أخبار عاجلة

كانت في الأصل إلهةً تُعبد بقلم الشاعر ” أحـمـد الـشَّـهـاوي “

غاب خِطابُ الحُب في الثقافة العربية ، وصار الخِناق ضيِّقًا على الناس ، وحلَّ خطاب الكراهية بديلا مكانه ، ولم يعُد العرب يقدِّمون خطاب العشق المعرُوف والمشهُود لهم به في تراثهم وتراث الإنسانية ( أو أي خطابٍ آخر ) ، إذْ انغلق الفُقهاء ، وتشَدَّد العُلماء ، وتعسَّف الشيُوخ ، وجُمُدت عقُول ونفُوس الأئمة ( هذا إذا كان هناك أئمةٌ من الأساس في زماننا ) ، وصار الخوفُ من النساء ، وكراهيتهن وازدراؤهن واحتقارهن والحَطّ منهن ، والعنف ضدهن ، و اعتبارهن أوعيةً جنسيةً لا أكثر مِنهاجًا وثقافةً شعبيةً عامةً ؛ من فرْطِ ما يُقال ويُذاع ويُكتب ، في المساجد والمناهج والكتب ، كأنهن لسن ” شَقَائِق الرِّجَالِ ” ، ولا نستوصي بهن خيرًا ؛ حتى صار الإسلام دين العرب يُعرف بأنَّهُ مُرادفٌ لكُرهِ النساء ، بعد أن كان العرب – وخُصُوصًا العُذريين والصوفيين – يرَوْن الحُبَّ دينًا ومذهبًا ، وكأنَّ المشتغلين بالدين ينقلون عن أرسطو الذي رأى أنَّ ” النساء عبارة عن تشوهات طبيعية أو رجال ناقصين ” ، مع أن الحياة ما هي إلا رواية عشقٍ فصُولها غنيَّة ومتعدِّدة .

وصار نتاج فُقهاء العرب والمسلمين من كُتب العشق كُفرًا وزندقةً ومرُوقًا ، إذا جاء على لسان قلمٍ عربيٍّ مُعاصرٍ أو حديثٍ ، ولذا أخذت الكراهيةُ مكان العِشق ، والحقد مكان الحُب ( الذي هو سَفَرٌ في أرضِ الرُّوح ) ، فبدلا من أن كان لويس أراجون يقلِّد مجنون ليلى ( ويكتب ديوانه مجنون إِلسَا ) ، والعشرات من الكُتَّاب والمفكِّرين الأوروبيين يُقلِّدون ابن حزم الأندلسي ، حتَّى تغيَّر شكلُ الحُب ومُمارسته بين ناس أوروبا ، صار العرب هم الناقلون عن غيرهم ، ولم نعُد نرى العِشقَ ( الذي هو الوصُول إلى المعرفة الكبرى ) إلا فيما ندُر بين العرب ، وسادت ” علاقاتٌ وتجاربُ ” عابرةٌ ، لا رائحةَ لها أو أثر ، لا تتركُ علاماتٍ في نفوسِ وأرواحِ المُحبين ؛ لأنَّها مسَّت الجِلد فقط ، ولم تمسّ أو تسْكُن الشّغاف ( غِلاف القلب – ” قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا ” ) ، أي أنَّها علاقاتُ حُبٍّ تمتِّع الجلد ، ولا تمتِّع القلب ، أو تشرح الرُّوح ، وتلك لها تسمياتٌ أخرى ، ليس من بينها الحُب مُطْلقًا .

ولا يكون هناك عشقٌ إلا إذا كان هناك تقاربٌ وتجاذب وتوافُق ثم تآلف ، واتحادٌ وامتزاجٌ وتداخُلٌ وتشاكُلٌ وحلولٌ وانصهارٌ وأُنس ووجْدٌ والتصاق وتزاوجٌ بين رُوحيْن ، بحيث يصلان إلى درجة من التوحُّد لا تقبل المُشاركة ، كلٌّ منقطعٌ إلى خليله ” الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ ، مَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ – الحديث النبوي ” :
( وَاللهِ مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ ولاَ غَرُبَتْ
إلاّ وَحُبُّكَ مَقْـرُونٌ بأنفاسِـي
وَلاَ جَلَسَتُ إلى قوْمٍ أَحَدَّثُهُـمْ
إلاّ وَأنْتَ حَديثي بَيْنَ جُلاّسِـي
وَلاَ ذَكَرتُكَ مَحْزُونًا وَلاَ فَرِحًا
إلاَّ وَأنْتَ بِقَلْبي بَيْنَ وَسوَاسِـي
ولاَ هَمَمْتُ بِشُربِ الماءِ مِنْ عَطشٍ
إلاّ رَأيتُ خَيَالاً مِنْكَ في الكَاسِ . الحَلَّاج 858 – 922ميلادية / 244 – 309- هـجرية ).

وما عدا تلك الحال التي يكون عليها العاشق والمعشوق ، لا يمكن تسمية ما هُما عليها من مظاهر أخرى عِشقًا ؛ لأن العاشقَ الحقَّ لا يرى أمامه في هذا العالم سوى معشُوقه ؛ ويؤْثرُه على ما سواه ممن حوله ؛ و لأنَّ العِشقَ ” له نفوذ في القلب ” ، باعتبار القلب لُبُّ المعشُوق أو الإنسان بشكلٍ عام ، حيث يلزم المحبُوب قلب المُحب ، ” حُبك الشَّيء يُعْمي ويُصمّ – الحديث النبوي ” ، وبالعشقِ ننتصرُ على السلطة والثروة والأعراف والعادات والتقاليد والنظم التي يتبعها البشَر ، فهو الاستثناء الذي يحذف أية قاعدة ، لأنَّ به ينتظم الوجُود بين الرُّوحيْن في جسَدٍ واحدٍ صعُودًا ، ويسلي عن المصائب ، ويلغِي العُزلة ، ويبعِد الوحدة بوجوده ، ويمنع الشِّكَاية ، ويملأ الوقت ، في مجتمعٍ عربيٍّ يمارس الازدواجية والسريَّة والتقية في العشق ، وقديمًا قال عليُّ بن الهيثم : إنَّ ( العشق ثمرة المُشاكلة ، وهو دليلُ تمازُج الرُّوحيْن ، وهو من يجرُّ اللطافة ، ورقة الصنعة ، وصفاء الجوهر وليس يحد لسِعتِه ، والزيادة فيه نقصانٌ من الجسد ) .

والعشق كما يراه محمد بن الهذيل العلاف (135 – 235هجرية ) ” هو جرعة من نقيع الموت ” ، و عند هشام بن الحكم (354 هـجرية /965 ميلادية – 403 هـجرية /1013 ميلادية ) عاشِر الحُكَّام الأمويين للأندلس ، وثالث خلفاؤهم في قرطبة : ” مقتل في صميم الكبد ومُهجة القلب ” ، ورآه أَبو العباس أَحمد بن يحيى : ” … العِشْقَ فيه إِفراط ، وسُمِّي العاشِقُ عاشِقًا ؛ لأَنه يَذْبُلُ من شِدَّة الهوى كما تَذْبُل العَشَقَةُ إِذا قُطِعتْ ، والعَشَقَةُ: شجرةٌ تَخْضَرُّ ثم تَدِقُّ وتَصْفَرُّ، … ”

والمرأة – التي تَعْشَقُ وتُعْشَقُ ، هي عندي ( أحسنُ خَلْق الله ) – ، ليست أم الشُّرور ، ولا هي حبل من حبائل الشيطان ، كما يرد ذلك في كُتبٍ كثيرةٍ لفقهاء ، ولا هي خُلِقتْ – فقط – للغواية والإغراء ، ومن يعشقها بحق يمنحها المكان المُخصَّص للخالق ، لأنها كانت في الأصل إلهة تُعبد حتى في وجود الديانتين اليهودية والمسيحية ، وظلت تُؤلَّه فيما قبل الإسلام ، ولما دخلت دائرة العشق عُبدَتْ حتَّى في وجُود الإسلام ، إذْ تعامل معها العاشق – وخُصوصًا الشاعر – على أنها معادلٌ موضوعيٌّ حقيقيٌّ ومجَسَّدٌ للإله ، وحتى في أيامنا هذه يستخدم المحبُّون تعبيراتٍ من نوع : أعبدك ، نبيَّتي ، رسُولتي ، صاحبة العصمة ، إلهتي ، ربَّتي ، دنياي ، أيتها المقدَّسة ، أنتِ الكِتاب ، …
( وَإِنّي إِذا صَلَّيتُ وَجَّهتُ نَحوَها
بِوَجهي وَإِن كانَ المُصَلّى وَرائِيا
وَما بِيَ إِشراكٌ وَلَكِنَّ حُبَّها
كَعودِ الشَجى أَعيا الطَبيبَ المُداوِيا – مَجنون لَيلى ” قيس بن الملوح بن مزاحم العامري ” ” … – 68 هـجرية /… – 687 ميلادية ) .

ويقول جَميل بُثَينَة – جميل بن عبد الله بن معمر العذري القضاعي، أبو عمرو (- 82 هـ / – 701 ميلادية ، دفن بمصر ) ، وهو ما يمكنُ تسميته ب ” دُعاء العشق ” وهو أمام الكعبة يؤدِّي مناسك الحَجِّ ، والتي اعتبرها مناسك للوصُول إلى المعشُوق ، حيث تصير هي الكعبة التي يطوف حولها ، ويدخلها بكُلِّهِ :
( وبين الصّفا والمَرْوَتَينِ ذكرتُكم
بمختلفٍ والناس سَاعٍ ومُوجِف
وعنـد طوافـي قـد ذكرتـكِ مــرَّة ً
هي الموتُ بل كادت على الموتِ تضعفُ ).

( الله يَعلمُ لَوْ أَرَدْتُ زِيَادَة ً
في حُبِّ عزَّة َ ما وجدتُ مزيدَا
رُهبانُ مديَنَ والذينَ عهدتُهُمْ
يبكونَ مِنْ حذرِ العذابِ قُعودَا
لو يسمعونَ كما سمعتُ كلامَها
خَرُّوا لِعَزَّة َ رُكَّعًا وسُجُودَا – كُثيْرُ عزَّة ” كُثيْرُ بن عبد الرحمن بن الأسود بن مليح ” 40 – 105 هـجرية / 660 – 723 ميلادية ، سافر إلى مصر ، وكانت أكثر إقامته فيها ، حيث دارُ عَزَّة ” عزة بنت حُميل بن حفص من بني حاجب بن غفار ” بعد زواجها ، وفيها صديقه عبد العزيز بن مروان الذي وجد عنده المكانة ويُسر العيش ) .

ويقول يحيى بن معاذ الرازي ( تُوفي سنة258 هـجرية الموافق لسنة 872 ميلادية ) : ” لو أمرني الله أن أقسِّم العذاب بين الخلق ما قسَّمتُ للعاشقين عذابًا “.

وأبو حامد الغزالي (450 – 505 هـجرية / 1058 – 1111ميلادية ). يقول في كتابه ” إحياء علوم الدين ” :
( فلا معنى للعشق إلا محبة مُؤكَّدة مفرطة ، ولذلك قالت العرب : ” إن محمَّدًا قد عَشِق ربه ” لـمَّا رأوه يتخلَّى للعبادة في جبل حِرَاء ) .
فالعشق هو سيرة النفس التي تبدأ في التكشُّف والإلهام والتجرُّد والحدْس عندما تعرفُ العشق ، وتسكرُ وجْدًا ، وتطمئنُّ أن سكنًا صار لها ، ومغناطيسًا صار يجذبها ، وتزهد في أيِّ شئ ما خلا الحُب ، وتصل إلى الحقيقة – المُراد ( المعشُوق ) التي تنشدها وتطلبها ، بحيث يرى العاشق معشوقه الأنثى كأنَّها :
( صَفَاءٌ وَلاَ ماءٌ ولُطْفُ وَلاَ هَـوا
وَنُورٌ وَلاَ نَارُ وَرُوحٌ وَلاَ جِسْـمٌ.
عمر بن الفارض = 576 هـجرية – 1181ميلادية / 632 هـجرية –
1235ميلادية ).

[email protected]