أخبار عاجلة

قراءة منال رضوان في المجموعة القصصية “بجوارك بينما تمطر” للكاتب والقاص المبدع محمد عبد المنعم زهران

دراسة بقلم.. منال رضوان

(بجوارك بينما تمطر )- بين تمازج الأصوات السردية وإبداعية التصوير:
– بجوارك بينما تمطر، مجموعة قصصية للكاتب القاص والشاعر محمد عبد المنعم زهران ، تتألف من إثنتي عشرة قصة، فبين قصص تزخر بالخيال وإشغال بنية العقل من خلال تبسيط عدة أمور وأحداث يومية ومزجها باللقاءات التلقائية بين أبطال الحكايات، ترتكز البنية الحوارية لدى محمد عبد المنعم زهران في هذه المجموعة على حبكة داهشة تجعلنا نقف معًا على عدة أنساق غاية في الأهمية والاتساق؛ إذ تطرح قصصها إشكالية الحقيقة والوهم والواقع والخيال من خلال التمازج السردي والتشظي الزمني والمفارقات المتلاحقة المحمل النص بها ، كما أننا نستطيع أن نلمس وبقوة اللعب على
مفارقة الموقف، التي تبرز فيها الكفاءة الإدراكية لقاص يعرف إمكانية تحويل الغموض إلى شغف والجنون إلى وعي و محاولة الإقدام على بنية قصصية غير مألوفة أو تشكيل فني مستحدث دون تردد سردي أو اهتزاز
أو تفاوت في القصة ذاتها أو في مجموعته بشكل عام.
وستتناول هذه الدراسة ثلاث قصص لتبيان مساحات رائقة تَجوَّل زهران فيها
ليقدم لنا متعة سردية غاية في التفرد.

القصة الأولى :(لم أكن هناك.. لأنه)

– أزمة الإنسان التائه وعلاقته بعبث المكان: –
إحدى أهم قصص المجموعة (لم أكن هناك.. لأنه) وتدور الأحداث حول كاتب يتحدث عن محاولته الأولى في الكتابة وكتابه الأول الموجود أعلى الرف الخشبي المغطى بورقة من صحيفة مزينة بخبر عن شخص يدعى (عبده) كما يروق للسارد أن يناديه، أشهر سباحي عصره وعابر المانش وتمساح النيل والكثير من العبارات البطولية الخارقة التي وصف بها البطل صديقه الذي ربما لم يقابله إلا عبر مفارقات تتجلى صورها وتبرز أحداثها خلال السرد فتجده يقول له:
(ويا المصادفة العجيبة يا عبده عندما قامت زوجة الحاج المهووسة بترتيب الأشياء، بفرد صفحة جريدة – تحمل إنجازك العظيم وصورتك المهيبة على الرف الخشبي أسفل كتابي، لذا فقد أمكننا أن نلتقي أنت في جريدة تُستخدم كغطاء- ليس إلا – لرف خشبي وأنا فوقك تمامًا.)

– هذه العلاقة المتشابكة والديناميكية المثقلة بالاحتكاك والتوتر الناجم عن تأثير البواعث النفسية والمعاناة من التهميش وتردي الوضع الثقافي؛ حيث الصحف لا تستخدم هنا إلا كأغطية للرفوف الخشبية!

وهذا التفاعل فيما بين البطل المأزوم كمؤلف مغمور قبع كتابه الأول أعلى أحد الرفوف الخشبية المغطى بجريدة متهالكة تحمل صورة عبده السباح الماهر الذي عبر المانش ومدى خضوع هذه العلاقة للمفارقات الزمنية ووقوعها في أسر عبث المكان ( اللقاء هنا تخيلي فيما بين البطلين.. مجرد صورة جريدة على الرف المحمل ببعض الكتب) تكمن براعة التصوير لذلك السيناريو السردي المفعم بالانفعالات في صيرورته إلى واقع يؤثر ويتأثر بأزمة الإنسان المعاصر المأزوم والمهمش من خلال الاتكاء على المكان الواقعي والواقع العبثي .

فالبطل هنا (الكاتب) كصوت سردي غير مباشر يتكلم مع أحد أبطال السباحة الذي تحول بمرور الوقت إلى مجرد خبر وصورة على وريقة متهالكة لجريدة قديمة على رف خشبي – فنجد البطل يتنفس ويتكلم ويعيش من خلال مفارقة تحدث بينه وبين السباح المعتزل لتنتهي الحكاية بمفارقة عجائبية تحرك الذهن وتنشئ حاسة داهشة لدى القارئ لا تخلو بحال من المتعة، ومما يلاحظ في هذه القصة، تعدد أزمنة السرد فيما بين الحاضر والماضي والتداخل فيما بينهما مما يمنح الكاتب مساحة تمكنه من اللعب على تبادل الدورين فيما بين بطلي القصة بتناغم تام.

القصة الثانية: (بجوارك بينما تمطر)

علاقة مضطربة تقف على سطح من الألغام: –
– النموذج الثاني في هذه الدراسة هو قصة (بجوارك بينما تمطر) عن هذه العلاقة المضطربة والمأزومة فيما بين طرفين أو شقيقين يمثل الأكبر فيها القهر والظلم وربما يمثل البواعث النفسية الخفية الضاغطة على سير الحياة بشكل يميل إلى الهدوء ويمثل الشقيق الأصغر الطرف الأضعف المقهور الذي يقرر في انتفاضة مباغتة أن يقتل شقيقه للتخلص من أعباء السخرية المتلاحقة وهموم الهلاوس والخرافات التي يعاني منها الأخ الأكبر، فهو فضلًا عن تسلطه وتهكمه المستمر يؤمن بالكثير من الخزعبلات، كقراءة الطالع ويعاني الوساوس القهرية من الأمطار والتقلبات المناخية، وفي سياق الاعتراف بجريمة القتل نجد الصوت السردي غير المباشر ويمثله هنا البطل أو الشقيق الأصغر يقول:
( وعاودتك الروح الساخرة الفجة، فسخرت حتى مني أنا، أخوك الأصغر الذي كرَّس حياته لخدمتك والسهر على إخماد قلاقلك، سخرت من جوربي المثقوب حين نزعت حذائي لأجلس بأريحية معك على أريكتك…)
وهنا تتكتشف الدلالات الفعلية المستترة والتي حملت ايحاءات بمدى الظلم الواقع على البطل والذي جعله يتخلص من أخيه مع ترك مساحة من التوقع عن مدى ثقل الظلم الذي تعرض له الشقيق الأصغر، حاول زهران هنا أن يعطي القارىء مساحة من التحليل والتأمل لفهم العلاقة التبادلية فيما بين ما يكتبه وما يستخلصه المتلقي تأويليًا من بين السطور كما حملت القصة في طياتها رسائل مشفرة اشتغلت على تشابك العلاقة الإنسانية ومدى تأزمها بين شقيقين لا نعلم عنهما الكثير، لذا فإنه يمكنك أن تقرأ قصة (بجوارك بينما تمطر) من خلال أربع رؤى تأويلية: –

الأولى.. هي الإحالة إلى نظرية قتل الأب الشهيرة في علم النفس.
الثانية.. ميكانيزمية الإسقاط والتي تتمثل في قضية التعرض للظلم.
الثالثة.. يمكنك كقارىء أن تتلقاها أيضًا كحكاية حدثت فيما بين شقيقين.
الرابعة وهي الأشمل والأعم وتتمثل في ثورة الإنسان المعاصر على الأصولية
والجمود ورفض العبودية للخرافات والخزعبلات.

القصة الثالثة: (في شارع)

التمازج السردي واللعب على المفارقات الذهنية في عقول أبطال القصة:-
– تبدأ القصة بشاب وفتاة؛ لهما آمالهما وأحلامهما وتطلعاتهما، نظرات العيون تلعب لعبتها فتسري رجفة الإعجاب المحببة في أوصالهما، وربما تقرر الفتاة البدء في محاولة التقرب إلى الشاب، لكنها تتعرض لحادث سرقة أثناء عبورها الشارع مما يؤدي إلى سقوطها وتظل تنتظر الشاب الذي التقته قبل دقائق قليلة واتخذه عقلها الباطن كفتى الأحلام، والآن تراه بوصفه المنقذ والمخلص، لكنه كان على خلاف ما توقعت؛ آثر الهروب والتصرف بسلبية مخافة أن تظنه الفتاة – التي تنظر إليه بشغف – أنه من السارقين.

تلك المفارقة التي تحمل أمل الإنقاذ ومباغتة التخلي، لم تكن وحدها أروع ما في هذه القصة والتي كتبت بتقنية فنية غاية في الاتقان جمعت بين تعدد الأصوات السردية والتمازج السردي فيما بين البطل والبطلة فتجد الشاب على سبيل المثال يبدأ عبارة لتلتقطها الفتاة وتكمل عبارتها، ولتوضيح التمازج السردي في قصة (في شارع):
(ورأيتها تضع أول قدم على الرصيف ورفعت رأسها إليّ..
… ورأيته أمام مقهى واقفًا متحيرًا كأنما يفكر وفجأة نظر إليَّ)

وفي نهاية القصة نجد أن كل طرف من طرفي هذه العلاقة الوامضة قد اتخذ سبيله في بحر الحياة الطاحنة وآثر الغرق في طريق ملآنة دواماتها بالمصادفات المبتورة، بينما تكتفي كاميرا ذاكرته بتسجيل لقطة آنية ربما ستظل باقية إلى الأبد بلا تفسير مقنع لأسباب الحدوث أو تبرير لسوء الفهم لفك الملغز اللحظي الذي أدى إلى اشتباك فيما بين شخصين لعبت معهما الصدفة دورها في اللقاء ولعب القدر دورًا مضادًا في الفراق.

وبوجه عام تميزت مجموعة محمد زهران بالتنوع في تسجيل ومضات حياتية استخدم كاتبها فيها الأسلوب المحفز الذي يجعل القارىء منتهبًا يقظًا، يقرأ بإمعان ما بين يديه من كتابة، كما تميزت كل قصة فيها بحمل بنية مترابطة موضوعية مكثفة ذات حبكة فنية عالية حتى وإن بدت الفكرة بسيطة وناعمة لكنه قد تم تقديمها في إطار غاية في التمكن.