أخبار عاجلة

حكيم جماعين يكتب: أنس علوي يلون الأبجدية بنحت صوفي

حكيم جماعين يكتب: أنس علوي يلون الأبجدية بنحت صوفي

الحرف ذكر، واللون روحه، وكلاهما طريق لا ينتهي إلى معنى واحد، بل إلى حضور.
قراءة في تجربة الفنان السعودي أنس علوي وتجربته المعنونة ” الأبجدية العربية”

يشتغل الفنان السعودي أنس علوي على الخط
والأبجدية العربية ضمن منطق اللون والبناء النحتي ليس تزيينًا للحرف، بل خروجًا به من وظيفته الصوتية إلى مقام الفعل الفلسفي. حين يُلوَّن علوي الحرف او يعيد بناءه نحتيًا، لا يعود الحرف مجرد وسيط للمعنى، بل يصبح كيانًا يفكّر، يتردّد، ويقترح أسئلة لا يقدم معاني للمفردات. هو انحراف مقصود عن الحياد، إعلان أن الحرف لا يكتفي بأن يُقرأ، بل يريد أن يُرى، أن يُحَسّ، وأن يُختبَر. في هذا المعنى،يتحول الحرف العربي عند
علوي إلى فعلٍ موازي للفكر لا يشرحه، بل يجاوره، يلتف حوله، ويُربِكه أحيانًا. كأشكال تغادر عشوشها، فالأبجدية العربية حين تُفكّ من سطرها، ومن انضباطها النحوي، تشبه كائنات كانت ساكنة في أعشاش المعاجم والكتب. تخرج فجأة إلى الفضاء البصري، غير مطمئنة تمامًا، لكنها حرّة. الألف تستقيم كجسدٍ وحيد في فراغ لوني، والباء تنقلب إلى وعاء، والنون إلى قمرٍ ناقص يبحث عن سمائه، والواو جسد تكور في حضن الأمومة،
في هذه الهجرة، يفقد الحرف سلطته القديمة ويكسب هشاشته الجميلة. لم يعد يحكم المعنى، بل يفتحه. لم يعد يقول «هذا هو»، بل يهمس: «ماذا لو؟». اللون يمنحه شجاعة المغادرة، ويمنحنا نحن إمكانية رؤيته خارج الطاعة، خارج التكرار، وخارج الاستعمال.
هكذا تصبح الأبجدية العربية في اللون تجربة فلسفية بصرية، تفكير بالعين، وتأمل بالشكل، وسؤال معلّق بين ما نعرفه عن الحرف وما لم نجرؤ بعد على تخيّله. هي لحظة يتحرر فيها الحرف من عشه، لا ليضيع، بل ليختبر العالم.
في أعماله هذه يختبر علوي الحروز والتمائم، مراهنا على ان العلاقة بين الأبجدية واللون والحُروز والتمائم ليست علاقة زينة أو ترميز سطحي، بل هي علاقة إيمان قديم بقوة الشكل حين يُشحَن بالمعنى، وبقدرة الرمز على أن يعمل في العالم لا أن يصفه فقط.
في الحروز والتمائم، الحرف لا يُكتب ليُقرأ، بل ليُستَحضَر. الأبجدية هنا تفقد وظيفتها التواصلية وتدخل مجال الفعل الخفي. يصبح الحرف أثرًا، علامةً تعمل بصمت، مثل تعويذة بصرية. لا يهم إن فُهِمَت الكلمة، المهم أن تكون مكتوبة، مُغلَقة، محفوظة، كأنها كائن صغير محبوس في طيّات الورق أو المعدن.
اللون في هذا السياق ليس اختيارًا جماليًا، بل طاقة. الأزرق للحماية من العين، الأحمر للدم والحياة والدفع، الأخضر للبركة والاستمرار، الأسود للغموض والحجب، والأبيض للتطهير والبداية. حين يُلوَّن الحرف، يُعاد شحنه بطبقة إضافية من الفعل، كأن اللون يوقظه من حياده، أو يوجّهه إلى مهمة محددة.

الحروف غالبًا لا تحترم قواعد الخط، بل تكسرها عمدًا. الحرف يُصغَّر، يُكدَّس، يُكرَّر، أو يُفكَّك. هذا التفكيك ليس ضعفًا في المعرفة، بل معرفة أخرى، معرفة أن القوة تكمن أحيانًا في الإخفاء لا في الوضوح، وفي الالتباس لا في البيان. لذلك نجد حروفًا مقطّعة، مربعات، أرقامًا، تراكبًا بين الأبجدية والشكل الهندسي، حيث يصبح الحرف جزءًا من بنية سحرية أكثر منه عنصرًا لغويًا، إنها تمائم تشكل مكان الحرف خارج اللغة. مساحات يتحول فيها الخط إلى جسد، واللون إلى نفس، والكتابة إلى ممارسة شعائرية. ما يُكتب لا يُقصد به العقل، بل الخوف، الرجاء، الرغبة في الحماية والسيطرة على المجهول. لذلك لا تُعلّق التمائم على الجدران، بل على الأجساد، قريبة من القلب حول العنق والمعاصم،في هذا المعنى، الأبجدية الملوّنة في الحروز والتمائم هي كتابة قبل العقل وبعده كتابة بدائية وعميقة في آن، تعترف بأن الإنسان لم يكتب يومًا فقط ليفهم، بل كتب ليحتمي، ليطمئن، وليترك أثرًا صغيرًا يقف بينه وبين العدم.
اللون هنا لا يُضاف إلى الحرف، بل يُستخرج منه. الألف يميل إلى البياض أو النورانيّة، لأنه رمز الأحدية والبداية الخالصة. الباء يجاور السواد أو الأزرق الداكن، لأنه حرف الاحتواء والسرّ المخفي تحت النقطة. الميم لونها مائي، أخضر أو فيروزي، لأنها دائرة الاكتمال والعودة. هذه ليست قواعد ثابتة، بل مقامات ذوقية تتغيّر بتغيّر السالك وتجربته.
***
في المخطوطات الصوفية، وفي الأحراز يُستخدم اللون بوصفه ذِكرًا بصريًا. تكرار حرف بلون واحد يشبه تكرار الاسم في الحضرة، والانتقال اللوني يشبه الانتقال بين الأحوال، قبض وبسط، فناء وبقاء، خفاء وتجلي. العين تذكر كما يذكر اللسان، وربما قبل اللسان.
الحرف العربي، بمرونته وانسيابه، قريب بطبيعته من التجربة الصوفية. هو لا ينفصل عن الجسد يُكتب بنَفَس، ويُمدّ ويُقصّر، ويعلو وينخفض. حين يُلوَّن، يدخل في علاقة أوضح مع النفس والوجدان. اللون يفتح للحرف باب الإحساس، كما يفتح الذكر باب الحال.
في التصوف، لا يُطلب من الحرف أن يشرح، بل أن يدلّ. كذلك اللون لا يُقصد به التفسير، بل الإشارة. لهذا تتجاور الحروف عند علوي أحيانًا دون أن تكوّن كلمات مفهومة، وتُلوَّن دون نظام لوني صارم. المقصود ليس القراءة، ولا إنسجام اللون بل الدخول في حالة، في فضاء تأملي حيث يتلاشى الفرق بين النظر والذكر.
هكذا يصبح اللون في الأبجدية العربية لأنس علوي ممارسة روحية محاولة لرؤية ما وراء الحرف، ولمس ما وراء اللون. الحرف جسد الذكر، واللون روحه، وكلاهما طريق لا ينتهي إلى معنى واحد، بل إلى حضور.