أخبار عاجلة
الكاتب : أحمد أبو رية

“أحلام زهرة” قصة للكاتب ” أحمد أبو رية “

1
على أرض طرح النهر بيتا صغيرا من أعواد الغاب والطمي كأنه كوخ لا تفصل نافذته عن النيل إلا عدة أمتار على شكل ممشى ضيق تحيطه على الجانبين أشجار الموز وفى نهايته يقبع قارب صغير رسم علي أحد جانبيه حورية البحر وكتبت على الجانب الآخر كلمة “زهرة”
حدود ذلك البيت والممشى ومشوار القارب إلى ما قبل الشاطئ الآخر للنهر كانت على ضيقها هي حدود الوطن الرحب” لزهرة” تلك الفتاة التي لم تتجاوز الواحدة والعشرين من عمرها ذات العينين الزرقاوين الساحرتين اللتين لا يملك من ينظران إليه إلا أن يشخص بصره ويظل سابحا في سحرهما دون إرادة ودون خلاص إلا بإرادة “زهرة” نفسها. إذا ما قررت أن تحرره من أثر عينيها. زهرة التي أخذت من رقرقة ماء النهر نقاء نفسها الذى سما بها فجعلها ترى ما لا يراه غيرها…

قاربت ساعات الليل على الانتهاء وعلى الكنبة الصغيرة يمتد جسد “زهرة ” بجوار النافذة التي راقبت جالسة من خلالها قبيل نومها نجوم السماء وهى تتساقط هامسة لماء النهر حتى أخذها النوم الى ذلك الحلم الذى رأت فيه نفسها (تطفو على صفحة الماء كأنها بلا وزن وهى تحدق في وجه رجل تجاوزت ملامحه حدود الأمان إلى حدود التوحد بعد أن أصبح جسدها جزء من كفيه المبسوطتين وصوته الذي يغني لها اطالت النظر الى ملامح الرجل الذى لا تعرفه لكنها عشقت وجهه وصوته وهو يناديها
ويأتي الصوت
زهرة…. زهرة)
لم يكن الصوت. حلما وإنما كان صوت أبيها الذي يقف بجوار الكنبة يوقظها.
– قومي بقى الأستاذ كمال جاي أول مره ييجي. قومي الراجل له جمايل كثيرة علينا.

تنهض زهرة متثاقلة وكان ما بين أبيها وبينها يسمح بأن تروى له كل شيء حتى أحلامها وراؤها وإن لم تقص على أبيها فعلى من تقص وهو لها كل العالم بعد أن رباها وليدة عندما ماتت أمها أثناء ولادتها….
-صحتني ليه يا أبوي؟
كان حلم جميل كنت عايزه أكمله.
وتوجس أبوها خيفة
-قولي يا بنت مصطفى….. ربنا يستر وكان يقصد أن احلام “زهرة” تتحقق بكل تفاصيلها. وهذا ما كان يخيفه أحيانا منها وعليها…
روت لأبيها عن الرجل الذى حمل جسدها طافية بلا وزن على صفحة الماء وقالت انها أحبته وهو كذلك كان يعشقها فيمنع كفيه جسدها من الغرق فيضحك أباها في خوف
_وبتقولي لي انا…. كدة يا بنت الكلب.
فأضافت
-هو انا عارفه هو مين أصلا ؟
انا أول مره أشوفه في الحلم
-وبعدين؟
-وبعدين جيت انت صحتنىي يا مصطفى……
وتلكزه في كتفه بدلال يعهده
-كنت سيبنى شويه يا أبوي أكمل الحلم ده انت يا مصطفى…
و تنهض مبتسمة وهى تقبله قائلة
-صباح الفل.
-طيب يا شيخة زهرة رتبي القاعدة الراجل ها يفطر وبعدين هينزل بالقارب يصيد وخلى بالك الاستاذ كمال ده راجل مهم قوى بتليفون منه خلص رخصة القارب ومخالفة البناء وراجل محترم.
عايزين نكرمه زي ما أكرمنا.
انا هاروح أجيبه من عند الكوبرى . عقبال ما أنت تجهزي كل حاجة.
٢
هبط الأستاذ كمال من سيارته الفارهة التي راقب مصطفى زجاجها المعتم يرتفع ودار حولها حتى يتأكد أنها جميعها في ظل شجرة التوت وأقترب من “كمال” محاولا أن يحمل عنه حقيبة الصيد أو حقيبة الطعام فرفض كمال في أدب مربطاً على كتفه
-لا….لا… دي خفيفة
عبرا الأثنان من داخل البيت حتى أصبحا على الممشى المؤدى إلى النهر توقف “كمال” مندهشا لروعة المشهد وكأنه اصبح جزء من تلك اللوحة المرسومة أمامه وظل مندهشا حتى وجهه “مصطفى “قائلا
اتفضل…… يا أهلا…… وسهلا.
وأشار بيده إلى جلسة قد أعدتها زهرة في نهاية الممشى تحت آخر شجرة موز ملاصقة تماما للنهر.
ونادى مصطفى
-زهرة…. يا زهرة هاتي مسند من عندك لعمك كمال.
-دي بقى يا كمال بيه “زهرة” بنتي وأصحابي وأمي ودنيتي كلها… تقدر تقول ما لناش في الدنيا كلها إلا بعض….
-تعالي يا زهرة سلمي.
وتأتي” زهرة” حاملة المسند لكنها فجأة تتسمر في مكانها وكأنما قوة غامضة أمسكت قدميها ومنعتها من الحركة.
وهى تقول لنفسها
-هو…… والله…… هو نفس الرجل الذى كان يحملني على كفيه في الحلم.
هو بعينيه الواسعتين شديدتي السواد وشعره الفضي المسدل الى الخلف … وحاجبيه المنعقدين
ولكن كيف….
مددت زهرة يدها تسلم على كمال فنامت يدها في يده ونامت عينيها في عينيه. وعندما أطال النظر إلى بعضهما إطالة أربكت كمال فتدارك نفسه
-بسم لله … ما شاء الله ربنا يخليكم لبعض
ولكن عيون زهرة قالت شيء آخر لكمال(
هل تعلم انك كنت معي في الحلم أمس؟ و.. أنى أحببتك قبل أن أراك)
وإذا بصوت أبيها
-اقعدي يا زهرة إفطري معانا.
جلست في مواجهة كمال الذى اختلس النظرات إليها فأمام عيون زهرة لا يملك كمال ولا سواه أي حيلة
أجابت عيون كمال
-تعالي وأدخلينى مملكة الصبح والعصافير والياسمين…
فأجابته عيون زهرة
تعالى أنت واحملنى على كفيك كما في الحلم…. غنى لي…… وهدهدني حتى أسمع النهر وهو يغني …
فأجابتها عيون كمال
انصتِ….. ها هو النهر يهمس أنى أحبك.
مرت ساعات النهار وما انتهى بوح العيون وقضى كمال يوما استثنائيا في حياته ليس كباقي ايام أعوامه الخمسة والخمسين التي مضت من عمره.
٣
رغم أن “كمال” بطبعه يميل إلى الوحدة ويستمتع بها وماهر جدا في التقوقع حول ذاته مستغرقا في تأملاته… إلا أن شيئا مغايرا قد اقتحم حياته
بدل أحواله بعد ذلك اليوم وأصبح من عاداته اليومية أن يجلس وحيدا لساعات مغمض العينين حتى لا يرى أي شيء سوي عيون” زهرة” التي كان يعيش معها ويعيش بها ولها واستعاض عن رحلة الصيد الأسبوعية برسم بورتريه لزهرة وكتب قصائدا في عيونها “فكمال” شاعرا ورساما.. إلا أنه يتحفظ جدا على جنون الفن وجنون الحياة ولذلك قرر أن ينقطع عن رحلة الصيد الأسبوعية في المرسى الخاص بمصطفى.. على الرغم من حزنه الشديد على حرمانه من رؤية “زهرة” وبوح عينيها إلى أنه كان سعيدا بقدرته على وضع سدا أمام فيضان حبه قبل أن يتحول إلى سيل يجرف معه حياته كلها وهو الذى ظل حريصا كل الحرص أن يمر قطار عمره على محطاته ويودعها واحدة تلو الاخرى دون ضجيج.
وكم كان يناجي زهرة
-آه…. يا زهرة لوكان الزمن غير الزمن… والعمر غير العمر.
٤
فجأة رن جرس الهاتف وكان المتصل هو مصطفى… ألغى كمال صوت الرنين حتى يرتب كلمات مقنعه يعتذر بها عن عدم حضوره للصيد في قارب مصطفى. منذ اكثر من سنة… وبينما يرتب كلماته… اذا بجرس الهاتف يرن من جديد…. أجاب “كمال” الاتصال وإذا بصوت مصطفى يساله فزعا انت فين يا أستاذ كمال ؟…
-انا في البيت مالك.؟…. صوتك ماله؟
عايزك ضروري أرجوك أرجوك . عايز أشوفك حالا
خير في حاجة…..
لما تيجى
واثناء هرولة كمال ومصطفى في طرقات المستشفى قال مصطفى… أستاذ كمال زهرة حكت لي عن حبها لك وكانت متأكدة أنك تحبها و لكنى أقنعته أن ذلك الحب سيذوب مع الزواج ورغم رعبي من تحقق نبوءة أحلامها وأنها كما رأت في المنام ستموت وهى تلد كما ماتت أمها من قبل وهى تلدها الا أنى أقنعتها بالزواج من ابن عمها حتى تتخلص من حبها لك لكنني كنت مخطئا فهي مازالت تحبك وهى الان كما قالت نبوءتها وهي تضع مولودها ………..وينفجر في البكاء …… وطلبت…….أن … فاتصلت بك
لم يعرف كمال ماذا يقول… غير أنه أسرع فسبقت خطواته خطوات أبيها حتى وصل إلى سرير زهرة وأمسك بيدها بينما الممرضات يدفعن سريرها إلى غرفة العمليات سار كمال بجوارها ممسكا بيدها وهو يحدق في عيني زهرة وقال لها

أوحشتني
فابتسمت زهرة وقبضت بأصابعها على أصابعه
-ها هو حلمي يتحقق جسدي يطفو بلا وزن ولا أرى من العالم كله إلا وجهك أنت…
ثم نظرت إلى أبيها
-وهذه بقية الحلم الذى أخفيته عنك يا أبى. فقد تركت كفي عمي كمال جسدي يغرق.
بكى كمال كل لحظة جبن فيها عن مصارحة زهرة ولعن حرصه على هدوء محطات عمره ،وتمنى لو أنه كان يمتلك بعضا من ذلك الجنون.
وابتسمت زهرة كما لو كانت تعلم ما يفكر فيه….
-لا تندم فأنا كنت أعيش فقط في الأحلام. وهذا يكفيني
نظرت الى أبيها الذى أمسك بيدها الاخرى دون أن ينطق بكلمة
إذا كان ولدًا فأسميه “كمال”
واذا كانت بنتًا فأسميها “أحلام”