أخبار عاجلة

د. جيهان الشندويلي تكتب: حين يكون “الظل” سبيل النجاة الوحيد

في هذه السطور؛ تقدم الكاتبة لجمهور الموقع الإخباري الرسمي لهيئة الكتاب “المعرض”، قراءة نقدية فى رواية (أرض بلا ظل) للكاتب محمد عبد العال الخطيب الصادرة عن دار نشر دوّن 2022 .

يعد موضوع بناء دولة ديكتاتورية خيالية واحدا من الموضوغات الأثيرة عند الروائيين، يتفننون به، يبتكرون له التقنيات و الطرائق ولا أظن أن قارئا يمكن أن ينسى رائعة جورج أوريل 1984 أو رواية ماركيز (خريف البطريرك) أو نوفيلا مجيد طوبيا (الهؤلاء) وعلى هذا السبيل بنيت رواية (أرض بلا ظل) التي نريد تفكيكها فى هذا المقال.
تدور أحداث الرواية في مستقبل قريب، ما يوحي باستشراف الكاتب له، فثمة حطام كوكب ضخم، يتجه إلى الأرض ويقترب منه، و تلك تجربة مخيفة صيغت في قالب فنتازي درامي، تقوم الرواية على تخيل أهمية للظل،  لا يعلمه كثير من الناس ، ولا تعول عليه كثيرا؛ ولم يخطر ببالهم ما الذي يترتب على فقده؟ فالراوي يتصورذلك أمرا خطيرا وبخاصة إذا علمنا أنه هو الوسيلة الوحيدة للنجاة من الأرض بعد اصطدام هذه الصخور بها.
افتتح الكاتب الرواية باستهلال؛ يهيىء المتلقي لما سيخوضه من بحور السرد، زوج و زوجة بفندق ، وحياة خاصة مأزومة ؛ يفك شفرتها الكاتب بآخر جزء فى الرواية؛ بعدما جعل القارىء يقدح ذهنه لمعرفة ما العلاقة بين موضوع الرواية الرئيس و بين هذا المشهد الأولي.
تبدأ المشكلة حين يفاجأ الناس بكارثة تصيب الأرض ويعجز عن حلها حكوماته ، اختفاء الظلال بسبب وقوع حطام كوكب ضخم عليها وخوف أهلها من تلك الصخور التي ستبيدها؛ في واقعة مخيفة يعيشها سكان الأرض تختفي على إثرها ظلال البشر، وتؤدي إلى اختفاء الظلال.

وقد تبعث الرواية رسالة للقارىء مفادها: عزيزي القارىء يمكن أن يكون واقعنا الحالي مأزوما اقتصاديا واجتماعيا وصحيا؛ لكنه ليس الأسوأ ، فالتطور العلمي العالمي؛ قد تواجهه أحيانا معضلات ؛ تجعله عاجزا عن حلها أو الصمود أمامها.

يحيك الكاتب بخياط حرير رواية يبلغ فيها حدا من التشظي يصيب الهدف لكنه يجد متكأ في الواقع يمهد لفكرته وهو أزمة فيروس كورونا؛ ما يجعلها فكرة غير بعيدة عن ذهن القارئ.

بما إن ثقافة أى مجتمع هى علامة راصدة كاشفة لمنحناه، و مدى تأثره شعرا ونثرا وفنا بما يقدم فيه، فظهرت هذه الرواية تعبيرا عن الوضع الراهن، فنحن بإزاء رواية هى ابنة للظرف الاجتماعي والسياسي والنفسي المعقد الذى يعيشه العالم ونحياه جميعا، فهو يشكل الرحم الحقيقي لكثير من النتاجات الأدبية الحالية التى يسعى مؤلفوها لخلق عملا إبداعيا يُستشرَف من خلاله المستقبل في ظل التواصل الرقمي والتلاقح الفكري والثقافي.
تكتسب الرواية خصوصيتها من فكرتها النابعة من الحاضر والمقاربة السوسيو- سيكولوجية؛ المتأثرة بما حدث للعالم جراء الإصابة بفيروس شرس غير معلوم، وما ترتب عليه من أحداث عالمية شهدناها وشهدنا عليها.
تبدو هذه الرواية صوتا باحثا بلهفه عن الفكرة الجديدة؛ فكرة (الظل) وماهيته التي جسدته و أفادت منه و جعلت العالم كله يبحث عنه بل راح يتصدر أخبارالعالم ، فهو محور الرواية بشخوصها و مفرداتها اللغوية ،  وأصبح الظل هو البطل الرئيس في عالم مواز.
أما الظل الذي تقترن به الرواية ، تلك البقعة المعتمة الممسوحة الملامح، فهومع الوقت يصير الشغل الشاغل للعالم؛ فالجميع يبحث عنه ويرى في اختفائه هلاكه.
تبدأ الرواية بعدد من العتبات التي أضفت عليها صفة الغموض وأزاحت الستار شيئا فشيئا وربما يصبح القارىء أسير الشغف لمعرفة إلى أين تسير الأحداث.
فمفتتحات الفصول وختام الرواية تجمع معاني أرادت بها الرواية أن تضعنا أمام تفسيرات شتى، سجين المشتري، كوكب النبهاء، زيارة غامضة، بلا عودة.
جاءت صورة الغلاف معبرة عن المحتوى واختير الغلاف بشكل فني ما يساعد القارىء على وضع حاجز عند الصفحة التي يريد.

العنوان (أرض بلا ظل):
جاءت الكلمات نكرة وفي سياق النفى لتدل على العموم ولتعظم من حيرة القارىء أى أرض و أى ظل؟ وهل هو الظل بمعناه المتعارف عليه، العالق في ذهن المتلقي بصورته النمطية المتخيَلة.

تعكس الرواية واقعا وجوديا وثقافيا مأزوما تتربع فيه دول قوية؛ تأخذ كل ما تجود به الطبيعة لتبقى هى الوحيدة على القمة.
استطاعت الرواية أن تسجل فكرة من نوع جديد  دراما الفكرة التي تعبر الزمن، فكانت الفكرة هى البطل الرئيس في الرواية والأبطال ماهم إلا أدوات لتطويع الفكرة، فيجد القارىء نفسه قد ركب سفينة الزمن وعَبر بها إلى المستقبل.

قد تكون الدلالة الرمزية للظل، ذلك الكائن الغرائبي؛ الذي تبرع العين في رصده ،أنه هو الملاذ لسكان الأرض ويرتبط  في الأذهان بالطبيعة وقد ذكره الله في غير موضع ،على سبيل المثال قال تعالى في سورة (الفرقان:45): ” ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا” صدق الله العظيم.

أما عن رمزية جزء الحطام الضخم الذي سقط على مصر، والذي كان يريده العالم كله فهذا ليس بغريب على مصر، فالدلالة الرمزية للصخرة المصرية المستعصية عن العالم الكل يريد حالة ليستظل بظلها وليبحث عن ظله عن طريقها.
ولا نرى ما يسوغ تفسير الإشارة المستمرة إلى مكتب الاجتماعات البيضاوي فهى واضحة الدلالة.

أما شخصية باهر؛ (رجل الظل)أو رجل القانون، المحقق الأمين الساعي للحقيقة، وهو يحاول الخروج من هذه الأزمة مستقصيا، محققا بغية الوصول إلى حل فيما أصاب العالم ، شخصية ذكية وجريئة وجوهرية في الأحداث.

فى المفتتح “احتجب قرص الشمس بالسماء الملبدة بالغيوم والتي سرعان ما تحولت إلى أمطار غزيرة جادت بها أبواب السماء “ص5 .

فالرواية بداية تكرس من جملتها الأولى في حالة حجب الشمس عن الأرض وظلام جزئي يسيطر على الكوكب، مما قد يدفع القارىء لتأويل ما يتضمنه العنوان من إيحاءات و تداعيات للأحداث والأفكار، وتنتشر فكرة الفرار إلى كوكب آخر، بينما يستحيل ظل الإنسان إلى أثمن ما يمتلك.

ويصل العالم إلى مرحلة من العمى الجزئي نتيجة تكاثف الضباب على الأرض؛ فله أعين لكنه لا يبصر فجعله يرى ببصيرته لا ببصره.

أظهرت الرواية عجز العالم عن التصدي للكوارث الطبيعية و أظهرت أن مصر حباها الله من خيراته وجنبها الكوارث.

( أرض بلا ظل )، تنتمي لجنس الخيال العلمي الماتع ، تلك الروايات التي تكون في الغالب بعيدة عن الواقع الحقيقي، يجسد فيها الكاتب عالما موازيا خفيا قد يجعل القارىء يعيش معه ويتماهى فيه؛ فهى رواية مشوقة أشبه برحله إلى المستقبل لكنها تحمل عناء الخوف منه.

ولأننا نفتقد الرواية التي تجسد الغرابة والجمال في آن، تأتي هذه الرواية تمزج الخيال بالواقع في مشهد درامي مفعم بالإثارة والتشويق وبأسلوب متجانس، يمزج  بين الفلسفة الدينية والمقاربات السياسية والتشويق ما قد يجعل القارىء يستهب في قراءة الرواية دون ملل .

“نهضت تجاه النافذة وحاوت إزاحة الستائر الحديدية على الفور، كانت أنفاسها تتلاحق و كأنها تختنق، ورغم صعوبة فتح تلك النافذة أو تحريكها، إلا أن قوة أنفاسها استطاعت تحريك معصمها بكل همة، وكأنها محرك بخاري، وبعد عدة دقائق فتحت النافذة بالقدر الكافي لكى تشبع عينيها من مشهد الأمطار والثلج المتساقط من السماء، والذي وجد لنفسه ركنا بقلبها هو الآخر” ص 7 .
يبدأ النص في تحريك عقل القارىء وتمرينه في مشهد مرئي محسوس نابض بالحركة، يجعلك تتفاعل مع هذه الأنفاس اللاهثة.

وما يؤخذ على النص نفسه تكرار بعض الجمل أكثر من مرة على الرغم من أنها فُهمت من المرة الأولى وأدت الغرض منها، مثل “صار لكل بلدة مبنى ضخم يضم كل الجهات الحكومية، لا تعمل كلها معا، بل يخصص لكل جهة يوم للعمل مع عدة غرف فقط في هذا اليوم، لتستغله في اليوم التالي جهة أخرى” ص 37 تكرر نفس المعنى بتصرف بسيط ص 39 و ص42 .

حبكة الرواية مكتملة الأركان ، قص مشوق أعجبت كثيرا برواية الكاتب المبدع محمد عبدالعال الخطيب ؛ فهو يمتلك ذائقة أدبية مكنته من الوصول للقارىء ولم يحجم الرواية عن التطرق إلى مناطق قد تهجرها بعض الروايات خشية سوء الفهم وخرق التابوهات.

يبدو أن الرواية أرادت الثورة على الصور النمطية اللصيقة دائما بالتفكير المعتاد تجاه الأشياء والأفكار، فكأنما استحالت الأفكارالتي تطرحها ونظرتها  إلى الأمور؛ ظلالا ساقطة من أجل خوض غمار رواية الخيال العلمي.

واختيار الظل بطلا رئيسا أضفى لونا وحركة وسيرورة زمنية داخل هيكل الرواية واحتلت هذه المفردة جل اهتمام المؤلف والقارىء على حد السواء ، كما احتلت حيزا مهما فى الرواية.
من الواضح أن الخلفية الثقافية والوظيفية للروائي تركت أثرها الواضح في لغة الرواية ومضامينها ومكنته من تناول الواقع بطريقة مغايرة.

يطرح المؤلف أسئلة وجودية حول فكرة الاحتجاب عبر تكنيك سردي مبتكر ولغة شفافة رائقة غير مستعصية خالية من التقعر اللغوي لم يكف فيها عن وضع لغته الخاصة في سياق الغرابة فما امتلكته فكرته من لا عادية أضاف إليها من رصيدة القانوني وأدواته الإبداعية ، كما استخد الرمز في غير موضع ليشير إلى بعض النقاط التي لا يريد أن يصرح بها.

وبعد فهذه رواية تستحق القراءة والتأمل فهى تستفز قارئها و تدفعه إلى التفكير في الطريق الذي يسير عليه العالم وتقرع أجراس الإنذار من مآل مجهول.

* الكاتبة أستاذ الأدب المقارن