أخبار عاجلة

غرفة خاصة بالمرء ” دوريس ليسنج ” ترجمة الكاتب ” ناصر الحلواني “

حين جئت إلى هذه الشقة المكونة من أربع غرف صغيرة تشبه الصناديق، كانت غرفة النوم مطلية باللون الوردي الشاحب، باستثناء جدار المدفأة، الذي كان مُغطَّى بورق مبهرج باللونين الوردي والأزرق. كانت الإطارات الخشبية أرجوانية داكنة، تكاد تكون سوداء. يُباع هذا الطلاء محل ديكورات كبير في ويست إند ويسمى بيلبيري. سكن الشقة فتاتان قبلي. إيجار قليل، بالطبع، لأن السجاد كان يغرق في الثقوب، وكانت الجدران مزينة بملصقات السفر. أخبرتني المرأة في الطابق العلوي أنهما كانتا شابتين، وكثيرا ما كانتا تقيما حفلات تستمر طوال الليل. “لكنني أحببت أن أسمعهما، فأنا أستمتع بأصوات الحياة.” كانت عاذلة: ليس لدي حفلات كافية لها.
لم تترك الفتاتان أي عنوان لتحويل الرسائل إليه، وفقا للتقليد الخاص بهذه الشقة. وعلى مر السنين، في كثير من الأحيان، كان جرس الباب يرن، ويسأل الناس عن “أنجوس فيرجسون؟ أظن أنه كان يسكن هنا؟ ” وعن آل ميتلاند؟ وعن السيدة دولاند؟ وعن آل جاتسبي الشابين ؟ سكن كل هؤلاء الناس، وربما غيرهم آخرين، في هذه الشقة، وغادروا، دون أن يتركوا شيئا وراءهم. لا أعرف شيئا عنهم، وكذلك لا يعرف أي شخص آخر في المبنى، رغم أن بعضهم قد عاش هنا لسنوات.
لقد وجدت اللون الوردي سائدا بأكثر من اللازم، وبعد عدة محاولات خاطئة، استقررت على الجدران البيضاء، وتركت لون البرقوق أو الأعمال الخشبية المطلية بدهانات بيلبيري. في البداية وضعت ستائر رمادية، ثم ستائر زرقاء. كان سريري الكبير تحت النافذة. يوجد مكتب، كنت أنوي الكتابة عليه، لكنه دائما ما يكون مزدحما بالأوراق، لذلك أكتب في غرفة المعيشة، أو على طاولة المطبخ. لكنني أقضي الكثير من الوقت في غرفة النوم. السرير هو أفضل مكان للقراءة، والتفكير، أو عدم القيام بأي شيء. إنها غرفتي؛ حيث أشعر أنني أحيا ـ على الرغم من أن الشكل سيء، وهناك أشياء حوله لا يمكن القول إلا أنها قبيحة.

على سبيل المثال، كانت المدفأة مصنوعة من الحديد ـ المزخرف بالعُقد السوداء المنتفخة. تركته الفتاتان كما هو، استخدمتا مدفأة غاز صغيرة وضعتاها في فجوته. ظل قبحه الثقيل يوجه عيني إليه، لذلك قمت برسم لوحة، امتدت من السقف إلى أسفل بلون البرقوق الغامق، وبذلك يتماهى الموقد والرف السميك الصغير الذي يعلوه. على جانبي اللوحة، بما أنني لم أستطع طلاء الجدار بأكمله بلون البرقوق، والذي يبدو أسود في الليل، تركت شريطين من ورق الحائط السخيف، والذي كان يحوي صور أشخاص لامعون، مثل الطيور في أقفاص وردية وزرقاء. بدا الموقد أقل اقتحاما، لكني استخدمت موقد غاز للتدفئة، مربع صُلب من البرونز، أحضرته من شقة سابقة، حيث لم يكن سيئا للغاية. لكنه لم يكن يناسب المكان هنا على الإطلاق. لذلك كان الجدار كله سيئا.

الجدار الآخر، الموجود بجانب سريري، مشوَّه أيضا. فوق السرير، نتوءات حبيبية غير مبعثرة، لمسافة المتر تقريبا. شخص ما ـ أنجوس فيرجسون؟ أو آل ميتلاندز؟ أو السيدة دولاند؟ ـ حاول استبدال الجص المتساقط، وتسبب في إفساده. لا يمكن لأي عامل جص محترف أن يفلت منه مثل هذا الانبعاج. بشكل عام، يسعدني هذا الجدار؛ إنه يذكرني بالجدران غير المنتظمة المطلية بالأبيض، والمنبعجة، لمنزل آخر عشت فيه ذات مرة. ربما اخترت طلاء هذه الغرفة باللون الأبيض لأنني أردت أن يكون لدي، مرة خرى، تلك الجدران المنبعجة البيضاء، لهذا المنزل السابق هنا في لندن؟

السقف عبارة عن سقف: مسطح، وأبيض، وبسيط خالي من أي زخرفة . له كرانيش من الجبس، ضخمة جدا بالنسبة للغرفة، وتبدو كما لو أنها قد تسقط بسهولة. المبنى بأكمله له هيئة القبح الصلب، لكنه رخيص التكلفة، وليس صلبا على الإطلاق. على سبيل المثال، الجدران، عند النقر عليها، تصدر صوتا أجوفا، وعند انكشاف الجص، من خلف ورق الحائط، يبدأ في التساقط على الفور، كما لو كانت الجدران رمال سائبة يثبتها ورق حائط.

يمكنني سماع كل ما يدور فوق رأسي، حيث تسكن المرأة العجوز، التي تحب سماع القليل من الحياة، مع زوجها. هي سويدية، تعطي دروسا في اللغة السويدية. إنها تعتني بملبسها، وتبدو كشيء قديم محترم وعزيز. ومع ذلك فهي مهووسة بالفعل. تضع على بابها أربعة أقفال ثقيلة، ومجهزة بشكل خاص، بالإضافة إلى براغي وقضبان. إذا طرقت الباب، فإنها تفتح الباب، المربوط بسلسلة طولها خمسة عشر سنتيمترا، وترنو من ورائها، للتأكد من أنني (أو هُم) لن أهاجمها.
الداخل هو مثال للترتيب والنظام. تقضي اليوم بطوله في التنظيف والترتيب. عندما لا تجد ما تفعله في شقتها، تنشر ملاحظات على الدرج تقول: ” سيتم إبلاغ السلطات عن أي شخص يلقي قمامة على هذا الدَّرَج!” ثم تزور كل شقة (هناك ثماني شقق متطابقة، واحدة فوق الأخرى) وتقول بثقة: “بالطبع هذا الإشعار ليس موجّه لك.”

يعمل زوجها في شركة تصدير، ويغيب عنها كثيرا. عندما تتوقع عودته، كانت ترتدي ملابسها بعناية مثل عروس، وتخرج للقائه، وهي تتورد خجلا. في الليالي التي يعود فيها من رحلاته، كان السرير يصر فوق سريري، وأسمعهما يضحكان. إنهما زوجان منظمان، ينامان في الساعة 11 كل ليلة، ويستيقظان كل صباح في التاسعة. بالنسبة لي، فليس لحياتي نظام معتاد، وأنا أحب وجودهما هناك، في الأعلى. عندما أتأخر في العمل، أحيانا، أسمعهما يستيقظان، وأفكر أثناء نومي، أو نعاسي: جيد، لقد بدأ اليوم، أليس كذلك؟ ومن ثم أعود إلى حالة اللاوعي، بينما تمتزج خطواتهم وقعقعة الأكواب في أحلامي.

في بعض الأحيان، عندما أنام في فترة ما بعد الظهيرة، وهو ما أفعله لأن النوم بعد الظهر أكثر متعة من النوم ليلا، فإنها تأخذ قيلولة أيضا. أفكر فيها وفي نفسي، مستلقيتين أفقيا فوق بعضنا البعض، كما لو كنا على رفَّين.

عندما أنام بعد الغداء، لا يوجد شيء غير مخطط له. أولا، يجب أن أشعر بالاضطراب الداخلي، أو اليقظة بسبب الإفراط في التحفيز، أو الشعور بالمرض، أو التعب الشديد. ثم أُظلم غرفتي، وأغلق جميع الأبواب، حتى لا يوقظني الهاتف (على الرغم من أن رنينه البعيد يمكن أن يكون مولدا مرحبا به للأحلام) وأدخل السرير بعناية، مع الحفاظ على الحالة المزاجية. تساعدني هذه النومات في عملي، وتخبرني بما أكتب، أو أين أخطأت. وهي تنقذني من حمى الاضطراب، التي تنتابني بسبب رؤية الكثير من الناس. دائما ما أنجرف إلى النوم في فترة ما بعد الظهر باهتمام؛ يرجع الفضل فيه إلى رحلة طويلة في المجهول، والنوم رقيق، وغير عادي، ويأخذني إلى مناطق يصعب وصفها.

ولكن في ظهيرة أحد الأيام لم تكن هناك رحلة غريبة، ولم تكن هناك معلومات مفيدة عن عملي. كان النوم مختلفا تماما عن المعتاد، حتى أنني ظننت أحيانا أنني مستيقظة. كنت مستلقية والغرفة شبه مظلمة، والستائر، بدرجات مختلفة من اللون الأزرق الغامق، تصنع ظلا بنفسجي متماوجا. في الخارج كانت ظهيرة مزدحمة. كان بإمكاني سماع أصوات من السوق في الأسفل، وكان هناك صراخ غاضب، مشاجرة من نوع ما، صوتا رجل وامرأة. كنت أنظر إلى المدفأة، وأفكر في مدى قبحها، وأتساءل عن أي نوع من الناس مَن يختار عمدا مثل هذا الشكل البشع من الحديد الأسود. على الرغم من أنني بالطبع قمت بطلائها. نعم، سواء كان بإمكاني تحمل نفقة ذلك أم لا، فيجب أن أتخلص من مدفأة الغاز البرونزية المربعة، وأن أجد واحدة أخرى أجمل. لاحظت أن الشكل البرونزي قد بَلِيَ ؛ كان هناك شبكة حديدية سوداء صغيرة، ونار صغيرة فيها، ينبعث منها دخان. كان الدخان يتصاعد في الغرفة، وكانت عيناي تؤلماني.

كانت الغرفة مختلفة: شعرت بالبرودة والاغتراب عن نفسي، عندما تجولت بنظري فيها. على الجدران ورق حائط، كان تأثيره العام بنيا داكنا، لكن بالنظر إليه عن كثب، رأيت رسوما صغيرة لأوراق شجر بنية مصفرَّة، وسيقان بنية. وعليها بعض البقع. كان السقف مصفرا، ولامعا بتأثير الدخان. كانت هناك بعض خِرَق ستائر ذات لون بني مشوب باللون الزهري، معلقة على النوافذ، إحداها ممزقة فكانت حافتها السفلية تتدلى. لم أعد مستلقية على السرير، وإنما أجلس إلى جوار المدفأة في جانب الغرفة، أنظر إلى السرير وإلى النافذة. في الخارج تواصل شجار حاد، وارتفعت الأصوات من الشارع. شعرت بالبرد، كنت أرتجف، وعيناي تدمعان. في الشبكة الصغيرة للمدفأة، استقرت ثلاث كتل صغيرة من الفحم المتوهجة، ينبعث منها الدخان بشكل كئيب. وتحتي، كانت وسادة، أو معطف مطوي، شيء من هذا القبيل. بدت الغرفة أكبر مساحة بكثير. نعم، كانت غرفة كبيرة. كان هناك صندوق من الخشب البني المصقول بجانب السرير، وكان منخفضا، وأقل بنصف متر مني. وفوقه، بطانية جيش حمراء. كانت التجاويف الموجودة على جانبي المدفأة تضم أرفف خشبية قليلة المسطح، عليها ملابس مطوية، وأواني فخارية، ومجلات قديمة، وإبريق شاي بني. أثارت هذه الأشياء شعورا بالفقر المدقع.

كنت وحدي في الغرفة، رغم وجود شخص ما بالجوار: كان بإمكاني سماع أصوات جعلتني حزينة، وقلقة. من الطابق العلوي ضحكة، معادية لي. هل كانت السيدة السويدية العجوز تضحك؟ مع من؟ هل عاد زوجها فجأة؟

كنت بائسة بوحدتي، التي شعرت أنها لن تهدأ أبدا، ولن يأتي أحد للتسرية عني. جلست ونظرت إلى السرير، وعليه كانت بطانية حمراء رخيصة توحي بالمرض، ونخرت لأن الدخان كان يمزق مؤخرة حلقي. كنت طفلة، أعلم ذلك. وكان هناك حرب، شيء له علاقة بالحرب، الحرب لها علاقة بالحلم، أو بالذاكرة – لمن؟ عدت إلى غرفتي، مستلقية على سريري، وصمت في الطابق العلوي والجوار. كنت وحدي في الشقة، أتأمل ستائري الناعمة ذات اللون الأزرق الداكن تتحرك بهدوء. كنت ممتلئة بالبؤس.

تركت غرفة نومي الجميلة، أعددت الشاي لنفسي. ثم عدت لسحب الستائر، من أجل أن يدخل الضوء. أشعلت سخان الغاز، الذي اشتعل ساخنا محمرا، فدفع بذاكرة البرد بعيدا، ونظرت خلف برونزيته القبيحة، إلى حامل الوقود الذي لم يكن به فحم، أعلم، لسنوات.

لقد حاولت أن أحلم بنفسي عائدة إلى تلك الغرفة الأخرى، الموجودة أسفل هذه الغرفة، أو جوارها، أو داخلها، أو موجودة في ذاكرة شخص ما. أي حرب كانت؟ لمن كان الفقر الرهيب؟ وأود أن أعرف المزيد عن الطفل الصغير المرعوب. لابد أنه (أو أنها) كان صغيرا جدا حتى تبدو الغرفة له كبيرة جدا. لقد فشلت حتى الآن. ربما كان الشجار في الشارع هو ذلك. . . هذا هو؟ و لماذا؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دوريس ليسنج Doris Lessing (1919 ـ 2013)
كاتبة وروائية بريطانية، ولِدت في إيران، وعاشت في روديسيا (زيمبابوي)، ثم انتقلت منها إلى إنجلترا. حازت على جائزة نوبل للآداب عام 2007، وتعتبر السيدة الحادية عشر التي تحصل على الجائزة في فئة الأدب، وأكبر الفائزين عمرا في هذه الفئة. استطاعت «ليسنج» أن تجد لنفسها مكانا وسط العالم عن طريق الكتابة، كانت رافضة لسياسة للتمييز العرقي العنصري، التي تمارسها أوروبا ضد الدول الأفريقية، ولكنها تركت العمل السياسي مبكرا، وركزت في تغيير العالم بطريقة أخرى، وكانت طريقتها الأخرى تلك هي الكتابة ولا شيء سواها.