أخبار عاجلة

عادل ضرغام يكتب: من التباين إلى التوحّد في رواية الهنغاري لرشدي رضوان

 

تعدد الخطابات والأنساق المتقابلة

من التباين إلى التوحّد

في رواية الهنغاري لرشدي رضوان

عادل ضرغام

في روايته (الهنغاري) يعتمد الكاتب الجزائري رشدي رضوان على استدعاءات تاريخية حقيقية مثل الموسيقار المجري فرانز لست الذي لقب باسم شيطان البيانو، ويعدّ واحدا من أمهر العازفين على تلك الآلة بالإضافة إلى كونه واحدا من المؤلفين الموسيقيين المؤثرين بشكل لافت على الموسيقى العالمية، صاحب الرابسوديات الهنغارية والفالس مفيستو، ومثل الشيخ قدور بن غبريط، مدير المسجد الإسلامي بباريس، بالإضافة إلى إشارات تحدد المدار التاريخي للراوية مثل الرايخ وهنريش هاملر قائد الشرطة السرية الجستابو أحد المسئولين عن إبادة الأجناس والأعراق الدنيا في الحقبة النازية ومساعده رينارد هيدريتش، وسالاسي المجري زعيم حزب الصلبان السهمية. ويستند إلى شخصيات متخيلة لها وجود حيوي وفعال لبناء مناحيه المعرفية التي يؤسس لها، مثل جينو ماتيوش الهنغاري المسيحي، ومسعود الجزائري المسلم، ويحيي المديوني الجزائري اليهودي.

من خلال هذا الثالوث المتخيل يشيد الكاتب عالمه الروائي في إطار وجود خلفية موسيقية لها حضورها المؤثر، فالقارئ أمام رواية تبجل الموسيقى وتعلي من شأنها، بوصفها طريقا للاقتراب والتوحد مع المتعالي واللامتناهي، وبابا للوصول واكتشاف المجهول في لحظة أبدية تتعاظم على الألم ومعوقات الحياة، فهي طريق يوحد ويصيّر التعددية الدينية والعرقية إلى تجل إنساني لا يحفل بالصراع. فاعتماد الرواية على رابسوديات فرانز لست في بنائها العام في تحويل فصول جزء منها تحت مسمى رابسوديات له تأثيره في تجذير الأنساق المتباينة، فجينو ماتيوش في هذه الرواية يعد امتدادا لفرانز لست من جانب أول في انفتاحه على التراث الغجري في بناء رابسودياته، وكأنه بهذا التوجه يظل بعيدا عن التمييز العرقي الذي يعد المثير الأساسي للحروب، بالإضافة إلى التمييز الديني والأيديولوجي، لأن الإنسان-إذا نظر إلى نفسه على أنه متميز- سينظر إلى الآخرين نظرة بها المزيد والكثير من الدونية.

فالرواية تقارب سياقا تاريخيا به الكثير من الخصوصية، سياق الحرب العالمية الثانية التي كانت سببا من خلال نتائجها وأحداثها لنير الأسئلة التي لا تتوقف، أسئلة ترتبط بالإنسان، وفكرة الانتماء للإنسانية وجدوى هذا الانتماء، لأنها-أي الحرب- تعيد الإنسان إلى ذاته بفعل المواجهة، وإذا كانت منطلقة من تمييز عرقي يرفع شأن الذات، ويمارس تقليلا وإهدارا لقيمة الآخر، فإنها تفتح الباب لأسئلة متصلة بالوجود، تزلزل القيم الكبري مثل العدل والمساواة بين البشر. فالحرب تشعرك دائما بالضآلة، وتنفي الوضع المثالي للذات، وتضعه في حيز المساءلة، ففي مواجهة واقع مطبق قائم على تمييز عرقي، لا مجال للإيمان بصورة متخيلة للذات الفردية أو الجماعية مزدانة بقيم مثالية. فبعد الحرب ودورها في زلزلة القيم والتصورات تقول الرواية على لسان ماكيتوش (لطالما اعتبرت نفسي جوهرة نادرة مصقولة بلا تكرار، ورجلا استثنائيا تفنن الرب في خياطته… اكتشفت أخيرا أنني مجرد ذرة غبار في مهب عاصفة قريبة).

الرابسوديات وتعدد الخطابات

استند الكاتب في بنائه لروايته على تعدد الخطابات بكل ما يحويه من التفاتات وانحناءات وتكرار من وجهات نظر قد تكون متباينة أو متجاوبة، فهناك خطاب الرابسوديات الذي يقدم على لسان الهنغاري ماكيتوش، فيقدم من خلاله قصة حياته التي تأتي في الرواية كأنها هبوط من انسجام في مدينة كابوشيفار، وهناك خطاب ماكسيم مراسل مجلة (نيوغرا) المجرية الطليعية اليسارية، حيث يبحث عن ماكيتوش وسرّ انقطاع رابسودياته التي كان يرسلها بانتظام إلى المجلة، وعن الرابسودية الناقصة، وهو خطاب لا يخلو من التشويق ووثيق الصلة بالخطاب الأول ومرتبط به.

وهناك الخطاب الأخير الذي يتمثل في يوميات يحيي المديوني الجزائري اليهودي، للكشف عن منطق البدايات وطبيعة النهايات الخاصة بالشخصيات الرئيسة التي عاشت في فترة صعبة من فترات التاريخ. تتقاطع الخطابات فيما بينها، لأنها تقارب الشخصيات نفسها في لحظات زمنية متباينة أو متطابقة، فهي تقوم في بعض الحالات بوظيفة إكمال الحكاية وترميم الناقص في كل خطاب على حدة، وفي بعض الحالات تقدم وجهات نظر متباينة لذات الحدث لتشكيل الفرادة الذاتية في تلقي الحدث لدى كل شخصية انطلاقا من الوظيفة المعرفية أو الأيقونية لكل شخصية. يتمثل الفارق في المكان والزمان، وفي قدرة هذا المكان على تخفيف الضغوط على الشخصيات، وفي زيادته وقياس أثره، بالإضافة إلى المقارنة بين قبول الآخر ورفضه ارتباطا بسياق حضاري خاص.

الرابسوديا مصطلح إغريقي يطلق على الرواة الذين ينتقلون بين المدن لإلقاء مقاطع شعرية من الإلياذة أو الأوديسة، ولكن بعيدا عن الدلالة التاريخية وتطورها من عصر إلى عصر، تشير الرابسوديا إلى تداخل المكونات في بنيتها، لأنها تقوم على التنويعات المحكية، حيث يتم تشكيل الحكاية عبر أصوات عديدة، من خلال المزج بين الخطابات التي تبدو غير متجانسة للوهلة الأولى، وعلى القارئ ان يعيد بناء الجزئيات للوصول إلى تصوّر شبه كامل لحكاية موزعة الأطراف والمسارب، فالشكل الرابسودي يتجلى من فقدان الوحدة الخطية، والقدرة على خلق الشكل الفني، وإعادة ابتكاره بطريقة مستمرة.

الرابسوديا السردية في نص الرواية تتشكل في إطار شهادة الذات على نفسها وعلى عصرها وسياقها الحضاري، فهي اعتراف ذاتي بالوجود وفق لحظة زمنية، وارتباط الرابسوديا السردية بالذات واستبطانها الخاص يجعلها بعيدة عن الخطاب النمطي الخطي، فتصبح وثيقة الصلة بالكتابة المتشظية ذات الطابع الحر المنفتح على لحظات أو تراث موغل في القدم. يتشكل خطاب الرابسوديا في الرواية من وعي الذات بوضعها الإشكالي، وارتباط السارد بمؤلف الرابسوديات المجري (فرانز لست) جعله وجها من وجوهه وتجليا له في انفتاحه على الهامش والمهمشين، وفي شعوره بمعاناتهم، فالرابسوديا في معنى من معانيها تمثل حنينا إلى الهامش وإلى الماضي، وتمثل محاولة دائمة للإمساك بهذا القديم المترسب.

وقد استند لست في بنائه لموسيقى رابسودياته إلى أسلوب الغجر في صياغة موسيقاهم، وذلك بعد أن قام بجمع ألحانهم في مجلدات تحمل اسم (ألحان مجرية)، وتستند الرواية إلى معلومة تاريخية تشير إلى أن الرابسودية رقم (20) لم تنشر. واختيار(لست) وموسيقاه بوصفهما خلفية يتحرك في إطارها النص السردي للرواية في جزء كبير منها له ما يبرره، لأن استناده إلى الموسيقى الغجرية انفتاح على مطلق الإنسان دون تمييز عرقي أو ديني، فكأنه يمثل وجها ناصعا للمحبة وللإنسانية بمعناها المتعالي عن الانقسامات التي تؤدي- في منطق الرواية- إلى نتائج كارثية، ففي السياق الحضاري للرواية المرتبطة بهيمنة الرايخ الألماني كان هناك بشر وأعراق مستهدفة مثل اليهود والغجر.

جاءت بنية الرواية مرتبطة ببنية الرابسودية الموسيقية عند فرانز لست باعتبارها موسيقى لها سمات تونالية مستمدة من الخليط الشعبي المجري والغجري التي يتمّ تداولها بين المهمشين من الفلاحين والبسطاء، وقد كان للغجر دور مهم في انتشار هذه الموسيقى، فالرواية- من خلال جزء الرابسوديات وخطابها- مهمومة بسيرة شخص شبيه بفرانز لست في تسامحه عمليا مع الغجر من خلال استيحاء رابسودياته من موسيقاهم، فماتيوش يقترب من كاتيكا الغجرية، ولا يخرج من عجزه إلا لحظة الاعتداء عليها من نسق مهيمن ومسيطر انطلاقا من تبعية المجر للرايخ الألماني في تلك الفترة.

هناك خطاب آخر خطاب الصحفي ماكسيم، وهو خطاب تابع للخطاب الأول، يتمدد في إطاره، ويتحدّ معه في جزئيات بالرغم من الفارق الزمني، فالصحفي في تتبعه لماتيوش في الشمال الفرنسي يتحرك في مكان من أماكن أحداث الرواية، ويتنفس الهواء نفسه الذي يتنفسه ماتيوش الذي تحوّل إلى الأب (لاخوس) الجديد، ارتباطا وبعثا للأب (لاخوس) الأول الذي أصّل لارتباطه برابسوديات لست، حيث فتح عينيه على التساؤل والمعرفة بعيداعن التسليم أو الانحناء المستمر. ففي هذا الخطاب تتأسس المنطلقات الفكرية والتشابهات والتباينات في السلوك والتوجهات بين الأنساق الضدية، وكذلك التمددات السردية لكل شخصية من خطاب إلى آخر، ومن وجهة نظر إلى أخرى.

في هذا الخطاب التشويقي الكشفي الذي يحاول فيه الصحفي ماكسيم البحث للوصول إلى جينو ماتيوش في الشمال الفرنسي في بيت مادلين والكنيسة، ندرك طبيعة التحولات التي أصابت بعض الشخصيات، بداية من مادلين في خطاب الرابسوديات التي تحولت إلى لوريت، وماتيوش في الخطاب الأول الذي تحوّل إلى الأب (لاخوس) في هذا الخطاب. أما الخطاب المتمثل في أوراق يحيي المديوني فهو خطاب يؤدي وظيفة الإكمال الخاصة ببداية الرحلة بين (مسعود) الجزائري المسلم ويحيي المديوني الجزائري اليهودي، مع الإشارة إلى الانفتاح على الإنساني في الجزائر أثناء الحرب العالمية الثانية من خلال الاستناد إلى مقولات جدة المديوني، ويؤدي هذا الخطاب عملية التتميم والإكمال السردي لنهاية الرحلة والشكل الأخير للشخصيات الذي يفضي إلى توحد ما، وإلى إحلال بعضها مكان الآخر، على نحو ما يمكن أن نرى في الجزء الخاص بنهاية ماتيوش، واقترابه من مسقط رأس مسعود، وتحوله إلى صورة أخيرة له تكمل عمله ودوره، بعد أن تمّ إعدامه بسبب اشتغاله بالسياسة ومقاومته للمحتل الفرنسي.

تعدد الخطابات في العمل الروائي يشير إلى طبيعة الرابسوديا التي يتولّد إيقاعها حرا أثناء العزف دون مواضعات سابقة، ولكنه قد يشير في الوقت ذاته إلى تقاطعات واستباقات وإلى انحناءات دلالية تظل مفتوحة محافظة على مدى خاص للتشويق، وتظل مفتوحة للاكتمال إلى أن يحين دورها وارتكازها كاملة في سياقها الكتابي والكشفي. فتعدد الخطابات يقدم للقارئ ارتحالات لحدث واحد أو لشخصية واحدة في أكثر من وجه، وأكثر من رؤية وأكثر من وعي. فحين تقول الرواية على لسان ماكسيم مراسل مجلة (إينوغرا) في مراسلة ثانية ليست للنشر مخاطبا رئيس التحرير (هل تفكر فيما أفكر فيه، هل تكون هي ذاتها لوريت صاحبة بيت المتعة التي جاء ذكرها في الرابسوديا، أكاد أسمع قهقهات بناتها في أرجاء البيت، وأسمع عزف مسعود على قصبته، وأشم رائحة سجائر جنود ديتريش)، سيتوقف المتلقي عند استباقات وارتهانات تنمو في فراغ، ولن يتمّ إكمال الدائرة الدلالية إلا بعد إكمال القراءة وبإصغاء وانتباه شديدين، للكشف عن ملامح كل شخصية ودورها.

تداخل الخطابات أوجد ما يمكن أن نطلق عليه خلخلة في ملامح البطولة، حتى لو كان عنوان الرواية مشدودا للهنغاري، ويضعه في بؤرة الاهتمام، مما يجعل شخصية جينو ماتيوش بتحولاته العديدة من جينو ماتيوش إلى التركي البكوش إلى الأب لاخوس أساسية، ولكن هذا التعدد أوجد مساحة مساوية وموازية للجزائري مسعود بغموضه وثباته، فأصبت أكثر جدارة في أن تسير جنبا إلى جنب مع شخصية جينو ماتيوش في تشكيل المناحي الفكرية للرواية، خاصة في ظل ذوبان الحوادث والشخصيات، وصعود الفكرة التي يتحرك في إطارها الجميع.

في كل خطاب من هذه الخطابات هناك مقاربة للموضوع من موقعيته ومعرفته وزمانية هذا الخطاب، فشخصية ماكسيم في بداية الرواية تقارب- لأن لديها وعيا مختزنا بالرابسوديات التي نشرت بالمجلة سابقا- وجوده والفضاء والأمكنة مقاربة مختلفة استنادا إلى معرفة لا تتاح إلا لرئيس التحرير والقرّاء غير المحددين، ومن ثمّ فهو حين يتحدث عن مسعود الجزائري وماتيوش الهنغاري، وبنات مادلين أو لوريت وجنود ديتريش الذين يهربون اللوحات إلى الرايخ يتشكل خطابه وفق دائرة تتكوّن من شخصيات لديها وعي بالسابق الذي لم يذكر في نص الرواية، ولم يتمّ الكشف عن تاريخ هذه الشخصيات أو طبيعة دورها. وهذا النسق التعددي وثيق الصلة بالإيقاع، وبمنطق الكشف التدريجي القائم على التقطير السردي بمنطق محسوب.

والخطابات ليست مرتهنة فقط بتشكل لغوي يختلف من سارد خارجي مراقب يقوم به الصحفي إلى خطاب سردي كاشف عن ذات تتلوّى في سوء تكيفها مع عالمها المحيط وأنساقه المطبقة، إلى خطاب متمم للنهايات ونتوءات البداية، ولكنها أيضا مشدودة إلى فضاء المكان، فهناك كابوشيفار في المجر، مكان السقوط من الدير(حيث يتوّحد جينو ماتيوش مع آدم)، من خلال فاعلية سلطة القوة القاهرة، وعنفوان التمييز القائم على الأعراق، وهناك في الشمال الفرنسي بيت مادلين الكاشف عن أثر الحرب على النساء وتحويلهن إلى سلعة ومساحة للانتهاك مع كل حرب. بين هذه الأماكن والفضاءات تتقاطع الأزمنة والخطابات، حيث تؤدي القوة دورها في إسدال الاغتراب والتيه، وطمس معالم الذات وانسحاقها، فتتحول إلى ذات مقموعة لا تكشف عن داخلها إلا في لحظات خاصة تتخلى فيها عن خوفها، على نحو ما يمكن أن نرى سلوك ماتيوش حين اعتدى الكومندان الألماني على الفتاة الخرساء.

من الأنساق المتقابلة إلى التوحد

في خطاب الرابسوديات يكتشف القارئ حالة من التوازيات والتقابلات بين أنساق وفصائل متباينة في التوجه ونقطة الانطلاق، وقد تشكل ذلك في خطاب الرواية انطلاقا من كونها خطابا مضادا لكل أصناف التمييز بين البشر، وهيمنة السلطة والقوة، ولقد استندت الرواية للاشتغال على هذا الخطاب إلى فترة كان أثرها السلبي والكارثي غير محدود، وظلت ذكرى سيئة لكل من يؤمن بالمبادئ الإنسانية من العدل والمساواة دون نظر إلى عرق أو دين.

تؤسس الرواية خطابها في سياق لحظة زمانية شديدة الخصوصية، من خلال اعتماد النازيين على أفكار الدارونيين في نهاية القرن التاسع عشر في تصنيفهم للبشر إلى أجناس تراتبية، وكل جنس يحمل خصائص جوهرية لا يمكن محوها أو التخلص منها، وقد ترتب- نتيجة لذلك- فكرة البقاء للأصلح، وقلت- والحال تلك- فرص التعايش واستيعاب وقبول الآخر. وقد طبق النازيون قوانين وسياسات عنصرية قائمة على التمييز بين الأجناس العليا والدنيا، وفي ظل ذلك تمّ التعامل مع الغجر بشكل مغاير لكل الثوابت الإنسانية من خلال عمليات التطهير العرقي في المجر وبولندا والاتحاد السوفيتي.

تشتغل الرواية في كل جزئياتها على محاربة التصنيف، خاصة في خطابي (ماتيوش) و(يحيي المديوني)، فهي تقدم خطابا مضادا من خلال تأمل النتائج الكارثية لفعل التمييز الذي يؤدي بالضرورة إلى الحرب، ومن ثم تحاول الرواية هدم أي رؤية متعالية للذات الفردية والجماعية التي تصاحبها رؤية متدنية في تمثيل الآخر، للانتصار عليه وتجذيره في مرتبة أدنى. وفي إطار ذلك تشتغل الرواية على تشكيل الإطارات أو الشخصيات المتجاوبة التي في تعاضدها تتباين مع أنساق أو إطارات أخرى في الوقت ذاته.

ويمكن معاينة هذه الإطارات أو الأنساق المتباينة بداية من موسيقى (لست) وانسيابها في مقابل موسيقى (فاجنر) بقسوتها، خاصة بعد الإشارة إلى أن الرايخ دائم الاستماع إلى موسيقاه، وبعد التيقن من أن(لست) بنى رابسودياته على الموسيقى الغجرية، وفي ذلك خروج عن النقاء الهنغاري الذي كان يغذيه السياق العام، فقد ألفها الموسيقار المجري- على حد تعبير نص الرواية- إكراما لأصدقائه من الغجر. فالإعجاب بموسيقى فاجنر ليس إلا إعجابا بذوق الزعيم، بعد أن عرفوا أن معبودهم هتلر لا ينام إلا على موسيقى معبوده فاجنر. ومن هنا يتأسس التقابل الأول بين موسيقى الصخب والحرب، وموسيقى الهدوء والسلام.

ومن خلال هذه الثنائية التي تتجلى بوصفها نواة للبناء تتشكل الأنساق في تقابلها وتباينها، ففي الإطار الأول نستطيع أن نضع- انطلاقا من الحركة والتوجه- جينو ماتيوش في ارتباطه الخاص بموسيقى (لست) ورابسودياته التي يعزفها لمرتادي وزبائن الحانة خادعا إياهم أنها لفاجنر حتى يتفادي سطوة المجموع الذي يتسم بالجهل مستندا إلى منطق القوة وحركة القيادة والسلطة، بالإضافة إلى ارتباطه الخاص بالغجر، ومحبته لكاتيكا الغجرية في جمالها وسلوكها، وارتباطه بكل مهمش مقموع، تقول الرواية عن ارتباطه بكاتيكا الغجرية وعلى لسانه (كانوا يرون في علاقتي مع غجرية خيانة للدم الهنجاري).

يمثل جينو ماتيوش في نفوره من القمع والبطش الوجه الأكثر صفاء للإنسان الذي يؤسس استمراره في بعض لحظات الحياة من خلال التعلق بسلطة المتخيل مثل تعلقه بصورة متخيلة للموسيقار لست وعودته على عربة تجرّها الخيول المطهمة، وفي بعض الأحيان يتغلب على قمعه في لحظات موجعة يحدث فيها تعدّ سافر على بعض المهمشات من الغجر، مثل صراعه أو عراكه مع جماعة فريتز في كابوشيفار من أجل كاتيكا، أو في اصطدامه بالكومندان الألماني أمام بيت مادلين في الشمال الفرنسي لمحاولة اعتدائه على الفتاة الخرساء (لارفيت)، ففي الحال الأولى بسبب كرهه للتمييز بين البشر على أساس العرق، وفي الأخرى بسبب الانتهاك القائم على القوة والسلطة والاحتلال. يؤيد ذلك أنه قبل قيامه بقتل الكومندان الألماني تمرّ بذهنه كل صور الانتهاك الإنساني السابقة فيتغلب على القمع والخوف والجبن، فقد حكم عليه بالسجن في نيريجهازا لمساعدة الغجرية كاتيكا على الهروب، ومن ثم نقله لجبهة الحرب، لأنهم بحاجة إلى أيد تأكلها الحرب، لا إلى أفواه تأكل في السجن.

وإذا كان جينو ماتيوش يمثل حجر الزاوية في تشكيل نسق المقهورين والخارجين عن الإجماع في التوجه العام، فإن القارئ يمكن أن يضع في حدود ذلك النسق مجموعة أخرى من الشخصيات مثل كاتيكا الغجرية وإليزا وزوجها راؤول، وصاحب الحانة ساندور وزوجته في مقابل جماعة فريتز التي تمثل الشعب الذي تحركه الشعارات الحزبية وسالاسي زعيم حزب الصلبان السهمية وزعيم الحزب الشيوعي الذي أصبح صراعه مع الحزب الآخر صراعا على التقرب من الرايخ الألماني، بالإضافة إلى مسئول الأمن في كابوشيفار الذي كان أكثر الشخصيات ثقلا في ذلك الإطار أو النسق في شعور الآخرين بالانسحاق، تقول عنه الرواية (رجل يجسد وجوده على الأرض معنى أن يعاقبك الرب على ذنوبك قبل أن تصعد إليه).

فحركة ونزوع هانس رجل الأمن في كابوشيفار مرتبطة بالسياق العام الذي يتحرك في نظرته للأجناس الأخرى من نظرة اصطفائية للذات على أنها الجنس النقي، يتجلى ذلك في قوله مخاطبا جينو ماتيوش (بائسة هي كابوشيفار، أليس كذلك؟ لكنها أكثر بؤسا بوجود أولئك الغجر الأوغاد، هل توافقني الرأي؟ قد أفاوض على وجود يهود بيننا، لكنني لن أفاوض على وجود غجري نتن). لكن قارئ الرواية يمكن أن يدرك أن فاعلية التراتب والتصنيف ظلت حاضرة داخل نسق القوة والسلطة، حتى بين فصائله المكونة له، أو بين الحلفاء الذين يؤيدون هتلر في حربه ويشاركونه في الاعتداء على الآخرين، وفي توجهه التصنيفي للأعراق القائم على درجة الصفاء للدم الآري، تقول الرواية (القطار مملوء بمئات الجنود من مختلف بقاع الامتداد النازي، تجمهر الرومانيون في العربات الأمامية للقطار، فيما اختلط الفلنديون والبلغاريون في قاطرات الوسط، أما نحن فقد التحقنا مع من تبقى من جنود في العربات المهتزة الخلفية، وتولى الضباط الألمان القيادة).

لكن حضور النسقين السابقين اللذين يتشكلان في سياق الهيمنة من جانب، وسياق المقموعين والمهمشين من جانب آخر يكشف في بعض الجزئيات عن أن هناك شخصيات تخطت حدود المشابهة في الإطار العام، أو الوجود في الجوار داخل النسق إلى حدود التماهي والتوحد، وكأنها أصبحت صورة للذات أو مرآة لها، بحيث لا يصبح هناك فارق كبير بينهما. أولى هذه الترابطات تتمثل في الترابط الموجود بين جينو ماتيوش والموسيقار فرانز لست بالرغم من الفارق الزمني، ولكن طريقة استحضار فرانز لست وفاعليته صنعت من ماتيوش امتدادا له، أو على الأقل أصبح وجها من وجوهه العديدة، وقد تمثل ذلك في المزاوجة والتوازي بين الرابسوديات الموسيقية والرابسوديات السردية التي تتضمن شهادة ذات على حياتها وعصرها وتقلباته المرهقة.

فقد ظل ماتيوش حاضرا وكأنه يعيد سيرة الموسيقار العظيم، حتى أثناء تشكله وتوحده مع الأب (لاخوس)، الذي بصرّه بموسيقاه، فهو يعيد ويؤسس في الوقت ذاته ارتباطه بالموسيقي المجري، ففي تحوّل ماتيوش إلى لاخوس جديد استند إلى معلومة شائعة عن الموسيقار تتمثل في كونه في السنوات الأخيرة استقر في الكنيسة الكاثولوكية، حيث كرّس جهده في إيقاع الأعمال الدينية المقدسة.

هناك في بعض الأحيان توحد مع (آدم)، فالرابسوديا أشبه بالحياة بكل مآسيها، فالخروج من الدير بسبب مخالفة تعاليم الدير والقراءة في كتب مرتبطة بالإثم والتجديف مشابهة لفعل السقوط من الجنة لدى آدم، ومعاقرة الحياة وفق تجربة ذات خصوصية. يؤيد ذلك التوجه في التلقي أن بداية ماتيوش والظروف الخاصة بظروف وتاريخ مولده وانضمامه للدير مغيبة، ولم يتمّ التوقف عندها سردا أو إشارة بالإضافة إلى حديث ماتيوش إلى الصحفي ماكسيم-في نطاق تحوله إلى لاخوس جديد- عن ثمرة الإجاص، وسعي أفعى الشيطان باتجاه آدم وحواء فأرشدتهما إلى التفاحة، وحديثه عن البداية الضرورية لكل نهاية.

لكن التوحّد اللافت للنظر في نص الرواية يتمثل في توحّد ماتيوش مع الجزائري مسعود، خاصة وأن الترابط بينهما ترابط يشير في تشكله إلى الوجود الإنساني المنفتح على العميق والمؤسس في نفوسنا دون معوقات الجنس والعرق، وكأن في هذا الترابط أو في هذا التوحد شكلا من أشكال المجابهة أو المقاومة لكل أشكال التمييز التي نراها متجلية في الحرب التي مزقت الجميع، ففي هذا الترابط إعلاء للإنساني في شكله العميق قبل الانزواء تحت الانقسامات بدعوى الدم الأزرق الآري.

يؤيد ذلك الاختلاف وتلك المغايرة طريقة تقديم شخصية مسعود للقارئ في خطاب الرابسوديات قبل خطاب الصحفي ماكسيم أو أوراق يحيي المديوني. فقد مارس النص الروائي نوعا من التقطير السردي في الكشف عن شخصيته، وذلك من خلال التدرج في الكشف، وفي كل مرة يترك القارئ أكثر تلهفا وانتظارا لإكمال حدود وملامح الصورة. ويمكن للقارئ أن يتوقف عند نهاية الرابسوديات الأولى ليدرك حجم التشويق والتقطير، وحجم وطبيعة الإطار الذي تشتغل عليه الرواية لتنميط مسعود الجزائري بوصفه سرا له هالة ذات خصوصية، فالرابسوديا الأولى تختم بقوله (لماذا أغرق في كل هذه التفاصيل قبل أن أخبركم عن مسعود؟)، ونهاية الثانية في قوله (كانت أصابعي ليلتها تشبه أصابع مسعود)، ونهاية الثالثة بقوله (كانت سماء كابوشيفار يومها مهتمة بي، كما كانت سماء سانتارنو في يوم ما مهتمة بمسعود)، وتختم الرابعة بقوله (كانت عيون إليزا في تلك الليلة تشبه عين مسعود).

لقد تحوّل مسعود في ظل ذلك التقطير والحضور إلى مقياس للوعي والإدراك، فقد أصبح جزءا من وجوده يمارس حضوره دورا في مقاربة الحياة والواقع. ولكن الأمر في نص الرواية لا يقف عند حدود التشويق فقط، بل هو وثيق الصلة بفكرة تأخير المواجهة أو الاحتشاد الداخلي للمواجهة، وهذا وثيق الصلة بطبيعة الرابسوديا المجرية القائمة على الحزن واللحن الجنائزي الذي يحتاج في تمدده إلى هذا الربط المبهم والمحير في تجلياته الموسيقية والصوتية والسردية.

التوحد يبنى على تشابهات عديدة، فكلاهما يكره الحرب ويهرب منها، وكلاهما مشدود للإنساني وللمهمشين. ومسعود على هذا النحو بالرغم من كونه الوحيد من بين شخصياتها الرئيسة لم ينل حظ التحكم في سلطة السرد، فقد تم التعبير عنه من خلال صوتين آخرين يشير إلى كونه- وإن لم يكن مهيمنا في أجزاء عديدة، ولم يكن حاضرا بصوته- مساويا للهنغاري، يقول ماتيوش (ها أنا أدرك مرّة أخرى بأنني أصبحت على هامش حكايتي، وبأن صاحب الوجه القمحي، عازف الناي الغريب، بات على متنها).

الرواية تمثل صرخة تحذير، لأنها مبنية على تجربة ومعاناة، فكتابة ماتيوش في رابسودياته كتابة استعادية بعد نزال الحياة، ومقاربة التباينات والاختلافات والتوازيات التي تتشكل في إطر متقابلة. هذه الكتابة الاستعادية تبدأ من لحظة النهاية والإدراك والمعرفة، ولهذا تأتي صورة مسعود في الرواية متفردة، وغير مقيسة إلى شبيه أو نظير، بل ومحاطة من خلال فعل التغييب وضميره السردي بشيء من التقديس في طريقة تقديمها من خلال نص سردي كشفي مقطّر، بالإضافة إلى توحّد ماتيوش معه في النهاية، وكأنه يشكل بانتقاله إلى مسقط رأس مسعود إحياء له ورفضا لمقتله وانتهاء وجوده، لأنه يمثل الثورة على كل أشكال التمييز والقهر والظلم، فمسعود ينطوي على معنى نبيل في كل حالاته حتى في لحظات هزيمته وانكساره.

نشر  بالقدس العربي الأحد 20 مارس 2022