أخبار عاجلة

” مشهد لصحوةٍ مؤجّلة ” قصة قصيرة للشاعرة السورية “دارين زكريا “

حديقة كولن 20/7/2020
……………
لا تظهر قدماهُ بالمجمل أيّ استحياء من هذه الصّبغة العجيبة من الألوان التي تعتليها, من طبقة الجلد السّميكة الخشنة التي تغلّف أسفلها, و تتخللُ كعبها شقوقٌ تحتاج الكثيرَ من الصّبر لعدّها, كونها قد نسَتْ ارتداءَ الحذاء منذ زمن طويل … و لا حتّى من هذا السروال المشقّق بطريقة هزليّةٍ يلفّ بها الساقين و يتوافقُ بقذارته تماماً مع القميص الذي ملّ بؤسَهُ ذو الكمّ الواحدِ, نظراً لأن جزءاً كبيراً من الكُمّ الثاني مُزّقَ لسببٍ يصعبُ على المشاهدِ التنبّؤ بماهيّته.
القدمان تمشيان بسرعةٍ مبالغٍ فيها كأنهما تريدان سبقَ الزّمن, لكنّ اليدان تلفتا الانتباه أكثر منها تلوّحان بعصبيّة واضحةٍ محاولتان تِبيان الموضوع الذي يتكلّم به صاحبها المُنهك بشرحَ مفصّل لصديقهِ اللا مرئي بأنّ سقراط اليوناني هو من مؤسسي الفلسفةِ الكلاسيكيّة و والد علم الأخلاق كلّه.
– نعم علم الأخلاق يا سيدي…. أولا تعلم بأنّ تلميذه أفلاطون كان له الأثر الأكبر في معرفة الكثير عن مُعلّمه, كون الأخير لم يترك أي كتاباتٍ بخطّ يده , و إنما عرَفَ العالمُ الكثير عن شخصية سقراط ابن ” سوفرونيسكوس “و أمّه القابلة ” فيناريت” و منهجه السقراطي بل و حتى (البيداغوجيا) ” علم التربية ” والدروب التي مشتْ عليها حياته الخاصة, من خلال حوارات أفلاطون الذي كان يلقبه بـ ” ذبابة الخيل” في المدينة, من منطلق يصوّبُ: / ذبابة الخيل تلدغ الخيلَ فتحثّها على القيام بفعل ما / و كذلك سقراط كان يحثّ أثينا على اتخاذ فعل ينتمي للحقّ بطريقة تشبه أفعى تلدغهم بالانتقادات…. صه نعم بالطبع.
يغيبُ عن معرفتِكَ يا صديقي العزيز بأنّ لسانهُ سَبّبَ أرقاً لأحلام الحكّام الهانئة حين أكّدَ وجوبَ تحقيق العدل و السعي وراء الخير! ؟
هه اللعنةُ عليك يا جاهل……. إذاً فلماذا قتلوه و فرضوا عليه تجرّعَ السُّم المصنوع من نبات الشوكران السّام؟
هههههه صحيح أن لسان التّاريخ كان كاذباً في كثير من الأحيان, لكن هذا لا يخوّلنا أبداً للشكّ في النهايات التعيسة للحكماء.. الفلاسفة و العلماء الذين سُحبتْ منهم أنفاسَهم حين إثباتهم لحقائق كثيرة تتعلّق بالحياة و قوانينها أو النفس البشريّة و أعماقها, و القوانين الإنسانية التي وجبَ إتباعها, كانتْ ألسنةُ وعيهم تشكّلُ خطراً على ثبات أرجل كراسي الحكّام و النافذين, فعملوا منذ الأزل على إخراسهم نهائياً.
الحقّ وحشٌ يخافُ الكبارُ منهُ أما الصّغار من لا حولَ لهم و لا قوّة فيتهامسونَ معهُ كلما سنحتْ لهم الفرصة, يساندوه فيما بينهم ثمّ يتنكّرون لهُ بل يتنكّرونَ لأنفسهم عند الضّرورة.
أمّا أنا فلااااااا لا أقبل أن تكون نهايتي كنهاية سقراط , سأكون أذكى منه و أهربُ من السّجن مع أصدقائي . لاااا أقبل بالموت لاااااا.

هذه “الّلا ” ظلّ المجنون يردّدها بصوتٍ يسيطرُ على مساحة الحديقة كلها… و لمدّةِ تزيد عن العشر دقائق حتّى تعبَ صوتُه منهُ, فأجلسهُ مُرغماً تحت الشجرة ليتلقّفَ أنفاسَه التي بدتْ ستُقطع بعد قليل و تستغني عن الحياة التي يتمسّكُ بها بأعلى صوته , فصمتَ لمدّة بسيطةٍ ثمّ قدّم لفمه الواسع دفقةً كَريمةً من البيرة الرّخيصة, كنوع من الرّشوة ليعينهُ على إكمال حديثه المهم لصديقهِ الذي لا أحدَ يراه إلا هو.
أسندَ رأسهُ ذو الشعر الطويل إلى جذع الشجرة الذي كان ينافسهُ في الخشونة… حكّ رأسهُ ملياً بالجذع, كأنّه يريدُ تحريكَ الأفكار من مكانٍ إلى آخر ثم قال: لا أحد يفهمني… و لا ابن زانية سحقاً لرؤوسكم الفارغة , اللعنة عليكم يا جَهلة , رافقتْ اللعنةَ بصقةُ ازدراء لكلّ المتخلفين الذين حوله, حتى أنا المشاهدة له من بعيد نالتني دون سابق إنذار.
– اسمع أيها الغبي بيتر: من خمسة أيام, لا أطيقُ رؤيتك بعينيّ الكبيرتين هاتين, و أشارَ المجنون إلى عينيه المتعبتين بحملِ قهر حياةٍ كاملة, في لون أخضر صافي كمساءِ صيف يتّكئُ على أخيه الربيع…. من خمسة أيام يا ابن العاهرة و أنا أحثّكَ الاتصالَ بابني الوحيد الحقير ابن الحقير ماكس الذي لم أراه منذ عشر سنوات… من عشرة أعوام انقلع إلى برلين ليعمل هناك, و لم يفطن بي و لو حتى بمكالمة لمدّة دقيقتين.
آه أريدُ أن أطمئنّ عليه فقط, تصوّر لقد حلمتُ به البارحة, كان يحملُ ولداً بين ذراعيه…. نعم لقد أصبحَ له صبيّ و أسماه نيكولا, إنه يشبهني تماماً لديه نفس ملامحي. و بثقة عاليةٍ انتصبَ المجنون, و اتّخذَ وضعية شخص حكيم واثق من نفسه إلى أبعد الحدود. أردفَ:
– لقد اتصل بي البارحة الساعة الخامسة و النصف تماماً و قال بأن نيكولا العظيم, يتابع دراسته بالجامعة في قسم الهندسة الإلكترونية و هو الأول على دفعته.
نعم بالتأكيد يا بيتر حفيدي نابغة مثلي, ألم أقل لك بأنه يشبهني! ههههههه نعم الأولاد يكتسبون حوالي ثمانين بالمئة من مورثات آبائهم هههههههه.
ثمّ تحولت هذه الضحكات فجأة إلى بكاءٍ مرير, إلى دموعٍ سخيّة تحاول تخفيفَ الوجع الذي لا نفهم تماماً مصادرهُ, إنما نتنبّأ بأنّ ماهيّة هذه الدموع تعود بأصلها للألم الدفين الناتجِ عن الفقد… عن الأبوّة المنذورة لعدم التقدير… عن ضعف الوحدَة الذي يغرزُ أظافرهُ الطويلة في عنقِ هذا الرجل المحموم من شعوره بالتهميش و بشكل خاص من ابن قلبه.
العقلُ منفصلٌ عن العاطفة هنا, صحيح أنّ عقل هذا الأب قد سافر في إجازةٍ طويلة و لربما دائمة, لكن هذا لا يعني بهجرِ إحساسه و عاطفته له أيضاً, بل لربما تمسكان بتلابيبِ لُبّه و كلّما عضّاهُ بشراسةٍ, يحاولُ أن يُغرقهما بالكثير من الكحولِ علّهما يكفّان عن العواء.
مشى بتؤدة إلى مقعد قريبٍ, رمى كلّ همّه عليه قبل أن يجلسَ و يلفّ ساقاً على ساق, كأنّه يحضّر نفسه لنقاش مصيري, من الممكن أن يُحدثَ خللاً في نظرية الجاذبيّة الأرضية.
صفنَ طويلاً و هو ينظرُ إلى سعةِ السّماء, كأنّه يتلقى منها رسالة نبوءة جديدة , ينزلُ عنقهُ إلى الأسفل كلّ حين يبتسمُ و يهزّ رأسه بالإيجاب, ثمّ يعود للنظر إلى أعلى و يعيدُ الكرّةَ مراراً… تغيّرتْ سُحنته… كأنّ ملاكاً رشّ عليه سائلاً فردوسياً, غسلَ عن وجهه القهرَ و الحنقَ, فغدا طفلاً يحاولُ أن يكتشفَ العالمَ باستخدام حثيثٍ لحواسه كلّها.
نزل من على المقعد و تمدّدَ على الأرض جاعلاً بطنهُ يلاصقُ بطنها الواسع , كأنهُ يحاولُ العودة إلى الرّحم الأوّل للبشر إلى رحم الطّين , يتلمّسُ التراب بيديه و يرسمُ الكثيرَ من الدوائر المتداخلة , يحملُ قبضةً من التراب يهزّها براحة يَدهِ و هو يراقبها بانتباه تام, كيف تعتذرُ عن البقاء في يده و تسقطُ للأسفل , تعود إلى حضن الدفء بين أخواتها, فيعترضُ هو على تصرّفها الغير إنساني هذا, و يحاولُ الاحتفاظَ بحبيبات قليلةٍ فيضعها في فمه و يستطعمُها ملياً بحركات غريبةٍ من فكّيه و لسانه, ثمّ يشرب القليلَ من البيرة, سيحتفظُ بها لن يتخلّى عنها, لقد دخلتْ فعلياً إلى معدتهِ التي تعوّدتْ الطّعامَ الفاسدَ في كثير من الأحيان, طعام ممزوج ببعض الأتربة.. بعض المشروبات.. بعض العفن… لقد توافقتْ مع دناءة الفقر كصاحبها.
لمعتْ عيناهُ فجأة مع نظرةِ التركيز التي غلّفتْ عقله كاملاً…. من الذي سيستولي على التركيز التام هكذا؟
المرأة , نعم هذه المرأة ذات الطول المتوسط الماشية على بعد حوالي ثلاثة عشر متر منهُ, بثوبها الأبيض المزركش باللون الأزرق… آه جعلتهُ يفزّ من على الأرض, جعلته يستغني عن رحم أمّه الأرض لينتصبَ كشابٍ في أوّل الثلاثين, يُصلحُ من هندامه قليلاً و يدخلُ الشّبه قميص في بنطاله, يمسّدُ لحيته و شعرهُ أيضاً إلى الوراء, يَمسحُ وجههُ بالقليلِ من البيرَةِ, علّها تعطي مُحيّاهُ الشاحبَ بعض الإشراقِ, يقف بعنفوانٍ مولودٍ من اللحظة, مقدماً قدمه اليسرى إلى الأمام قليلاً, و يشعلُ سيجارتهُ و هو يراقبها بعينيه الواسعتين اللتين تحوّلتْا بقدرة قادر إلى بحر هائج بالحبّ, نظراتهُ غدتْ موجات تتناوبنَ الجريَ على جسدها الذي و بالرغمِ من أنه يعطي سنّ الأربعين بحريّةٍ , إلا أنّه ما زالَ يحتفظ بسمِات إغرائه بشكل كريم, و مع أنّ الصدرَ اكتفى ببروزٍ بخيلٍ نوعاً ما, إلا أنّ الخصرَ يروي حكايَةً موسيقيّة و حركة الساقين المفتولتينِ كغصني بان… الرأسُ المرفوع باعتدال, و المقلتان اللتان سُكبتْ فيهما جرارٌ كاملةٌ من العسل المصفّى تشي بشخصيّةٍ استلهمَ منها الرقيّ ما شاءَ من الثقافة الواثقة.
يليقُ بهذه المرأة أن تسْلبَ منه أو من غيره الفؤاد, و تسحبُ التركيزَ دون عناء.
وصلتْ إلى مسافةٍ قريبةٍ منه, و بالتأكيد جذبتْ عيناهُ عينيها, نظراً لتحديقه الطويل بها, لكن بدتْ وشاية عينيها واضحةً “لا تعرفهُ البتّة ”
بينما هو يناديها: إيلينا… آه مضى وقتٌ طويل يا حبيبتي.
فترتْ شفتاها عن ابتسامةٍ بسيطة. من الواضح أنّ الحياةَ لم تعطيها فرصة رؤية هذا الرجل سابقاً, إلا أنّ حِنكة عاطفتها دعتْها للترحيب بهِ, نعم هي ترى بأنه غريب.. تعي بأنه مشرّدْ… هيئته تشي بوجود عقل يتحايلُ على الكمال … لكنّهُ يحتاجُ إلى مناغاة عاطفة.. تبحثُ نفسهُ الباردة عن غطاء اهتمام… تتعطّشُ روحُهُ الحنانَ المفقود.
قالتْ: أهلاً…. نعم مضى وقتٌ طويل يا عزيزي, فضحكَ و هزّ برأسه لكن باتزانٍ تام هذه المرّة, كانتْ السّعادةُ ترقصُ على وجهه بجرأة غجريّة.
أشارَ لها بيدهِ للجلوس على المقعد القريب, فتناقشتْ مع حَيرتِها قليلاً, ثمّ جلستْ بقدميها المتلاصقتين و بعض الخوف المُسيطَرِ عليه, التفتَتْ إلى وجهه مباشرةً مبتسمة.
الابتسامة اللطيفة النابعة من نفسٍ مطمئنّةٍ تهبُ المقابلَ طاقةً إيجابيةً شبه كاملة, تسحبُ كلّ همومه في لحظةٍ واحدة حتى و إنْ كانتْ آنيةً, إلا أنّ تأثيرها لربما يبقى ذكرى تسقي وردةَ الرّضى في بستان الذاكرة لوقت طويل فيما بعد.
المجنونُ لم يفعل شيئاً البتّة, بل أصابته فترةُ صمتٍ طويل, بدا و كأنّهُ نسيَ الكلامَ كلّه بعد فترة الصّخب النفسي الذي كان يستحوذُ عليه قبل قليل, و كأنهُ حُقن بإبرةٍ مهدّئة, جعلتْ نظراته ساهمةً لفترة مدّتْ تفرّسها في وجه حبيبته المفترضة إلينا.
بعد صمتٍ طويل, فطنَ إلى نفسه, عرضَ عليها أن تشربَ البيرةَ من زجاجته, فاعتذرتْ بإيماءة خفيفةٍ من يدها الناعمة كحريرٍ دمشقي.
لا أعرفُ عن ماذا حدّثها وقتها, حتى بدأتْ الضحكاتُ تتطايرُ من فمها الرقيق كألحانٍ شرقيّة… كيفَ تحوّلَ إلى رجل طبيعي تماماً يمازحُ نصفهُ الآخر, حتى يستلذّ برؤيته في حضنِ فرحةٍ كاملة, لم يعد حديثهُ مسموعاً أبداً…. لقد تحوّلَ بقدرة الهوى إلى همس يصلُها هي فقط…!
هي فقط المعنيّةُ بكلّ هذا التركيز… بكلّ هذا الاهتمام… بكلّ هذا التحوّلِ.
الغريبُ في الأمر, بأنّ نيّتها بيّتَتْ منحَهُ الطمأنينة حين وافقتْ على مجالستهِ دون معرفة, فانقلبتْ الآية و أصبحَ هو سيّد الموقف, فقد جعلَ فمها سارداً لحكايات كثيرة من الضحكات الناعمة المتحوّلة أحياناً لقهقهات مُثيرة.
مدّتْ الساعةُ و النصف جسدها بحرفيّة على هذا الوقت المستقطع من صدفةٍ نزلتْ من سماءٍ رحيمة.
كان يبدو من توديعها له, بأنها تعدُهُ بلقاءٍ آخر, لربما سيأتي و لربما سيغيب.
المحزنُ في الأمر أني لن أكونَ هنا في حالة وجود اللقاء الثاني, و لا حتى أنتَ أيضاً.
بعدَ أن ذهبتْ المدعوّةُ مجازاً إلينا, بقيَ المجنونُ جالساً يسندُ ظهرهُ على مسندِ مقعده الخشبي و هو يلفّ ساقاً على ساق , كان الفخرُ يسكنهُ من أعلى رأسهِ إلى أخمصِ قدميه… بدا و كأنّهُ استرجعَ نصفَ عقل العالم, لكنّهُ بقي ساكناً في وسطِ الحُلم الذي ودّعهُ منذ قليل, الحلمُ الذي أهداهُ طمأنينة ملاك يكتب الحسنات فقط .

الصُّدف التي تتجوّلُ في أزقّة حيواتنا, قد تهبنا أحياناً اللؤلؤ في مساحات يغفلُ عنها القدر أو يتغافل عنها , و بدورنا نعطيها مكاناً يليقُ بها على راحة يدنا, كي نناظرها كلّ حين و نتبادلُ معها الابتسامة….. تحايلوا على الصدف الجميلة و احظوا بها.
( أنا غريبٌ عن هذا العالم… أنا غريب و ليس في الوجودِ مَن يعرفُ كلمةً من لغة نفسي) جبران خليل جبران.