أخبار عاجلة

د. “عادل ضرغام” يكتب: بنية التناظر وجدل الخيالي والواقعي في (الناظرون) لمحمد سالم عبادة

بنية التناظر وجدل الخيالي والواقعي
في (الناظرون) لمحمد سالم عبادة
عادل ضرغام
يقدم محمد سالم عبادة في مجموعته القصصية (الناظرون) كتابة مغايرة في إطاريها الشكلي البنائي والمعرفي، لأنه يستند إلى فكر ومعرفة وثقافة علمية وأدبية واسعة لبناء إطار ذي خصوصية للقصة القصيرة المشدودة للكثافة والانفتاح وعدم الإغلاق بنهايات دالة، فهي قصص تستعصي على النهايات أو على الإحساس بالنهاية، بل تظل منفتحة وممتدة، ومطروحة للتفكير، مثلها في ذلك الأمر مثل الشخصيات والمناحي الفكرية والمعرفية التي تسهم في بنائها وتكوينها من خلال تجليها.
كلمة (الناظرون)- وهي تؤسس وجودا مستمرا في كل قصص المجموعة باستثناء القصص التي تأبت على هذا الإكراه الصيغي- لا تشير إلى مجرد النظر أو الرؤية أو الإبصار، ولكنها مرتبطة بالتأمل والتدقيق، وكأن كل قصة تشكل مدخلا من مداخل المعرفة أو الإدراك أو تشكل جانبا أو جزءا من مقاربة العالم والارتباط به، وتقود نحو التأويل والتفسير. المعرفة في ظل ذلك إطار غير مكتمل وغير منته، ومن ثم تأتي مشدودة في قصص المجموعة للنقصان أو عدم الإغلاق. وغياب النهاية فيه إلحاح على فكرة الجزئية داخل كون أو أكوان عديدة، والجزء مساو للكل ويحمل سماته مثل الفرع الذي يحمل مكونات وأنسجة الشجرة بكاملها. القصة القصيرة جزء وكل في آن، جزء لأنها ليست منتهية أو مغلقة بنهاية أو نتيجة، وكلٌّ لأنها في ظل ذلك النقصان محتمية بذاتها، ومكتفية بنفسها، لأن من ضمن محدداتها أن تجذّر المتلقي وتغويه بهذا النقصان، فكل قصص المجموعة أشبه بالسلك العاري، حين تلمسه يولّد حالة انتباه دائم للفكرة وللإطار المعرفي، وتصبح الشخصيات والمكان في تعدده، والزمان في انفلاته أو عدم ثباته مجرد أدوات لبناء الفكرة وتشكيل الإحساس بها.
يؤيد هذا المنحى وعي المتلقي بكونها كتابة ترتبط بالتأمل والبحث الموضوعي، بحيث يبدو حضور الذات- بعيدا عن الشغف- مجرد خيط من خيوط عديدة تتآزر لتشكيل حدود هذا البناء. ويتجاوب مع ما سبق حضور المعارف التي تتوزّع إلى طبية وعلمية وأسطورية وأدبية، وهي معارف تحتاج إلى تأمل وإلى شغف خاص يقلل من حدة ظهورها، ويجعلها تطلّ بوجه مغاير، من خلال التغيير أو التقلييم في طبيعتها، أو من خلال الإكراهات التي يمارسها الكاتب لإسدال رابط موضوعي أو فني.
في قصص المجموعة خاصة في قصته (الناظرون عبر الورق)، يلمح القارئ عددا من الشخصيات الروائية والقصصية، بداية من إنجيل كلير بطل رواية توماس هاردي، ومرورا بسمر دياكوف في رواية الأخوة كارمازوف وآخرين، وانتهاء ببلانش ديبو بطلة عربة اسمها الرغبة لتينيسي ويليامز. وكل هذه الشخصيات الورقية- أي الخيالية- تأتي لتناقش أشكال الوجود أو مراتبه كما وردت عند الفلاسفة والمفكرين في حديث ماكبث، وإشارته إلى هذه المراتب: وجود في الأعيان، ووجود في الأذهان، ووجود في اللسان، ووجود في البياض (أي المكتوب أو الورقي). فيتولد نتيجة لذلك إطار معرفي يرتبط بجدل الواقعي والخيالي، وذوبان الحدود الفاصلة بينهما ارتباطا بالأثر الذي تتركه الشخصية التي قد تتعاظم- كجالاتيا- على مخترعها في الشهرة والحركة والاستمرار والحياة بسبب التأويل والتفسير المستمرين. ففي رأي ماكبث أن الوجود- ولا فرق هنا بين واقعي وخيالي- يمكن أن يبدأ من أي مرتبة ليمتد إلى غيرها.
استراتيجية التناظر
يبدو الفن – أي فن- مجالا خصبا للتناظر والتوازي، فطالما أن هذا الفن حقيقي، ويقدم معرفة منفتحة قابلة للإضافة وللتغيير والتبديل، فإن أي إسهام في مقاربة العوالم مشدود لمقاربات سابقة، ولشخصيات واقعية من لحم ودم أو متخيلة من ورق. ولهذا نجد هذا التناظر لافتا في تشكيل الفكرة، وفي إيجاد نوع من الإكراهات التي يشعر بها المتلقي.
فالقصص في هذه المجموعة تستند إلى استراتيجية التناظر والتوجيه، مما يؤدي إلى وجود فكرة التمدد والاستمرار، وهي فكرة ألحّ عليها بطل رواية (العنكبوت) لمصطفى محمود راغب دميان، وهي فكرة مهيمنة في قصص المجموع من خلال الكتابة الفعلية، فالشخصيات عبر المراحل الزمنية المختلفة تتباين أسماؤها، ولكن يظل الدور أو الفاعلية حاضرة بشكل مختلف، فهذه الشخصيات التي تتلاحم بالتناظر من خلال مناح فكرية، بها مساحات من التشابه، وبها مساحات من التباين. فالإشارة الأولى في قصة (الناظرون إلى السماء) في تحديد عمر الراوي لحظة القص تأتي وكأنها عفوية، ولكنها في الأساس تمثل إكراها من إكراهات الكتابة السردية، فهي توجيه متعمد لعقد تناظر على مستوى الفاعلية في إطار الاكتشافات الخاصة بكوكب الزهرة، فالتشابه في السن، بين أحمد زكي شيخ العروبة والراوي شيء يتم له البناء بعناية.
لدينا في هذه القصة تناظران، يؤسس الأول من خلال إكراهات سردية في الإصرار على وصف المرأة ولمعانها الوردي، تلك المرأة التي تجسّد كوكب الزهرة، فاللون الوردي في كل شيء يصنع هالة، تجلّت تلك الهالة- فضلا عن حجر قصر غمدان الموجود في المسجد الذي بدأت القصة أمامه، والمصنوع على هيئة رسم كوكب الزهرة إشارة للتقديس- في نموذجين يتمثل الأول ويتشكل حين تعيدنا القصة إلى عمرو بن لحي بوصفه أحد الوثنيين الذين ابتكروا الأصنام، وتمثاله اللات، ويجلى الثاني في أحمد زكي شيخ العروبة، وأشارت في إجابتها عن سؤاله عن سبب وجودها في باريس: لأني أحب اللت والعجن.
وإذا كان التناظر السابق بنموذجيه- بالإضافة إلى كتابي الزيج الشامل للبوزجاني، وفلسفة الوثنيين لثمسطس- يكفلان ويشيعان من خلال الهالة ملامح التقديس، فإن التوجه الآخر يأخذ مدى مغايرا أقرب إلى النفي والسلب من خلال الاستناد إلى الاكتشافات العلمية من خلال نموذجي (وجدي الكاشف)- احد رواد مكوك فينيرا 7 الذي أطلقه الاتحاد السوفيتي عام 1970 لمعاينة كوكب الزهرة كما تشير القصة- وعالم الفلك الدنماركي تيخو براهي. فمع هذين النموذجين نحن أمام معرفة تهشّم السابق بحيث تقصّ جناحي التخيل القديم، وتنفي الهالة القدسية المرتبطة بكوكب الزهرة لدى العرب الوثنيين قديما، وقد أسماه الإغريق (أفروديت)، واتخذوا منه آلهة للحب والجمال، وأطلق عليه الرومان اسم (فينوس) لشدة لمعانه.
والنتيجة في إطار هذا التناظر الثنائي على كل جانب مرتبطة بالعلم، ووضع كل شيء في إطاره، بعيدا عن المتخيل المقدس، فمع اكتشاف تيخو براهي لكوكب أشد لمعانا من الزهرة، خرجت الأخيرة من إطارها الأبدي، وأصابها ما يصيب جميع المخلوقات من الإحساس بالزمن، وظهور التجاعيد والشيب، فلم تعد على حدّ تعبير القصة (نجمة الصباح)، ومع الراوي المعاصر- في واحد من تجلياتها التي لا تحدث إلا كل ثلاثين سنة مدة دورانها حول الشمس- تحوّلت في النهاية إلى رائحة تشبه زبد البحر، والنحاس والطمث، وكأن القصة من خلال هذا التناظر تهشم الخرافة مقابل العلم، وتؤسس في الوقت ذاته لفاعلية المتخيل واستمرار تلك الفاعلية، فتجسيد الزهرة في صورة امرأة كل فترة زمنية يحمل إيمانا بقيمة المتخيل في تشكيل الوعي البشري والإدراك.
لكن في قصة (الناظرون في أعين أصدقائهم) يتأسس التناظر والتوازي من خلال شخصيات عديدة في إطارين متقابلين، ولكن هذا التناظر يأخذ توجها آخر، فهو لا يفضي إلى التطابق أو التشابه الكامل، وإنما يفضي إلى مساحة من مساحات الريب، ولكنه يظل موجودا وفاعلا، فالقارئ سوف يخامره شك بمساحة التطابقات بين الشخصيات المتناظرة مع اختلاف الفترات الزمنية والسياقات الحضارية في كل تناظر، فمع كل تقابل في كل حالة منفردة يشعر المتلقي أن هناك وحدة ما تتوزع إلى التنازع أو إلى الكره والمحبة والإكبار في آن، خاصة إذا أدركنا أن كل قسيم في كل تقابل يرتبط بنقيضه ويؤيد وجوده، لأن كل واحد منهما يستدعي الآخر، تكشف عن ذلك الصفات المسدلة على كل قسيم. فإذا أخذنا التقابل الأول بين الراوي و(ذ) نجد الأول (وحيد كفيلسوف برجماتي)، والآخر (ذ) (وحيد كشاعر رومانسي).
فهذا التقابل لا يفضي إلى تنافر، بل يفضي إلى استحضار حالة من حالات التكوين الإنساني، وكأن هذا الانقسام ليس لذاتين منفصلتين، بقدر ما يكشف عن ذات واحدة، يتوجه جزء منها نحو الكشف، ويتوجه الجزء الأخير نحو التواري والاستمرار مع مشكلات وإشكاليات الحياة والعقد الذاتية، فكأنهما وجهان لعملة واحدة أو لشخص وحيد أو هما على الأقل متكاملان، يمثل وجودهما بالرغم من التباين أرضية للاتساق في تكوين الفرد. وقد أثر هذا التناظر داخل الحالة الوحدة، إلى تعديل وتقليم في تناظر سابق بين (بيتهوفن) و(شندلر) مرافقه وكاتب سيرته الذاتية.
فالثابت تاريخيا أن شندلر كتب سيرة بيتهوفن بكثير من التوسع والتأويل مما أوجد مساحة ربما أقرب للتزييف أشار إليها بعض المراقبين والباحثين، ولكن القصة الآنية –انطلاقا من سطوة الناظر وأثره في خلخلة الواقعي- تشير إلى كتابة ثنائية يشارك فيها (بيتهوفن) و(شندلر) منفصلين، ويكتبان نصين متطابقين، وهذا يؤيد مشروعية التفسير الذي ارتضيناه، بأن الحديث قد لا يشمل ذاتين، وإنما هي ذات واحدة بتوجهات مختلفة ومتباينة، وكأنها تحاول أن تكشف سرّ هذا التباين، وتضعه في بؤرة الاهتمام والتركيز والمقاربة.
فكل تناظر(بين “الراوي” و”ذ”، وبين بيتهوفن وشندلر) يمارس دوره وعمله في شد الآخر إليه، فيفقد كل تناظر منهما جزءا من حدوده حتى نصل للتناسب، فيحدث تماه وتداخل بين الواقعي والخيالي، بين المتفق عليه والزائف، فيأخذ صورة نقيضه أو مباينه، فنصبح أمام نص له خصوصية من خلال ممارسته الحرة في إزالة الحواجز المدببة والناتئة بين الشيء ونقيضه. ولكن بنية القصة تؤسس توازيا أو تناظرا آخر يرتبط بعين الصديق لدى كل حالة، لدى بيتهوفن و(ذ)، بالإضافة إلى الانفتاح على تناظر ثالث يتمثل في عين الشر في قصة (القلب الواشي)، لإدجار ألان بو. في هذه القصة- يمكن أن نجد تأثيرها واضحا في قصته (الناظرون إلى أنفسهم) خاصة جزئية عدم انتهاء الحواس بسبب المرض، وانتقالها إلى عقد المرض العصبي في جسد جد الراوي (عوض) لتقوم هذه العقد بعمل العين والأذن والأنف- ليس هناك سبب لقتل الرجل العجوز.
في العين الأولى عين (ذ) نجدها في منطق الراوي (لم تبدُ لي طبيعية من البداية. البؤبؤ لم يكن مدورا بما يكفي لاعتباره طبيعيا)، فهي (أقرب إلى مستطيل صغير مخيف) و(تتحرك دخولا وخروجا)، وتشبه عين الأخطبوط، الحيوان الذي اختاره للدرس والبحث. أما عين الشر في قصة بو أو عين العجوز(فعينه أشبه بعين النسر، عين زرقاء شاحبة اللون)، و(ما ييثر غضبي ليس الرجل العجوز، بل عينه الشريرة)، اما عين بيتهوفن فيتوقف راوي القصة عندها قائلا( دخل شندلر غرفته فجأة فواجه عين لودفيج بيتهوفن المتسائلتين).
فهذا التناظر بين (العين) لدى كل شخصية يمارس دوره في تنميط التشابه، وفي إحداث انزياحات وتداخلات بينها، ويولّد مساحة للنظر، ولإعادة اكتشاف طبيعة العلاقة بين (الراوي)، يعيد طرح الفكرة المرتبطة بوجود ذات واحدة موزعة إلى نقيضين، أو وجود ذاتين بينهما صراع خفي. ولكن من خلال العودة إلى التناظر في قصة بو بين راوي القصة وبطلها- خاصة إذا أدركنا أن الرجل العجوز في القصة له سمات أبوة، أو أن الراوي يعمل لديه كخادم صديق- والعودة إلى علاقة بيتهوفن وشندلر يمكن أن يتسرب إلى حركة المعنى انحياز للتفسير الأول، أي توزع الذات الواحدة إلى نقيضين، يجب القضاء على واحد منهما، لكي يتأسس وجود فردي فاعل ومهيمن يقود الحركة ويحدّد التوجه، دون منغصات مشدودة إلى عقد سابقة مؤرقة.
يبدو أن الوصول إلى هذا الانحياز مهم في مقاربة الخروج عن هذا التناظر في عناوين قصص المجموعة، فبنية التناظر في عناوين قصص المجموعة مهيمنة، لتشير من جهة أولى إلى أن فعل النظر أو التأمل مستمر في إدراك العالم وتفسيره وفق توجهات مختلفة، فالمعرفة أو اكتساب المعرفة للوصول إلى تأويل مقنع لسلوك الإنسان تجاه العالم مدخل من مداخل القراءة والتلقي. ويشير من جهة ثانية إلى توجيه انتباه المتلقي إلى اختلاف حرف الجر، أو العدول من صيغة الجمع (الناظرون)، إلى صيغة المفرد (الناظر) في قصة (الناظر من أعلى) للتخلص من إكراهات ثبات الصياغة.
ففي قصة (الناظر من أعلى) يحمل العنوان من خلال التخلص من إكراهات التناظر في سياق المجموع، دلالة الانعتاق والبعد عن الرتابة التي يشيعها التدنيس بالارتباط بالمجموع، حيث يتم رصد الآخرين والمقربين، ورصد الذات نفسها، وكأن الراوي منفصل عنها، فيكشف عن إشكالياتها وعذاباتها الداخلية المؤرقة. النظر من أعلى – في تصوّر كثيرين ربما يكون نتشة أقربهم- يتيح الاتصال للرؤية الموضوعية، لأن العلو يخلخل وضعية الذات المحدود، ويجعلها تتسامى عن العمى الذي تسببه الرتابة والعادة والتدنيس في الالتحام أو الوجود داخل الكيان أو السياق. الخروج عن النسق بناء على معرفة موضوعية يظهر في السطور الأخيرة للقصة (أدع ثقلي يأخذني إلى أسفل إلى حديقة الدور الأرضي. اخلع حزامي العريض، وأحمل الكيس على ظهري، وأتسلق سور الحديقة إلى خارج العمارة).
الخروج عن إكراهات الصيغة الجمعية (الناظرون) لم يتحقق إلا في قصص (الناظر من أعلى) و(الناظر في كتاب الموتى) للخروج من الجمع إلى المفرد، ثم الخروج عن إكراهات ثبات الصيغة كلها للارتباط بموضوع جديد وثيق الصلة بالبصر والنظر في قصتي(البقعة العمياء)، و(لا يبصرون بها).
جدل الخيالي والواقعي
هذه الجزئية في المجموعة القصصية وثيقة الصلة بقيمة الفن وتأثيره، لأن الفن- في عمومه- يشير إلى حاجتنا الملحة إلى وسائل تجعلنا أكثر معرفة بأنفسنا، ويضيء لنا مساحات مظلمة داخل النفس الإنسانية، وقيمة أي كاتب- أو فنّان بشكل عام- تتمثل في مساحة الضوء التي يوجهها للكشف عن التواءات وعقد شديدة التشابك. فقيمة هذه المجموعة تتمثل في الجمع بين الواقعي والخيالي، والتجذّر في مساحة الريب أو التشكك بين اليقين بالوجود واليقين بالتلاشي، فهي في كل قصصها تعتبر الخيالي جزءا من الحقيقي تؤسس له ولفاعليته، وتشير إلى وظيفة الأدب في تشكيل توجهاتنا، وكأن هذه الشخصيات لها وجود فعلي.
في هذه المجموعة نحن أمام تجليات عديدة لهذا الخيالي، ولقدرته على الحضور والفعل، بداية من المرأة التي تمثل كوكب الزهرة في حضورها الدافق في فترات زمنية متباعدة لمجموعة من الشخصيات (عمرو بن لحي)، و(تيخو براهي)، و(شيخ العروبة)، و(وجدي الكاشف). هذا التجلي يكشف عن يقين بالحضور، ويقين بالغياب. وتبدو الشخصية الخيالية أيضا مشابهة للشخصيات الواقعية، في تأثرها بالزمن في لحظة انسرابها وتلاشيها في اللقطة الأخيرة في القصة لتشير إلى كل ما هو بشري ومتلاش يطبق علبه النظام الكوني من ميلاد ونمو وحياة وموت.
تتعامل قصص المجموعة مع الحياة وشخصياتها الواقعية والخيالية على أنها أبدية غير منتهية، فهي كيان عظيم تذوب وتتحلل في إطاره الجزئيات، وتتكرر بأشكال ورؤى مختلفة، ومن ثم جاء التناظر فاعلا، وكأن معظم التجارب التي تلمح إليها القصص تحقق ارتباط الإنسان بالكون والوجود وبالذات، ولكنه في كل مرة، وفي كل تناظر محبوك تتجلى إطاراته بشكل مختلف. ففكرة تشابه الشخصيات على المستوى البيولوجي تتجلى على سبيل المثال في القصة الأولى بين الراوي وعم والده عوض. تنقلنا إلى النسق ذاته في التعامل مع قصة (الناظرون عبر الورق)، لأن الكتّاب فصائل تشدهم مساحات اهتمام متباينة.
ففي قصة المجموعة ربما على نحو ربما يكون فيه شيء من التعمد محاولة لشد الخيالي للواقعي في تجليه على نحو ما يمكن أن نرى في قصة (الناظرون إلى السماء) من خلال تجلي الزهرة في هيئة امرأة تتعرى وتمارس الجنس مع أناس واقعيين، أو محاولة شد الواقعي للخيالي كما في قصة ( الناظرون عبر الكاميرا). ففي القصة الأخيرة تبدو صورة العرائس عبر الكاميرا- وهي تمثل وجودا هلاميا غير حقيقي- مثيرا لبناء عالم واقعي، يشبع حدود الروح والجسد لدى عمّ عاشور، فهنا إلماح إلى قوة الخيالي المرتبط بوجود هلامي لواقعي، ومن ثم يصبح لفعل الممارسة المتخيل من (عاشور) قوة الحقيقي، مما يفتح الباب في قصص المجموعة إلى مقاربة الخيالي والواقعي، حيث تفضي هذه المقاربة إلى حالة من حالات الالتباس والتماهي الدائمين، في احتلال كل واحد منهما مكان الآخر.
وتتماس مع أداة الكاميرا في القصة السابقة التي تسهم في توليد الواقعي، واستبداله بخيالي له قدرة على الهدهدة والاتزان، فكرة (الدموع) في قصة (الناظرون عبر الدموع) نجد أن هناك استنادا إلى شمس الدين بن دانيال الملقب بالكحّال، وإلى قدرته في معالجة فتاة تدمع عيناها دائما. الدموع في منطق القصة بلورة تغيّر في طبيعة الواقعي، وتجعل الواقع يتجلى في شكل ما، نرى الشخصيات في حيز الإبصار متجسدة، ولكن من خلال الدموع تتشكل بجوار هذا التجسد مجموعة من الظلال. فالظلال في منطق القصة االتي تتولّد من خلال الدموع وسيلة لاستجلاب وتشكيل الخيالي. ولكن الأهمية هنا تتمثل في توليد الالتباس حول الواقعي والخيالي، واندياح المسافة بينهما، فليس هناك – والحال تلك- مساحة للتفريق بينهما في ظلّ ثنائية الحقيقي والزائف، يتجلى ذلك في قول القصة على لسان الفتاة مخاطبة شمس الدين بن دانيال (حين أبكي أشعر أن حياتي التي أحياها ظل لحياة أخرى حقيقية، لكنني لم أعش تلك الحقيقة، أشعر أنني ظل لأخرى، لكنني ظل لا يفعل شيئا، وإن بدا أنه يفعل أمام الناس).
قصص المجموعة تؤكد هذا المنحى بوسائل عديدة من خلال الإلحاح عليه في كل قصة من القصص بأشكال مختلفة، فما يبدو الراوي متأكدا من وجوده، بشكل لا يدخل إليه شك، وكأنه حقيقة واقعية ناصعة يتمثل في قصة (البقعة العمياء) في يقين البطل باستمرار حب المرأة وعشقها له، بالرغم من زواجها بآخر استنادا إلى تجربة قديمة، يتحول في نهاية القصة إلى وهم وإلى زيف، فقد كان يخشى بعد انتهاء الجراحة أن تصيبها الهلاوس في لحظة الإفاقة من مخدّر العملية أن تتفوه بحكايات عن حبهما، ولكن ما حدث يثبت له زيف تصوّره، فلم تتحدث- كما أشار زوجها الذ أجرى لها العملية- إلا عن الإبقاء على علب الزبادي لأنها تحتاج إليها. تتجلى مشروعية لهذا الفهم إذا أدركنا أن وضع عينيها اليسرى التي أجريت بها العملية تقدم وكأنها شبيهة بتناظرات العيون السابقة، مما يشكل حركة دائبة من النقيض إلى النقيض، من اليقين إلى اللايقين.
تفريغ الواقعي من جسديته ليتحول إلى محض خيال، وتجسيد الخيالي وتشكيله ليتحول إلى واقعي ملموس همّ أساسي لهذه المجموعة، وربما وجدنا صدى واضحا لهذا الهمّ في قصة (لا يبصرون بها). ولكن في قصة (الناظرون عبر الورق) تتجلى هذه الفكرة، أو هذا الهمّ الأساسي بشكل لافت للنظر، فنجد أن حضور الشخصيات فيه تعاظم على المؤلفين، وعلى أزمانهم وسياقاتهم. فالشخصيات الروائية لازمنية، حياتها لانهائية غير محدودة، لأنها في معرض دائم للتأويل المنفتح بمرور الزمن على سياقات متباينة، مما يخلق وجودا جديدا مع كل قراءة. فحركة الشخصيات أو دوارنها في نموها وأفولها وثيقة الصلة بفعل القراءة وتعددها، فماركيز يقول ( انا أفضل أن يتخيل قارئ كتبي الشخصيات كما يحلو له، ويرسم ملامحها كما يريد.
في هذه القصة هناك حضور لعدد من شخصيات الروايات والقصة العالمية والعربية في عيادة طبيب الأسنان، وكلهم يشكون من ضرس العقل، وهم على الترتيب بالإضافة إلى الراوي وترتيبه الثالث عشر والأخير( إنجيل كلير- سمر دياكوف- كاف- مُل فلاندرز- راسكولنيكوف- تشارلز ستركلاند- سانتياجو- ماكبث- لورد هنري- راغب دميان- الشيخ الضرير بطل بيت من لحم- بلانش ديبو). بهذا الحضور والتشكل الواقعي تأخذ الشخصيات مدى أعلى من المؤلف، فعلاقة الشخصيات بمؤلفيها أشبه بعلاقة جالاتيا التي تتمرد على صانعها وخالقها، فتصبح أكثر فاعلية وحضورا عن فاعلية وحضور المؤلفين.
تجسيد الشخصيات هنا ليس إلا إشارة إلى قوة الخيال، ووقوفه مع الحقيقي والواقعي على بساط واحد متساو، وذلك من خلال طبقات الدلالة، وتوسعها وتعالقها مع الذاكرة الفردية والجمعية. فإذا كان المؤلف الحقيقي محدودا في حضوره العيني وثابتا في إطار تعدده الفكري والمرحلي، فإن الشخصيات ليست محدودة، وليست ثابتة، لأنها متحركة دينامية، وإذا كانت بعض الشخصيات يصيبها بعض الثبات لتحولها إلى أيقونات دالة، فإنها تظل أيقونات منفتحة لتوالدها الذاتي من خلال المقاربة، وإعادة المقاربة من آخرين. فالشخصيات الخيالية أكثر تأثيرا، وتتحول في أحيان كثيرة إلى سنن جاهز، ربما نقيس من خلاله سلوكنا الفردي غالبا بالتقليد أو المغايرة أو التجنب.
فالإشارة إلى (راغب دميان) بطل رواية العنكبوت لمصطفى محمود، بوصفه أحد الحاضرين في عيادة طبيب الأسنان إشارة إلى فكرة تجلت بشكل لافت في قصص المجموعة من خلال التناظر والاستمرار، فهو شخص سخر حياته لإثبات نظريته التي تقول(إن الإنسان يعيش ملايين السنين، ويولد ملايين المرات، وفي كل مرة يكون له اسم مختلف تماما عما قبله)، ويقول في الرواية (كل شيء باق… لا شيء يضيع في هذه الدنيا، وإنما هو يتحول ويتبعثر ويتشتت).
وإذا كانت البشرية موزعة إلى أعراف ولغات وفصائل تنمو متمايزة، فإن الشخصيات الخيالية أيضا تتشكل وفق فصائل إبداعية يشدها هم مشترك يتجاوبون حوله، فالإشارة إلى موضع الألم وارتباطه بضرس العقل بالرغم من كونها دلالة شكلية إشارة تدخل الشخصيات إلى تنميط محدد. فاستحضار هذه الشخصيات استحضار لفصيلة إبداعية خاصة، ترتبط وتهتم برصد المآسي البشرية، ومهمومة بالإشكاليات التي تعبر بوضوح عن التساؤل المستمر للإنسان حول الوجود، والصراعات والأفكار المجردة مثل الرغبة والعدل، تلك الأفكار التي تشكل حيزا واسعا في حضور هذه الشخصيات.
ونستطيع مع كل شخصية خيالية شكلت حضورا في القصة أن نتوقف عند منحى معرفي محدد، ولكنه ليس ثابتا، مثل راسكولينكوف بطل الجريمة والعقاب لدوستوفسكي في تبريره للقتل من خلال تمييز البشر إلى نوعين: مخلوقات عادية، ومخلوقات غير عادية، فالمخلوقات غير العادية لها الحق- من وجهة نظره- في ارتكاب الجرائم وخرق القوانين، ولكنه يشترط أن يكون هذا الخرق، وتلك الجريمة من أجل غاية نبيلة.
هناك فكرة أساسية تدور في إطارها قصص المجموعة، تتمثل في سلطة الخيالي على التواجد والتأثير، وذلك من خلال تمرير فكرة مراتب الوجود، وأنه يمكن البداية من أي مرحلة، للوصول إلى المراحل الأخرى، حتى في ظل واقع تاريخي، يظل الخيالي له قدرة على التواجد بشكل منفصل ومتجل في ذاته، ربما للانطلاق من فكرة الخطاب، تقول الرواية (بغض النظر عن ماكبث الذي عاش في القرن الحادي عشر قبل أن يكتب شكسبير ما كتبه بخمسة قرون أو يزيد، فإنني خلقت من ذهن ويليام، ثم أصبحت موجودا ذلك الوجود العيني).
يقدم محمد سالم عبادة في مجموعته (الناظرون) كتابة قصصية لافتة تحتمي بالفكري المنفتح على الثقافات العديدة، وتستند إلى الفني بتاريخه الممتد الطويل، ولكنها لا تقف عند حدود هذا الثابت والمعروف، ففي اجتراحها لآفاق جديدة، نراها لا تركن إلى التحديدات المستقرة، بل تعمل على تذويب الحدود بين مجمل الخطابات والعوالم الواقعية والخيالية.