أخبار عاجلة

“خيري حسن” يكتب: (حنا..ويحيى.. ونحن هنا )

(حنا..ويحيى.. ونحن هنا )

“يا مصر”..
اللي جايبة الشجر من زمان
وشايلة الضفاير على البرتقان
وقبل الأوان اللي قبل الأوان
بتحييني أنفاسك المسعدة”

(مدينة المنصورة – 1930 )
كان اليوم هو 8 يوليو/ حزيران من ذلك العام عندما استعدت تلك المدينة البعيدة، الهادئة، الجميلة، السعيدة، لاستقبال مصطفى باشا النحاس، ومن معه من رجال حزب الوفد – حينذاك – فيما استعدت حكومة إسماعيل صدقي باشا بمنع سفرهم عن طريق قطار الدلتا، وفتحت كباري الجسور حتى لا يسافر الركب الحزبي بالسيارات. وفي المقابل انتشرت عساكر البوليس، والخفراء، والمخبرين، والبصاصين، والعسعس، وأحفاد الشياطين، وأغلقت شوارع ودروب، وجسور المدن والقرى والعزب، وغمرت الحكومة الشوارع الرئيسية ( بالزفت والقطران) – حسب وصف صحف ذلك الزمان – لمنع الجماهير من استقبال النحاس باشا.
•••
يا مصر:
“يا حلوة كلامك تحبه الودان
يشمسني في الدروة زي الميدان
يمشيني بين الحيطان الغيطان
عروسة وحصان في القمر والعدا”

(المدينة – بعد وصول الباشا)
الأهالي من العمال والفلاحين والطلبة يهتفون للدستور، والحرية، والاستقلال، وفي وسط الجموع الحاشدة، الثائرة، الغاضبة، كان هناك شخصًا ما يستعد لضرب النحاس في مقتل! وكان بجواره سينوت حنا ( أحد رجال مصر الكبار والعظماء) الذي أدرك بسرعة خطورة الموقف. بعد دقائق قال لصديقه حامد جودة:” أشعر بوجود خطة دنيئة دبرتها حكومة صدقي باشا لاغتيال النحاس باشا.”
– وما العمل يا حنا؟
” نلتصق بجسده ( يا جودة ) حتى لا يتعرض الرجل لمكروه ويموت! الآن الجماهير تحتشد…ومحمد بك الشناوي رئيس لجنة الوفد بالمدينة يشرف على اللمسات الأخيرة للغذاء الذي أقامه في بيته للزعيم ومن معه، وخطة الجناة تسير في طريقها المرسوم والمحتوم نحو قتل النحاس باشا!
•••
يا مصر:
“عنيكي تغمض وتفتح يبان
سطوح الليالي عليه الأمان
وبحر الدره من ورق لامتحان
وبتغني موّالي يا مولّده”

( منزل الشناوي – بعد 60 دقيقة)
توقفت السيارة أمام البيت، وأسرع سينوت حنا ( المسيحي) إلى سيارة الباشا وألقى بجسده عليها استعدادا لما هو آت! أما زميلة حامد جودة فوقف يفرق الزحام ويبعد الجماهير الثائرة. بعد لحظات لمح سينوت شخصًا ما يسدد (حربة) غادرة، قاتلة، نافذة إلى صدر النحاس، فما كان منه – وبكل تضحية وإخلاص – إلا أن أسرع، وتصدى للطعنة، فانغرست في كتفه، وانكسر النصل في جسده، وتدفقت الدماء على ملابسه، وملابس النحاس!
•••
(الجيزة – صباح اليوم التالي)
عاد الركب للقاهرة، وأعلن يوم 9 يوليو عن موت سينوت حنا متأثرا بالطعنة التي تلقاها.. بعدما عاد إلى منزله وفشل الطب في إنقاذه. مات الرجل بعدما دفع حياته ثمنا لدفاعه عن النحاس باشا…وهو عندما فعل ذلك لم يكن – فيما اعتقد – يدافع عن شخص ( وبالطبع النحاس باشا يستحق الدفاع عنه) ولكنه فعل ذلك دفاعا عن الوطن…
•••
يا مصر:
“بحبك كأني طليق العنان
وزي العجوز اللي دق البيبان
وزي الكتاب اللي كان ياما كان
وزي الرصيف اللي في السيدة”

( الجيزة – بعد مرور 93 سنة)
في يوم الأحد الماضي وفي ظل حرارة الجو الملتهبة يقف شاب مسلم اسمه يحيى في شرفة منزله بمنطقة إمبابة ( غرب القاهرة ) من قريب يلمح دخان متصاعد من مبنى كنيسة ( أبو السيفين ) القريبة من بيته…يقفز في لحظات، ويجري في هرولة، وينسى شرفته، وبيته، ونفسه واسمه، ودينه، وشبابه ويصعد – مع مسلمين آخرين – إلى مصدر الدخان لينقذ أرواح من بالداخل وبالفعل ينجح في إنقاذ رجل مسن عمره 65 عامًا فيما منعته الإصابة التي تعرض لها – أثناء عملية الإنقاذ – من مواصلة بطولته، وإنقاذه لآخرين…
•••
( القاهرة – بعد الحادث بأيام)

الذي فعله الشاب يحيى – المسلم هنا – وفعله من قبل منذ 93 عامًا سينوت حنا – المسيحي هناك – لن تجده يحدث في واشنطن ولا باريس ولا برلين ولا غيرها من عواصم العالم..لماذا؟ لأن هذا الذي حدث – ويحدث – وسيحدث – في مصر لم يكن – يحدث – بدوافع دينه ولا بدوافع ثقافيه، ولا بدوافع أخلاقية( وبالطبع كل هذا متأصل ومتجذر في الشخصية المصرية ) ولكنه حدث بدواعي انسانية…وإنسانية ( المصري / القديم – والحديث) أصلها، وفصلها، وجذورها هي ( الحضارة ) التي تجري في الجسد المصري مجري الدم…ومجري النهر!

خيري حسن.

• الأحداث حقيقية.. والسيناريو من خيال الكاتب.

الشعر المصاحب للكتابة للشاعر الكبير فؤاد حداد.

الصور:
سينوت حنا.
الشاب يحيى.