أخبار عاجلة

خيري حسن: (ليلى) و(عثمان).. والحب الذى كان!

(ليلى) و(عثمان).. والحب الذى كان!

“مربوط ع الدرجة الثامنة/ والناس درجات
ومُرشح أخد التاسعة/ غير العلاوات
ما أعرفش.. لا كده/ ولا كده/ م الباب للباب”

(القاهرة ـ 1954 )

62 عاماً عاشها الممثل/ المطرب عزيز عثمان ( اسم الشهرة محمود بلاليكا) من الباب للباب!” مربوط ع الدرجة الثامنة/ والناس درجات” وليس له أحباب ولا أصحاب! إلى أن اشتعل الحب بداخله، ولعب الهوى بعقله ـ كحال معظم البشر ـ وارتفعت فواتير العشق، والسُهد، والغرام، وترعرعت فى قلبه الأحلام، وتوارت الأوهام، حينما ظن ـ وليس كل الظن(فى الحب) إثماً!-أنه بالغرام وحده، وبالهيام وحده قد يحيا الإنسان، وتضحك له الأيام! فاندفع ـ وهو فى ذلك العمر المتقدم (من مواليد 1892) ـ طالباً الارتباط من فتاة شديدة الجمال والدلال، ومعجونة بالذكاء والدهاء. اسمها ليلى محمد فوزى إبراهيم( اسم الشهرة ليلى فوزى- من مواليد 1918) وبالفعل تقدم لها فى خشوع وخضوع قائلاً:” تتجوزينى يا ليلى”؟! وهى لأسباب ـ أعلنتها فيما بعد ـ وافقت على الزواج رغم فارق السن الكبير بينهما! عندما ردت عليه قائلة:” اتجوزك طبعاً… يا عمو عزيز”! وبالفعل تحقق له ما أرد. وتحقق لها ما أرادت! وتم الزواج فى شهر مايو/ أيار – 1952 وعمره يناهز 60 عاماً فيما كان عمرها ـ حينذاك ـ 30 سنة تقريباً ليقضياَ معاً شهر العسل ـ هذا إذا كان عسلاً بالفعل ـ فى فندق الكونتنتنال بوسط القاهرة. لكن العسل تغير طعمه، وحل الملل مكان الأمل، وتغير الحال.. من حال إلى حال. وانقلب الحب إلى هجر وخصام. والقرُب إلى هجر وبُعاد وأحزان. وتحول الحلم القريب.. إلى بعيد! وأنقلب البيت السعيد.. إلى حزين، بعدما طلبت ليلى الطلاق، وألحت واصرت فى طلبها قائلة:” طلقنى يا عمو يا عزيز ” حتى تكون حرة، وتتزوج من الفنان أنور وجدى( جان ) ذلك الزمان، والتى كانت قبل أيام من طلبها المفاجئ قد انتهت من آداء دورها أمامه فى فيلم لعبت بطولته وكان عنوانه( خطف مراتى) وكأن ما فعله – وقدمه – أنور وجدى على شاشة السينما هو (بروفة) سينمائية لما سيحدث بعد ذلك فى الواقع…وبالفعل حدث!!
***
” سيبك منهم ده مفيش غيري
قيمة، وسيما.. ووظيفة ميرى”

( الجيزة ـ 1954)

إلى شقته رقم 10 بالدور السادس فى عمارة رءوف بشارع بنى عامر ـ متفرع من شارع/ مراد ـ صعد المطرب عزيز عثمان منهك الجسد، تائه العقل، ذائغ العنيين، مضطرب القلب، بعد قضائه لسهرة طويلة، حزينة، مملة، مع الأصدقاء فى حديقة كوبرى الجلاء وسط القاهرة. فى السهرة تحدث كثيراً عن قلبه المُنكسر، وعقله المُرتبك، وحبه الذى كان، وعمره الذى ضاع، ومستقبله الذى لم يعد يرى له ـ أو منه ـ بارقة أمل أو رحمة أو حنانا!
ـ “خدعتنى يا واد يا سالم.. وأنا اللى كنت فاكرها بتحبنى” بهذه الكلمات المؤلمة، والذكريات المحزنة، تحدث بصوت واهن إلى خادمه الذى استقبله بعد عودته – قبل قليل- ليحضر له وجبة العشاء!
وقف الخادم يتأمله فى تأثر شديد قائلاً:” أراك متعباً يا أستاذ.. لماذا تأخرت هكذا فى الخارج؟!..الساعة الآن اقتربت من نصف الليل؟ وعندما هز رأسه ولم يرد. أردف الخادم قائلا:ً
ـ ” أعملك فنجان قهوة .. يا سيدى!
ـ سادة ـ لو تسمح ـ يا سالم!
***
” يعنى الماهية من الصرَّاف
مع العلاوة على الانصاف
هيكون ملك إيديك/ إنضاف
وإنشالله أكل…أنا عيش حاف”

(القاهرة ـ 1946)

فى فبراير / شباط من ذلك العام الحزين وقعت أحداث كوبرى عباس( هو جسر يقع ما بين مدينة الجيزة والقاهرة أنشئ عام 1908) حيث شهد خروج الطلبة فى مظاهرة احتجاج حاشدة ضد الاحتلال الانجليزى التى أمرت سلطاته ـ مع النقراش باشا بصفته وزيراً للداخلية ورئيسا لمجلس الوزراء وراسل باشا حكمدار العاصمة) بإحكام الحصار فوق الجسر لقمع المتظاهرين فوق الكوبرى بإستخدام أساليب قمعية، غبية، شديدة القسوة تكررت كثيراً فى تلك السنوات! حدث الحصار وسط هتافات مدوية:( الاستقلال التام أو الموت الزؤام)! وتحت نيران طلقات الرصاص الغادرة سقط المئات من الجرحى من أجل الاستقلال والحرية! وبعد أيام من ذلك الصدام الدامى ما بين جموع الطلبة الثائرة، والسلطة الجائرة، ظهرت أغنية عزيز عثمان الشهيرة:( بطلوا ده / واسمعوا ده) والتى سخر فيها من نجيب الريحانى- الذى لعب دور حسن – ( فى فيلم لعبة الست) بعدما تزوج من تحية كاريوكا) وكان يغنيها ويرددها رواد دور العرض السينمائية، وزبائن مقاهى وسط البلد على طريقته الساخرة، وأسلوبه الظريف الذى اشتهر به دون أن يعرف هو ـ أى عزيز عثمان ـ أنه بعد 6 سنوات سيتندر عليه بنفس الكلمات، ونفس الحركات، مجتمع القاهرة المخملى ورواد ملاهى شارع عماد الدين بعدما تسرب إليهم خبر تقدم محامى زوجته ( كان وقتها المنتج عدلى المولد) وكيلاً عنها – يوم 28 إبريل 1954- بطلب إلى محكمة السيدة زينب الشرعية طالباً فيه طلاق موكلته ليلى من زوجها عزيز مع إلزامه بنفقة شهرية قيمتها مائة جنيه مصري، فيما رد هو بدعوة مستعجلة أقامها محاميه يطلب فيها ليلى فى بيت الطاعة.

***
“بطلوا ده/ واسمعوا ده
ياما لسه نشوف/ وياما
الغراب يا وقعة سوده
جوزوه أحلى يمامه”

(الشقةـ الساعة الواحدة صباحاً)
ـ “القهوة .. يا أستاذ”!
ـ ” أتركها بجوارى، واذهب إلى حجرتى يا سالم.. وهناك ستجد بجوار السرير علبة الدواء.. هاتها بسرعة”!. بعد دقائق جاء الخادم فوجده مازال صامتاً، وعاتباً على الحب وسنينه، والزمن وألاعيبه. فقال الخادم:” شكلك لسه تعبان يا أستاذ”؟
رد:” لا تنزعج.. الآن سوف أشرب القهوة وبعدها سأكون بحال أفضل”. بعدما انتهى من فنجان قهوته قال بصوت هامس وكأنه يكلم نفسه:” الليلة قلت لصديقى المخرج حلمى رفلة:” شفت يا حلمى…شفت ليلى عملت آيه؟ دى كانت بتقول أنا بحبك يا عزيز…أنا بموت فيك يا زيزو”!
– رد الخادم دون أن ينتظر منه إجابة:” زيزو…قالت زيزو كده”؟!
“- طبعاً… قالت ذلك” ثم أردف قائلاً:” وعندما سألها ذات يوم محرر مجلة الجيل عن زواجنا قالت:” كنت استخف دمه( دمى أنا يا سالم) وقالت أيضاً: (كان عزيز يسهر على راحتى ويغار علىّ من النسمة الطايرة) هكذا قالت للصحف بعد زواجنا” ثم ارتفع بصوته وهو يوجه كلامه للخادم الذي مازال يقف فى زهق وملل ثم أكمل قائلاً:” الليلة قلت لحلمى رفلة..شفت أنور وجدى يا حلمى.. عمل آيه؟ أخجلنى بين الناس.. وعمل فىّ العملة السودة دى”
ـ وبماذا رد عليك حلمى أفندى رفلة؟
ـ “سكت والحزن على وجهه.. ولم يعلق.. لذلك تركت المكان وجئت للبيت ولم أكمل السهرة معهم لأننى أشعر بالحزن والاكتئاب”!
ـ يا أستاذ..” يعنى اللى خلقها مخلقش غيرها؟!) ثم أردف الخادم قائلاً: ” ربنا عوضك عنها بالفنانة اللبنانية (قمر) التى جاءت لزيارتك قبل أيام… دى حتى يعنى أحلى من ليلى هانم ( قالها وهو يضحك) وكفاية أن اسمها قمر وهى فعلاً قمر 14 يا أستاذ!
استمع عزيز عثمان لحديث المجاملة من خادمه دون اهتمام، وهو يتذكر السنوات الأولى التى عرف فيها ليلى عندما كانت صغيرة، وتربطه بأسرتها صداقة متينة، وكان يعرفها من زيارته المتكررة لهم منذ عرف والدها فى منتصف الثلاثينيات عندما انهارت تجارته ـ كتاجر أقمشة وله محلات ما بين القاهرة ودمشق واسطنبول ـ وتراجعت أوضاعه المالية، وبدأ يذهب كثيراً للسهر على مقهى الفن بشارع عماد الدين، وهناك تعرف على عزيز عثمان الذى كان يؤدى وصلات غنائية تراثية ـ ابتعد عنها بعد ذلك ـ من ألحان ابيه الموسيقار محمد أفندى عثمان. ومنذ ذلك اليوم اصبح صديقاً للأسرة حتى كبرت ليلى وتقدم لها العرسان فرفضهم الأب جميعاً إلى أن فكر عزيز وقرر الزواج منها، فوافق الأب على افتراض أنه فنان، ومطرب، ورجل متزن، وعاقل، وسوف يصونها ويحميها ويحافظ عليها من الفن وتقلباته، فيما وافقت ليلى ـ حسب قولها بعد ذلك ـ لتخرج من البيت وتهرب من سطوة الأب ورفضه لعملها بالتمثيل الذى أحبتها منذ مشاركتها الأولى( كومبارس) فى فيلم مصنع الزوجات عام 1941) بعد حصولها على لقب ملكة جمال المدارس عن مدرسة راهبات الراعى الصالح بشبرا!
***
” انتى عاجبك فيه جنانه
واللى لخبطته ف كيانه
وإلا تعويجة سنانه
بطلوا ده.. واسمعوا ده”

( الشقة ـ الساعة الثانية صباحاً)

” بعدما اصرت على الطلاق وذهبت للمحكمة قررت – بعد تدخل عدد من الأصدقاء – إنهاء الأمر بصورة ودية وشهد على الطلاق أحمد عياد المحامى ( مستشار سابق) والشيخ حامد مطاوع بعدما دفعت لى 4 آلاف جنيه وانتهت من حياتى- كزوجة – يوم 7 يوليو / 1954″ هكذا يواصل عزيز عثمان حديثه مع الخادم الذى قال له:
راحت لحالها يا أستاذ!
– لا .. يا سالم.. راحت إلى أنور وجدى!
***
( الشقة- الساعة الثالثة صباحاً)

إلى حجرته تحرك عزيز عثمان ببطء فيما عاد الخادم إلى الحجرة لينام بعض الوقت قبل طلوع النهار. بعد ساعة لم يستطع عزيز النوم، فأيقظ الخادم وطلب منه زجاجة كوكا كولا ورشف منها قليلاً، لكنه بدأ يشعر بالتعب الشديد فطلب منه القيام بإستدعاء الطبيب. اتصل الخادم بأحد الأطباء لكنه اعتذر عن الحضور قائلاً:” الوقت متأخر..سأمر عليه فى الصباح”! قال عزيز للخادم:” أشعر بأن عمرى انتهى…والساعة قد حانت… بسرعة اطلب شقيقتي فاطمة وزينب…حالاَ”!
وعندما فرغ الخادم من اتصاله بهما( يعيشان فى منطقة باب اللوق) ووضع سماعة الهاتف عاد إليه فوجده فى وضع صحى أصعب من الأول، بعدما دخل فى حالة انهيار تام!
***
” كل ده يجرا عشانه
إللى لو خبوا ف ودانه
جوز أرانب لم يبانوا
بطلوا ده…واسمعوا ده”

(القاهرة – حى الزمالك)

آلوه…آلوه…مساء الخير يا ليلى يا حبيتى
أهلا يا أنور يا حبيبي…أنت لسه صاحى؟
طبعا.. أرتب بعض الأمور للسفر غداً…أنتِ جهزت شنطة سفرك ؟
– من بدري يا حبيبي…
– خلاص…الصبح هيعدىِ عليكِ السائق ونلتقي فى محطة القطار للسفر إلى الإسكندرية ومنها إلى أوروبا لقضاء شهر العسل وبعدها نعود للقاهرة.
– اتفقنا…مع السلامة
– ليلتك سعيدة
***
” أترك البلبل يا خيبة
للقيافة
هيه دى مش تبقي عيبة
ع الظرافة
بطلوا ده… واسمعوا ده”

(الشقة -الساعة الرابعة صباحاً)

بعد دقائق استدعى الخادم الطباخ والسفرجى والسائق ووقفوا جميعاَ بجواره فى حالة ذهول، وارتباك، خاصة عندما وجدوه يلفظ أنفاسه الأخيرة أمامهم وهم فى حالة شلل تام.. فى الصباح أُعلن الخبر وحضر بعض الزملاء منهم (حلمى رفلة وحسين صدقي وإبراهيم عمارة وكوكا وزينب صدقى) وتم تشييع جثمانه إلى مثواه الأخير، وأقاموا له عزاء يليق به، رغم أنهم لم يجد فى بيته – يوم الوفاة – سوى 3 قروش فقط! هذا الأمر جعل أسرته تتقدم ببلاغ للنيابة تؤكد فيه اختفاء ملابسه وما فيها من نقود( كان بينها 4 آلاف جنيه أخذها من ليلى فوزى كتسوية للخلاف بينهما قبل أيام) ودفتر شيكاته، ومحتويات الشقة التى اختفى ما بها من سجاد وتحف وفضيات وملابس وكافة أوراقه الخاصة! فى البلاغ الذى قُدم إلى محمد شريف وكيل نيابة بندر الجيزة اتهمت الأسرة الخدم بسرقته قبل وصولهم. ولعدة أيام واصلت النيابة التحقيق فى ملابسات السرقة وعندما لم تصل التحقيقات إلى أى شئ أغلق المحضر فى ساعته وحينه دون الوصول إلى الجناة الذين سرقوا منه كل شئ حتى أنهم استولوا على الخاتم الذهب( كان ثمنه 1200 جنيه وقتها) الذى كان فى يده بعدما نزعوه بطريقة وحشية، عنيفة، وقاسية تركت آثارها على أماكن متفرقة فى ذراعه ويده!
***
” هيه كانت فين عنيكى
يا يمامة
لما دورتى بإيديكى
ع الندامة”

(باريس – بعد أسبوع)

فى نفس يوم وفاته غادرت ليلى فوزى وأنور وجدى ميناء الأسكندرية إلى ميناء مارسليا وبعد انتهاء فترة العِدة( كان باقياً عليها 4 أيام تقريباَ) ذهبا إلى القنصلية المصرية هناك وتم عقد القرآن والزفاف ليقضياَ معاً أيام الفرح والعسل التى استمرت أربعة شهور كاملة عاش فيها فى متعة وفرحة وبهجة وسعادة(حسب وصف ليلى فوزى لتلك الأيام بعد ذلك) ثم عادا إلى القاهرة للعيش فى شقة جديدة اشتراها أنور وجدى فى حى الزمالك-( وترك شقة عمارة الايموبليا لزوجته السابقة ليلى مراد )- وفى شقة الزمالك لم يعش فيها سوى أيام قليلة، هاجمه فيها المرض بعدما تسرب إلى جسده بسرعة غريبة وعجيبة. وعندما فشلت طرق علاجه فى القاهرة عاد ( ومعه ليلى فوزى ) إلى أوروبا واستقر بهما الحال فى مستشفى لعلاج الكلى فى السويد والتى بدأ بها العلاج فور وصوله لمدة 4 شهور متواصلة دون جدوى أو تحسن، ليموت بعدها الفنان أنور وجدى عن عمر يناهز 41 عاماً ويعود جثة هامدة فى صندوق خشبى إلى مثواه الأخير وبصحبته ليلى فوزى وحيدة، حزينة، مصدومة، ليدفن فى مقابر القاهرة – ربما – بالقرب من المقابر التى دفن فيها غريمه المطرب عزيز عثمان الذى رحل قبله بشهور قليلة.
وبعد سنوات وبالتحديد فى عام 1961 تزوجت ليلى فوزى من الإذاعى القدير جلال معوض الذى أكملت معه حياتها الأسرية الهادئة المستقرة حتى رحيله عام 1997ثم لحقت هى بهم جميعاً حينما ماتت عام 2005 عن عمر يناهز 86 عاماً…لتبقي السيرة…وتستمر المسيرة..
..دنيا!!
خيرى حسن

•• الأحداث حقيقية…والسيناريو من خيال الكاتب.

•• ينُشر غداَ فى صحيفة الوفد (العدد الإسبوعى) الخميس 24 فبراير/ 222

• الشعر الغنائى المصاحب للكتابة للشعراء:
حسين السيد/ بديع خيري.

المصادر:
مجلة الجيل/ مجلة الكواكب
صحف: الأهرام/ الأخبار/ الشعب