أخبار عاجلة

” قصص قصيرة ” للقاص والباحث الليبي ” خالد خميس السحاتي “

*رَحِيــلٌ:
كانت أمِّي تتفقَّـدُ غُـرفتي الصَّغيرة كلَّ يوم، تلملمُ أوراقي المُبعثرة، تُنظِّفُ مكتبي المُزدحم بالفـوضى، ترتبُ سريري المهترئ، وعندما أُعُـودُ من المدرسة أَجدُ كلَّ شَيءٍ هُنا على ما يُرامُ، وأبدأُ في مُسلسل نزقي المُمتعِ من جدِيدٍ، في ذلك اليوم لَم أُصدِّق ما حدث، فـوضى غُرفتي على حالها، كُلُّ تفاصيلي الطفُوليَّةِ كما هي، دُهشـتُ..، حَزِنْتُ..، وأَدْرَكْتُ أنَّ أُمِّي رحلت عن البيت، لكنَّ حنَانها المُتدفِّقِ بلا نهايةٍ لَن يُغادرَ قلبي أبداً.

* حَبْكَـةٌ:
بدأ أخيراً في كتابة أقصُوصته الجديدة، لم يختر لَهَا اسماً بعدُ، أخذ يرسمُ خيُوطها بعنايةٍ، بَدَتْ حَبْكَتُها الدَّرامِيَّةُ مُحْكَمَةَ التعقيد والاختزال، بياضُ الورقة أَمام قلمه القَديم يُغـري بمزيدٍ من الانغماس في بُحُور الكتابة اللامُنتهيـة، الشخصيَّاتُ والتفاصيلُ تلتمعُ في ذاكرته المُترعة بالتناقُض، تُومضُ بشدَّةٍ، فيكتُبُ قليلاً ثم يغلبهُ النعاسُ فيتوقفُ مُستسلماً لسُلطـان النـوم.

* تحـايـلٌ:

يتحايلُ على أَلَـمِهِ القَـاسِي، يتخذُ مِنَ الصَّبر المُرِّ ترياقاً للشِّفـاء، رغـم أنَّ الطبيب أخبرهُ أنَّهُ بَاتَ يُعاني من كبر السِّـنِّ وأعْـرَاضِ الهـرم، بيته الفسيحُ أصبح من بُرُودة الوحدة ضيِّقاً عليه، قال لأبنائه الثلاثة عندما زارُوهُ بعد طُـول غيـابٍ: “أريدُ أنْ أراكُم كـلَّ يومٍ”، وَعَـدُوهُ بِذَلِكَ، نظر بعضُهُم إلى بعضٍ بخُبثٍ مُستترٍ خلف ابتساماتهم الكاذبة، صباح اليوم التالي استيقظ من نومه على صوت مُمرِّضةٍ ثلاثينيَّةٍ جميلةٍ في دار المُسنِّينَ تقُـولُ لهُ: “تفضَّل الإفطـارَ يا عـم!”، تفاجـأ من هَـوْلِ الصَّـدْمَةِ، ثمَّ أدرك مُتأخِّـراً أنَّ أبنائه فعـلُوا ذلك، ووفـوا بوعـدهـم لهُ!.

*نظـــارةُ أبـي

تُبْهِرُنِي دَائِماً نَظَّارَةُ أَبِي بِلَوْنِهَا البُنِيِّ الفَاتِحِ، وَإِطَارِهَا الجَمِيلِ، وَمَلْمَسِهَا الليِّن، وَعَدَسَتَيْهَا الزُّجَاجِيَّتَيْنِ السَّمِيكَتَيْنِ، التي يُنظِّفُها أَبِي بمنديله الأزرق كُلَّ يَوْمٍ، ثُمَّ يَضَعُهَا عَلَى عَيْنَيْهِ فنُدْرِكُ أنَّهُ يُريدُ أنْ يُمْعِنَ النَّظَرَ فِي شَيْءٍ مَا.. وعندما تبدأ نشرةُ الأخبار على تمام الثانية ظُهراً يضعُ أبي نظَّارتهُ (فوق صُحُفه ومجلاَّته) على الطاولة، ويُتابعُ الأخبار بنهمه المُعتاد، مُتسمِّراً على كُرسيِّه البلاستيكيِّ حتى نهايتها. وذات صباحٍ خريفيٍّ لا يُنْسَى غَادَرَ أَبِي البَيْتَ بِصَمْتٍ إلى حيثُ لا عـودة..، نعـم، فَعَلَهَا وَغَادَرَ سَرِيعاً، لَمْ يُخْبِرْ أَحَداً، وَلَمْ يَجِدْ وَقْتاً ليُودِّعَنَا قَبْلَ رَحِيلِهِ، ذَهَبَ مُتَعَجِّلاً بِلاَ أَمْتِعَةٍ، ونَسِيَ نظَّارَتَهُ عَلَى الطَّاولة، وعيُونُ أختي الصَّغيرة تُراقِبُ بَابَ البَيْتِ كُلَّ مَسَاءٍ لَعَلَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْنَا بِابْتِسَامَتِهِ السَّاحِرَةِ، وَيَأْخُـذَ نَظَّارَتَهُ مَرَّةً أُخْرَى.