أخبار عاجلة

بحور المَاضِي : الموجة الـ 381 الجزء الثاني

علي حدود مدينه الإسكندرية الرومانية الشرقية عام 381 ، تحديداً عند بوابة الشمس وقف شاب حاملاً علي ظهره قطعة من الكتان قد خزن بها مقتنياته البسيطة حامياً نفسه من برد الهواء بملابس رومانية من القماش الخشن الذي كان شائعاً بين عوام الشعب حيثُ رأي موكب الحاجب البيزنطي يتقدم بثبات دخولاً المدينة ، أبصر الحاجب ذو الجسد السمين والملامح الغليظة يرتدي القماش الحريري القادم من الصين المُطرز بالذهب .. تأفف ثم قال لنفسه بامتعاض …
-لقد خلقتنا الآلهة طبقات يا جراتيان.
وقف عند أسوار المدينة حيث قدم هارباً من الضرائب الباهظة التي فُرضت عليه في قريتُه ليحتمي بالإسكندرية تاركاً ماضيه بدون الالتفات للوراء ؛ أنتظر نهاية الموكب كسائر المارة ثُم خطي بقدمٍ تنقُصها الثبات دخولاً المدينة كان جراتيان قد علم بالتحول الديني الذي يجري في الإسكندرية لكنه لم يكن علي دراية بما سوف يحدُث.
….
انعكست أضواء المشاعل المعلقة في شوارع الإسكندرية ليلاً علي أرض الممرات الحجرية لتُطغي علي الأرض اللون الأصفر المُهتز لتملأ مناخ المدينة المسائي بالهدوء اللازم للتعبد للآلهة ، كانت أصوات أرجُل الخيول تُنتج نغمات الطبول لتبشرُك دائما بالخطر المُقترب وإن لم يكُن هنالِك من خطر ، أنتجت النجوم أنواراً متراقصة في ظلام السماء كأنها عيونٌ تُبصر كُل ما يحدث بترقبٍ شديد ، قلما كان السكون يُباغت بهمهمات الرهبان أمام المعابد او غناء البحارين المُختلط برائحة النبيذ الأحمر التي فاحت لتلتقطها أنف شابٍ مصري.
مشي جراتيان علي ممرات الصخور مُتجهاً لمعبد الإلهة سيرابيس لإكمال طقس تضرعه اليومي كما أعتاد ، انزعج من أصوات البحارة الذي نبأه بإنشغال العوام عن أداء الصلاة والتقرب من الآلهة ، قال في تعليل …
-الهداية لم تُخلق للجميع يا جراتيان.
خطي للأمام ليبتعد عن مصدر إزعاجه حيثُ رأي أعمدة السرابيوم الشاهقة وكأنها قد كونت جسراً إلاهياً للصلوات بين دنيانا والنعيم ، بدت عليها الخدوش وكأنها قد رفعت السماء علي عاتقيها لكي لا تنهار علي جميع من بالأسفل ، لم يفشل مرأي الأعمدة من بعث القشعريرة في جسد جراتيان الضعيف ، جثي علي رُكبتيه لإتلاء صلاتُه وحيداً تحت أضواء المشاعل والشموع ، لم يكن ينزعج من خلوته في حياته ، لاسيما انه قد أتي ليتضرع لإله الوحدة ؛ أنهي طقوس عبادته ليخرج عائداً لمسكنُه ، نظر جراتيان لأعلي ليري النجوم التي بدت كاللآلئ تُزين ثوب السماء الداكِن وقَال في شُكر …
-شكراً هيرميس لإحضاري هُنا.
وسط هدوء الشوارع الليلي مشي جراتيان مُتأملاً ، سُرعان ما تمت مقاطعة هدوئه بواسطه صراخ ناتج عن الشعور بالألم المُصاحب بضحكات ، أسرع لِيُبصر ما يجري ، أمضي حتي وصل إلي زُقاق جانبي ليري مجموعه من الشباب في الزي الكهنوتي المسيحي يركلون شابا وقد ارتمي علي الأرض مُتأثراً بجراحه صارخاً طالباً للنجدة ، اقترب ليسمعهم قائلين …
-أين ألهتُك ؟ ، ألن تحميك منّا ؟
=لتُنادي عليهُم يا هذا ؛ فما هُم بفاعلين شيئاً.
يُباشر ثالتهم بتوجيه الحديث للشاب الذي نزف ما يكفي منه لفقدان الوعي …
-ما أنتم سوي مجموعه من المهرطقين البُلهاء ، سنسدي إليكم صنيعاً إذا احرقناكُم أحياء لتتطهروا في الدنيا.
يصرُخ رابعهُم مُنادياً في سخرية …
=انتقم منا بألسن اللهب يا هيديس ، لتُطلقي علينا أسهُم غضبك يا آرتميس.
يفتح ذراعيه كاشفاً عن صدره مازحاً ويدور حول نفسه في انتظار …
-ما أنتم سوى خيالاتٍ ملعونة ، فلا أنتم بمحركي الرياح ولا مُنبتي الثمار ولا بمسقطي المطر ولا حتي بباعثي العون في حالة صاحبنا …
سُرعان ما يباغت حديثه بضربة علي مؤخرة رأسه لتلقيه أرضاً في سكون ويهدأ صوته لمده من الوقت أتاحت لجراتيان الانهمار عليهم ضرباً ليسقط اثنين منهم ارضاً في حين هروب البقية مبتعدين من الزُقاق ، خرج من الزُقاق حاملاً الشاب الذي كان يُصدرُ أنيناً لفرط ما كان فيه من ألم ، بعد مسيرةٍ طويلة وصفها جراتيان في عقله بأنها من أطول طُرق السفر التي مشاها وصل منزلُه ليضع الشاب النحيل علي الفراش ويضمد له جراحه ، بعد أن انتهي من معالجة الشاب قال مطمئنا إياه …
-لا تقلق ستغدو علي ما يرام.
لم يُبادل الشاب جراتيان الرد ، أمضي جراتيان صعوداً إلي سطح منزله ونظر حيث قدماه ، وقال في إرهاقٍ ممتزج بحزنٍ دفين …
-ماذا أنتم بفاعلين ؟
حول نظره للنجوم مُترقباً الرد ، ولكن السماء كانت قد أنتجت الصمت الكافي لرسم ملامح الغضب والسخط علي وجه جراتيان الذي صرخ في انفعال …
-ماذا أنتم بفاعلين ؟ هل فقدم بصيرتكم من فرط ملذات النعيم ؟ أنسيتموننا ؟ لُمْ نُأخر عبادتنا لكم ، لا أري سبب منطقياً لغضبكم علينا ، كونوا شُجعاناً وأجبوني …
ساد صمت النجوم من فوق جراتيان الذي جثي علي ركبتيه من فرط الخُذلان ، لكنه لم يحيل نظره من النجوم وكأنه قد تمسك بأخر نفحه من الهواء تحت أنقاض معبدٍ قد إنهار عليه ، صمت بُرهة ثم تابع …
-أنتم لا تصلحون لتكونوا ألهه لا تصلحون لفعلٍ شيء في المقام الأول ، لقد سخّرت حياتي لعبادتكُم وها أنتم هنا في المُقابل لا تقوون حتي علي الرد.
أزرفت عيناه الدموع التي لم يكُن معتاداً عليها في حياتُه فشعرت سماء الإسكندرية بالضيق جراء ما يحدث فانهالت السحب تصادماً مُطلقةً الرعد تضامُناً مع غضبه قبل أن تُسقط أمطاراً قوية تعاطُفاً لتُواري عورة عيناه وتُطفئ نار صدره التي كادت أن تحرق كُل ما فيه ، وقف جراتيان علي قدماه …
-وإن سقط إيماني بكُم .. من أتبع ؟ أتبع من يقتلون أبناء ديني سراً وعلانية ؟ من يتلذذون بتعذيبنا باسم الدين ؟ أيُ دينٍ هذا الذي يأمر بقتل الأبرياء وتعذيبهُم ؟ نتبعُ قصصاً ويتبعون قساوسة يأمرونهُم بحرقنا أحياء.
بعد أن بدا جراتيان كمن خرج لتوه من البحر بملابسه المبتلة ، وضع يده علي رأسه وكأنه يختبئ من الحياة بكل ما فيها …
-لم أعُد أري صواباً بين كُلِ هذه الفوضى يا أثينا ، لُم يعد هنالك من حُبٍ يا أفروديت ، هاهنا الخراب والظلام يا هيليوس ، وها هُنا يأسي يا أيتُها الآلهة.

انتظروني في الجزء الثالث
أحمد فتحي الجندي