أخبار عاجلة

الأديب الدكتور ” عادل ضرغام ” يكتب : أسئلة الكتابة في لا تلتفت لنراها للشاعرة التونسية سامية ساسي

مقال لدكتور : ” عادل ضرغام ” غدا بالقدس العربي الأحد 26-9-2021 عن ديوان لا تلتفت لنراها للشاعرة سامية ساسي

أسئلة الكتابة في لا تلتفت لنراها للشاعرة التونسية
سامية ساسي

……………

تحاول الكتابة الشعرية- وخاصة قصيدة النثر- أن تقدم أنماطا كتابية مغايرة في بنيتها اللغوية، وطريقة تمددها وتشكلها، وفي توجهاتها الإبداعية المعرفية، فهي لا تركن إلى نمط كتابي وحيد، ولا تقف عند جانب معرفي إدراكي فردي، بل تقدم هذه المناحي المعرفية في حالة اشتباك وتماه وتداخل، بحيث يصعب الفصل بينها فصلا تاما، ويصبح تناول واحد منها انفتاحا على المناحي الأخرى، ومساءلة لطريقة تجليها على هذا الشكل الخاص المعقد والمركب.
في ديوان سامية ساسي (لا تلتفت لنراها) اختيار لمنحى إبداعي مملوء بإشكالاته الوجودية الخاصة، فهناك محاولة لضبط الذات متورطة في وحدتها وعالمها الداخلي الموحش، وفي عدم قدرتها على التواصل مع هذا العالم المحيط، فتتجلى وكأنها ذات تتراكم بداخلها أسئلة مشدودة لفعل الكتابة، وللنسوي والوجودي والجسدي، وللأعراف بارتهاناتها الحادة المؤسسة في لحظة واحدة، ويغدو الفصل بينها فصلا نظريا يرتبط بالتناول والتركيز على جانب من هذه الجوانب.
في نصوص الديوان هناك محاولة لردم الهوة بين الواقعي والخيالي، بين ما نؤسسه ونراقبه في نموه وتلاشيه، وما نلمسه بحواسنا واقعا ونفرق منه. فالنص الشعري يمارس نوعا من التحوير في الواقع ليصبح خيالا ملموسا، ويمارس التحوير ذاته مع المؤسس الخيالي ليصبح واقعا نعاينه ونلمسه، ويجعله منفتحا ومؤثرا في طبيعة الإدراك والمقاربة. ففي نصوص الديوان هناك إقامة أو إصرار على الإقامة الممتدة في مساحة الفطري والبسيط والتلقائي دون وصفة سابقة التجهيز للكتابة، فمع الفطري هناك تجل تعبيري لا يحدد- ولا يحدّ- بالنظري المحسوب بدقة.
ففي نص وثيق الدلالة على الفكرة السابقة نجد الانحياز لهذا التوجه الفطري في الكتابة الشعرية واضحا مؤسسا لاستقصاء كل مساحات الحرية الفنية والحياتية دون النظر أو الارتباك بقيد أو شرط يحدد أسس الكتابة وتوجهاتها، فمن خلال عقد مشابهة بين الفن والطبخ في نص (قبل الشعر وبعده) ومن خلال علاقة جدلية بالآخر المشدود لسلطة التحديد نجد التعاظم على القيد أو الشرط أو التوجيه المسالم الكاشف عن القدرة والسلطة، يظلّ حاضرا حتى نهاية النص مؤسسا اختياره في حركته في معاينة الفن بتتبع الرائحة.
الفن شبيه بالطبخ، وفي ظل هذا التشابه تُجدل علاقة الذات بالآخر، وتبدو الرائحة- بوصفها دالا على يفاعة وحرية الرؤية وفطريتها- موجهة للحركة والتوجه، ولكن بعد فترة تتحول(الطفلة)- بفعل النمو العمري والإدراكي – إلى امرأة، وتظل معاينتها للعالم والوجود- في رد فعل مباين للآخر ورغبته في التحكم والسيطرة- مشدودة لمساحة الحرية التي تستمر على حالها. فالنص يؤسس مقابلة- بالإضافة إلى مقابلة القسيم الأنثوي بالآخر الذكوري- بين توجهين في الإبداع، الأول مملوء بالتلقائية والبساطة، والآخر يرتبط بالتأسيس والتحديد، الأول فطري ويقاتل للحفاظ على فطريته ورسالته في تشويه المؤسس وبيان تهافته، والآخر تجريبي، الأول في الفن- كما في الطبخ- يتبع الرائحة، والثاني يطبق حدود الوصفة والمقادير، فالفن الشعري في ظل التعاظم على محددات القسيم الآخر والنفور من سلطته والبعد عن التسييج والتدجين يظل إشارة حرة في مطاردة الرائحة مشدودا للاستجابة العفوية غير المسبوقة بمواضعة في التجلي والتشكل، ولهذا يلاحظ القارئ غنائية محسوبة، لا تفضي إلى سهولة، وإنما تفضي إلى بساطة وعمق.
الكتابة وأسئلتها
يبدو سؤال الكتابة سؤالا مهما في الديوان، بل يظل هذا السؤال في تواز مستمر مع سؤال وإشكاليات الجسد، فالكتابة فعل تعرّ وكشف وحميمية مع الورق الأبيض والحبر، وكأن كل سؤال منهما يستدعي الآخر، ويتحد معه خاصة حين يتوقف القارئ إلى مجموعة الملحقات الشعرية المأخوذة من يانيس ريتسوس حيث يقول( الكلمات تثقب الورقة، تخرج من الجهة الأخرى، أحد الأجساد يخترق الآخر، ولا يخرج من الجهة الأخرى) أو في قوله (هل عشت القبلة والقصيدة؟ إذن فلن يأخذ الموت منك شيئا). ففي هذين الاقتباسين يتمّ التأسيس لفعل أو عملية الكتابة كأنها نوع من الوصول للذة أو النيرفانا التي تستحضر لحظة جزئية للشعور بالديمومة والخلود، يتجلى ذلك واضحا حين نتأمل مجموعة الصور الجزئية والمجهرية حين تقول في نص هذا الرجل يلد يا أبي (لأجل رجل يأكل من رحمي- ليلدني مسخا من حبر- من حبر فقط يا أبي)، أو نصها (شاحنة البيرة) (فأسكر بلحس الحبر بين أصابعي- تحت عريشة العنب- وأغنّي).
ولكن سؤال الكتابة في هذا الديوان لا يتأسس وفق صور مجهرية أو جزئية أو ملحقات مأخوذة من نصوص لشعراء سابقين كبار ظهر دوران لافت لنصوصهم لدى شعراء قصيدة النثر في العالم العربي مثل ريتسوس وآخرين، بل يتأسس عن قصدية في نصوص كاملة من جانب أول، ومن جانب آخر لا يأتي مشدودا لمنحى جمالي في التناول أو المقاربة، وإنما يتجلى مرتبطا بالحياة ومنطقها الخاص الذي لا يصمد أمام المراجعة والتفكير. فالمغايرة التي تسدلها الكتابة لا تضرب في فراغ في انشدادها إلى مثالية الفني والشعري، ولكنها مدنسة وملوثة بدم الحياة وتعقيداتها وإشكالياتها، ولهذا فسؤال الكتابة في الديوان يأتي مشدودا للعلاقة بالآخر الذكوري، وبوضع الأنثى بشكل عام.
فالكتابة الشعرية في الديوان- لنزوعها الفطري الحر الكاشف عن القدرة والفاعلية- أشبه بخفة الطائر في ملامسة الماء، ففي نص (لأنني لا أغير البئر) تتكشف الكتابة عن كونها سعيا للري، ورحيلا أبديا لا يركن للإقامة أو الثبات او التجذر والثقل، ولا يخلو من مناورات، ولا يخلو من اتكاء إلى معرفة سابقة لآخرين، ولكن التوجه الكتابي الباحث عن التفرد لا يقنع بالوصفات أو الإرشادات التي يقدمها أصحاب المعرفة، ويظل مصرّا على نهجه في أن تظل الكتابة حرة منفلتة من التقعيد والتنظير والثبات، لأن حركتها وانفلاتها يكفلان لها التجلي المغاير في كل مرة.
ففي النصوص التي تقارب الكتابة في الديوان تتجلى المقاربة بوصفها محاولة شارحة للعملية الإبداعية مشدودة للحياة بين وضع المرأة وحال الرجل في الأعراف التقليدية. وفي إطار ذلك تتأسس مجموعة من التقابلات في النص الشعري (فم قديم كقبر)، فثمة اشتغال في هذا النص على المشابهة بين الكتابة وإنتاج الحرير. وفي ظل هذا الفهم وطبيعة إسدال التشابه والتناظر يصبح إنتاج الحرير بحثا عن المنفعة، فللحصول على إنتاج الحرير يجب قتل الخادرة قبل أن تتحول إلى فراشة وتمزيق خيوط الحرير أثناء خروجها من الشرنقة، وفي النص الشعري تأتي الجارة- حيث تشير إلى قطاع كبير من النساء- كاشفة عن النمط المستقر الذي تبدو فيه المرأة مسيجة خانعة، وتبدو الكتابة الإبداعية مخذولة غير قادرة على النفاذ( سأربي ديدانا ببيتي- ليس الأمر مقرفا إلى هذا الحد- لكتابة قصيدة على الحائط الأبيض الذي أمامي- علي أن أسرق الشمس يوميا من جارتي- التي تستعرض زرابيها الحريرية كل صباح).
فالمرأة الجارة تشير من خلال استعراضها بزرابيها ومنسوجاتها من الحرير إلى حالة من حالات الاستنامة الحياتية والإبداعية أو الرضا المشفوع بالخنوع، ولهذا تتولّد في تلقي النص حالات عديدة من التقابلات بين المراة الباحثة عن الحرير والسكون أو الموت، والذات الشاعرة التي تنتهج نهجا مغايرا في محاولة التخلص من الشرنقة والطيران ومعانقة الشمس، ففي الحال الأولى هناك موت، وفي الأخرى هناك حرية وحركة واستمرار للحياة. فالفراشة التي تطير تمثل الإبداع في خفته وتأبيه عن التقعيد، وارتفاعه عن القيد، وتوحده بالحرية، فالوصول للشمس معادل حياة، وبحث عن المعرفة، لتبدأ الدورة الحياتية في تجل جديد.
الفن في عمومه- وخاصة الشعر- بحث عن آفاق أكثر رحابة، وفي بحثه عن هذه الآفاق لا يمكن أن يتخلص من سياقاته الجمعية والفردية، فحال الوحدة وعدم القدرة على التواصل مع السياق يطلان فاعلين بقوة. فالشعر- الشعر الحقيقي- خروج وانحراف ومساءلة دائمة للمستقر، ويتساوق مع ذلك مقاربة الحياة بالمنطق ذاته. فالحياة – وفق منطق نص شاحنة البيرة- خروج تطوّقه اللعنات بسبب مقايضة السكون بالحركة، والانزواء بالظهور، ويلح النص الشعري على نمط هذه الحياة في قوله(أحب أن تطوقني اللعنات- واستغفار الشاي في المقاهي- وحجارة الأطفال والصفائح في خصلات شعري- أحب الشهوة القارسة على شفاه العاطلين- بين أسناني).
الفن والحياة هنا يمثلان تأسيسا للخروج، وإلحاحا على الخروج يذكرنا بنمط خروج أبي نواس، يكشف عن ذلك لعنات الآخرين التي تراقب الحركة ومظهرها، واشتغفار الشاي- المشروب المحمود للنسق الجمعي- في مقابل البيرة للمهمشين الخارجين، وحجارة الأطفال التي تتابع وتعاقب صاحب كل فعل غريب خارج عن النسق، فالفن الحقيقي يمثل هامشا، لأن في ذلك تأسيسا لفعل الحرية الإبداعية.
مقاربة الصراع من الثبات للحركة
الشعر لدى سامية ساسي حفر في مكان ثابت، حركة من الثبات، فهذه الحركة لا تأتي من الانتقال من موضوع إلى موضوع، وإنما بالمقاربة وإعادة المقاربة للموضوع ذاته وفق نزوعات مختلفة، فيشعر المتلقي بالحركة. ولكن بنية النصوص تشعرك بنمطية ما، فدائما هناك بداية لافتة تدفع المتلقي إلى التساؤل والاستغراب، وغالبا تأتي خاتمة النص وثيقة الصلة بهذه البداية، ولكن الخاتمة هنا تتجلى بشكل مختلف، لأنها من خلال التمدد من البداية اللافتة إلى الخاتمة تزيل هذا الاستغراب، وتجيب عن هذا التساؤل، فالبداية تشعر المتلقي بالخرق المتعمد، ولكنه يصبح منطقيا من خلال عقد المقابلات والمقارنات في المساحة البينية بين البداية والختام.
تتجلى النصوص بداية من لحظة الذروة لتؤسس انفلاتها من العادي، ولكنها بالتدريج تبدأ في التفسير أو محاولة التقريب والكشف عن تلك البدايات الخاصة اللافتة. ففي نص(مبتورة الأطراف) يبدأ النص بهذا السطر الشعري(عارضة أزياء بيد واحدة)، وكأنه يقدم وصفا موضوعيا، ولكن الصوت الذاتي من خلال ضمير المتكلم يطل فاعلا لإسدال مساحة من التوحد بين الموضوعي والذاتي، في قولها (أنا عارضة أزياء- مبتورة الأطراف كصفصافة- يمكنني أن أقطع يدي- لأجل شاعر بيد واحدة- أراد في نهاية العرض أن يصفق). ويتجلى النمط ذاته في قصائد كثيرة مثل(فم قديم كقبر)، فالسطر الشعري(سأربي ديدانا في بيتي) يمثل البداية المخلخلة للمنطق العقلي الذي يتجاوزه الشعر ويتعاظم عليه، ولكن النص الشعري لطبيعته لا يترك الأمر مستغلقا على الفهم، ولكنه يلمح إلماحات، ويقدم إشارات فنية بالتدريج لكي يتم الكشف عن دلالات الرموز.
تكشف بنية نصوص الديوان عن مساحة (العرض) في بداية كل نص بوصفه نصا يكشف عن غرائبية أو خروج متعمد، فمع هذا التبادل والتداخل بين الوصفي الموضوعي والذاتي، تأتي صورة أخرى كاشفة ومتجاوبة مع (عارضة أزياء بيد واحدة)، ومن ثم يبدأ البحث عن الشبيه والنظير للتواصل انطلاقا من التشابه والتشظي في هذا العالم (يمكنني أن أقطع يدي- لأجل شاعر بيد واحدة). لا يخفى في النص السابق أثر الإشارات لمسرح يوجين يونسكو، وخاصة مسرحيته المغنية الصلعاء. ويتجلى الأثر ذاته في نص(تعلمه الرقص)، للإشارة إلى عدم المعرفة بين الرجل والمرأة بالرغم ما بينهما من حياة مشتركة، فكل واحد منهما يعيش في غرفة منفصلة، ويمارسان الرقص على صيحة (جاك برال) وأغنيته الشهيرة (لا (تتركني وحدي) التي تحولت إلى أغنية ونشيد للعشاق على مرّ الأزمنة.
فالصورة المقدمة في النص عبثية، لأن الأغنية- وإن لم يشر إليها النص بشكل صريح- تصنع عالما كاشفا عن الانسجام والتلاحم، ولكن بنية النص تفضي إلى التنافر من البداية( هذا البيت يتسع لشاعرين فقط- هو لا يتكلم- هي لا تقول شيئا)، وإلى التحلل والتلاشي في نهاية النص(وقبل أن يدعس قدمه بحذائه-تعدّ له قصائد عن حبة ملح- تأكل جثتين- في بيت يسع شاعرا واحدا- لا يتعلم الرقص). فالنص الشعري بجزئياته وصوره العبثية لا يقدم هذه الصور الكاشفة عن زوجين يرقص كل واحد منهما في غرفة مستقلة مستحضرا الآخر وأخطاءه لذاتها، وإنما لكي يشير بشكل فني إلى إدانة للأعراف والمظاهر الشكلية والانسجام الزائف وخوائه، وتبدله إلى خواء أو إلى طغيان قسيم على قسيم آخر، قد يدفعه هذا الطغيان إلى التحلل أو التلاشي أو الانزواء، أو للإشارة إلى قيمة الحرية الفردية للمحافظة على الصوت والمشروع الفني الخاص.
لم يكن التوجه إلى المنحى النسوي في قصائد الديوان بشكل مباشر، فللديوان مناح قد تكون أكثر عمقا ترتبط بإشكاليات الكتابة والفن، ومن ثم يأتي المنحى النسوي- على أهميته- مظهرا لتوجه أشمل بالرغم من أن كلا منهما يؤثر في الآخر، ويجعله يتجلى بشكل مختلف يكشف عن توحدهما. فإذا كانت الكتابة الشعرية في هذا الديوان حفرا أو نقشا خاصا يبتكر آلياته، ويحوّر في رموزه وعكاكيزه الإبداعية حتى تصبح ملاءمة لإيقاع الروح المعذبة التي يتشكل عذابها من خلال الإصغاء والانتماء للكتابة والحب فإن الحفر أو النقش يأخذ أشكالا مختلفة.
ففي قصيدة(بشوكة في حلقها وتغنّي)، سوف تتعاظم الشوكة على التحديد المادي، وتصبح إشارة لكل الأعراف والتقاليد والمحددات الثقافية والاجتماعية. يكشف عن هذا التأويل الإشارة إلى النسوة ذوات الألسنة القصيرة اللواتي ينسجمن مع المؤسس والمقرر، في مقابل الذات الشاعرة التي (تتقدم في السن ويطول لسانها)، وتتكامل صورتها في همس النسوة أسفل نافذتها( من يسكت امرأة حرة- أربعون عاما، بشوكة في حلقها وتغني). وكذلك يتجاوز الغناء الفعل البسيط المعهود ليلتحم بالشعر والكتابة، فتصبح الكتابة فعلا من أفعال المقاومة لكل مؤسس ومقرر، وخرقا لكل الأعراف التي لا تستقيم مع المنطق.
وفي مقاربة الكاتبة لهذا التشظي الفردي، من خلال ذات بسلوكها المقاوم في مواجهة كون يفرض أسسه وأعرافه وتقاليده، لا يتحرك الإبداع الشعري إلى مناح عديدة متحركة، ولكن يظل الإصرار على معاينة المنحى الفكري من جميع وحوهه. ومع ثبات المنحى الفكري تأخذ النصوص الشعرية في استجلاء ملامحه توجهات عديدة، مما يشي بالحركة. ففعل المجاهدة في محاربة السائد في النص السابق يأخذ شكلا مختلفا يرتبط بالنفور بكل ماهو شكلي، فالعمران يفضي إلى خراب.
يلمح القارئ في نص(ترسم الأربعاء كبيت) أن هناك استنادا إلى الأربعاء المقدس العظيم والأربعاء الذي يليه، للإشارة إلى دلالات خاصة ترتبط بالحقيقي والزائف، وبالنفور من الزيف، حيث يشير النص الشعري في قوله ( كان يكفي أن أنفض رمله عن بطني- أفتح الباب الوحيد وعينيّ وأغادر- فليس في المكان بيت- وما من بيت – خلف الباب الذي رسمناه) إلى الفارق بين المتخيل والمتحقق، بين ما يراه الآخرون، ويلمسون وجوده، وما تدركه الذات الشاعرة من تلاش وخراب.
جزء كبير من نصوص الديوان يتشكل في مساحة الأعراف بين الواقعي والخيالي، أو المتخيل النموذجي والمتحقق الواقعي، ولهذا نجد أن هناك توجها من التوجهات العديدة في مقاربة النسوي يرتبط بتغيير أو تشويه الواقعي بالخيال حتى يتساوق مع المتخيل. ففي نصها الشعري(بلا وجه للشبه) يمكن أن يتمّ التفكيك من خلال المشابهة والمقابلة في آن، فكل قسيم أو طرف يحاول أن يغير في طبيعة الآخر بالتدريج حتى يقترب من النموذج المثالي بذهنه. فالقسيم الأنثوي- الصوت السارد في النص الشعري- انطلاقا من المعرفة والإدراك القائمين على التجريب يتحرك للإشارة إلى المشابهة أو المماثلة المرتقبة من الآخر.
وفي نمط آخر نجد الذات الشاعرة تلجأ إلى اليومي لمقاربة تشظيها الذاتي في ظل عالم قابض لا يستجيب بسهولة لسلطة المتخيل، ففي نص (اسفنجة) نلمح وجودا لليومي، ولكن هذا اليومي لا يشابه اليومي في نصوص شعراء التفعيلة، فاليومي هنا رحلة داخلية تُرصد من الثبات، وليس من تعداد الظواهر المحيطة كما يمكن أن نرى لدى شعراء التفعيلة، فالذات الشاعرة تظهر- في معظم نصوص الديوان- من خلال الاستناد إلى محركين أساسين، ربما كان لهما التأثير الأكبر في ذلك التجلي الإنساني، الفن والحياة، أو الشعر والحب، حيث يتوازيان معا في تشكيل هوية حياتية وشعرية، وحال يومية ممتدة (الشعر ثقب في جسدي-الحب ثقب آخر- وأنا أسمن كإسفنجة)، فاليومي هنا وثيق الصلة بالداخل، وما يتجمع لديها من إشكاليات ورهانات وثقوب، والذات في رحلتها اليومية لرتق هذه الثقوب تستعين بمضغ العلكة والدخان، وتأمل دوائره التي تتمدد وتتضخم كنساء بوتيرو.