة والجمال اللازمين لفن الكتابة القصصية والروائية ، والصحافية أيضا ،وما كان تفجيرسيارته سوى إعلان “نصر” لقلمه وموهبته وقدراته الفذة ، وبنفس القدركان إعلان هزيمة للكيان الصهيونى وعملائه ،ورغم أن الأجيال الجديدة من القراء المصريين ،قرأوا روايته ” رجال فى الشمس” وشاهدوا الفيلم المأخوذ عنها “من إخراج توفيق صالح ـ المخدوعون” ،إلا أن المهم هنا القول إن وزارة الثقافة المصرية طبعت هذه الرواية ، تحت ضغط انتفاضة الشعب الفلسطينى فى “غزة” وغيرها من مدن وقرى الأرض المحتلة ،وكنت محظوظا لأن صديقى الكاتب الروائى والقاص والصحافى ” حسين البدرى ” أتاح لى فرصة قراءة الأعمال القصصية والروائية للكاتب الشهيد،فعرفت قدرالرجل وموقعه فى الخريطة الأدبية العربية ،فهو صاحب إبداع سابق لزمانه ، وصاحب موهبة فريدة ، وأدواته الصحافية خدمت مشروعه الأدبى ،فالبساطة والجمل القصيرةـ التلغرافية ـ جعلت قصصه بمثابة شلال متدفق ، وحرفيته الصحافية ، خلصت قصصه ورواياته من الثرثرة ، فلاتوجدكلمة زائدة فى أى قصة له أو رواية من رواياته ،ورغم اعتماد تجربته على “الموضوع الواحد”، إلا أن القارىء لايحس بالملل ، ولا يصاب بالإرهاق الذهنى ، لأن الكاتب الشهيد، تناول موضوعه “كفاح الشعب الفلسطينى ” من زوايا إنسانية، وامتلاكه خصوبة التجارب ومعرفته التاريخ والناس جعلت كتابته صادقة ،تخترق القلوب وتستقرفيها ، وتعيش بتفاصيلها ومشاهدها ولغتها الجذابة ،الخاصة بالكاتب ، وكان رحمه الله صاحب لغة خاصة ، لايستعمل قاموسا مكرورا مبتذلا ، بل يخلق مفرداته وينشئها ، وهذا جعل تجربته كاملة البناء ،لها قوام وملامح ،ولها مذاق ،تجعل القارىء غيرالفلسطينى ، يشم تراب فلسطين ، ويعشق أمهات الشعب المناضل ،وهذه قمة لم يبلغها سوى عدد قليل من الكتاب ،فالكاتب الذى يستطيع أن يعبرعن ثقافة وطنه ، ويستطيع أن يجعل من إبداعه كتابا حاويا تفاصيل ثقافته ،هوالكاتب القادر على البقاء فى وجدان الناس ، و”غسان ” امتلك القدرة على التعبيرعن ثقافة فلسطين ، وامتلك القدرة على التعبيرعن “فقراء فلسطين”،وفى الوقت الراهن نحن فى حاجة لتعلم الدرس الذى بذل “غسان كنفانى ” حياته من أجله ،أقصد درس “الأدب الثورى” ، فهذا الأدب تحاربه دوائر”العولمة الأمريكية” ، وتحاول القضاء عليه ،وتروج لأنواع أخرى من الآداب المتخلية عن الانحيازات الطبقية والقومية والوطنية والإنسانية ،وهى آداب أنانية ، فردية ، تجد لجان التحكيم التى تجيزها ، وتمنحها الأموال ، ولكن “غسان كنفانى ” والسائرين على دربه لن يهزموا ،وسوف يبقى “غسان” النموذج فى قلوب الشعب الفلسطينى والشعوب العربية خالدا ،بموهبته ومنجزه وتجربته وتضحيته .