أخبار عاجلة

د . ” عادل ضرغام ” يكتب : التقطير السردي وآليات الدفاع النسوية في مواجهة الكارثة في مدن الغبار لأمل رضوان

د . ” عادل ضرغام ” يكتب :

التقطير السردي وآليات الدفاع النسوية في مواجهة الكارثة
في مدن الغبار لأمل رضوان

تنتهج رواية (في مدن الغبار) للكاتبة المصرية أمل رضوان نسقا كتابيا يعتمد على التجربة الحياتية المعيشة، بالإضافة إلى فاعلية الوثائق والتقارير من خلال لجان تقصي الحقائق، وعمل الساردة الأكثر حضورا وامتلاكا وسيطرة على العالم الروائي في منظمة (حقوقيون بلا حدود). فهي رواية تشكلت من خلال أصوات نسائية مهزومة فقدت اتصالها بالعالم بشكل معتدل فتعددت آليات الاستجابة لدى كل واحدة منهن في مواجهة الكارثة، بالإضافة إلى وسائل مغايرة للدفاع والاستمرار في الحياة.

ترصد الرواية حركة التحولات الكبرى في السياق العربي، مركزة الحديث على مخيم (الزعتري) بالأردن الذي تأسس وتمدد بفعل تهجير السوريين، وتعرض للأفعال الوحشية الكارثية التي تمت، ولنتائج هذه الأفعال ودورها في وجود التشويه الجسدي والنفسي والروحي، من خلال التوقف عند مجموعة من النساء اللواتي تلتقي بهن في مقهى (سالوته)، وكأنها تعيدنا في ذلك السياق إلى قول سفيتلانا أليكسييفيتش عن تأثر النساء بالحرب، وعمق هذا التأثر(الذاكرة النسائية عن الحرب هي قوة الضوء من حيث توتر المشاعر، ومن حيث الألم).
فللحرب والتهجير أثر خاص ومغاير على النساء، حيث يمتلكن طريقة معينة في رصد هذه الآثار الناجمة عنهما، وحتى الأشياء البسيطة المادية الطبيعية تتحول في رصدهن إلى كيانات مملوءة بالوهج والترميز، لأن أثر الحرب والتهجير لا يأتي بشكل مفرد، وإنما يأتي متواشجا مع حروب أخرى داخلية لا يشعر بها كثيرون من المحيطين.

تنطلق الرواية مهتمة بإعداد تقارير البعثة الأممية بمخيم الزعتري للاستماع إلى المصابين والناجين والمشوهين، ولكن ذلك لا يظل اهتمامها الوحيد أو الأساسي وإن عرضت لكثير من التجارب والتشوهات الجسدية والروحية الحارقة. ففي ظل هذا الاهتمام تتوالد اهتمامات أخرى، وتتوالد أسئلة على نحو كبير من الأهمية، وتعيد إلى بؤرة التركيز دلالات مصطلحات مثل التهجير واللجوء والهوية، فيشعر القارئ أن هناك إعادة مقاربة لهذه الموضوعات أو لهذه الدلالات التي تجعلها منفتحة في ارتباطها الدائم بالمكان، فالموضوعات السابقة في منطق الرواية أصبحت مرتبطة بالشعور والأحاسيس الداخلية التي تمسّ الروح، ويصبح هناك صمت موزع إلى الرغبة في الشيء والنفور منه في الوقت نفسه.
التقطير السردي: كتابة الرواية بمنطق القصة القصيرة

يدرك قارئ الرواية أن رواية (في مدن الغبار) جاءت في بناء خاص قائم على النقصان الدائم، فالقارئ يدخل إلى العالم الروائي وهو يعاني من النقصان والحاجة إلى الاكتمال، فهو يدخل من زاوية أو من نقطة تختارها الساردة الأكثر سيطرة على العالم الروائي وتمارس في إطار ذلك الفاعلية والتوجيه، نقطة أو زاوية منبتة الصلة عن الماضي أو على الأقل حسب البناء السردي تضرب في فراغ، وليس هناك تاريخ كاف تمّ تنضيده للشخصيات، بل من كوة جزئية تختارها، وعليه أن يظل في لهاث دائم وبحث مستقص حتى يكشف السرد بفصوله المتوالية عن كوة جديدة أو عن إسدال وصف جديد لشخصية أو تحديد لأطر علاقة، أو بصيرة برحلة موازية سابقة، لها دور في التجلي الآني في مقاربة العالم.

فالساردة- بالرغم من اعتمادها على آلية سردية تتمثل في السرد التصاعدي مع وجود ارتدادات الذاكرة المنفتحة على الماضي من خلال تيار الوعي في الحديث عن الذات أو في حديث الشخصيات النسوية الأخرى التي تخلت لبعضها أحيانا عن سلطة التحكم في حركة السرد وتشكيل العالم- تمارس سلطتها في توزيع الارتباطات والكشف عن العلاقات بين شخصيات الكون الروائي، وتمارس سلطتها على القارئ في تقطير المعلومات، وزمن ومكان ذلك الكشف المؤثر بالضرورة في تنميط حدود العالم الروائي وتفسيره. هي سلطة مقصودة، ولكنها تأتي مشدودة غالبا من خلال التشابه الشكلي بين الآني والماضي، أو من خلال وحدة الأثر النفسي الذي يجعل الارتداد أو بداية الكشف مبررة فنيا.

تمارس الكاتبة نوعا من التقطيع المتعمد للحكاية، ولكن القارئ- في ظل هذا النقصان الممتد- يستمر مشدودا لاستكمال الحكاية، فهي لا تقدم رواية ذات بناء تصاعدي كلاسيكي، وإنما تقدمها بطريقتها الخاصة، فتتكامل الحكاية من خلال الإضافات السردية المتوالية الكاشفة بالتقطير على دفعات متتابعة. يتجلى ذلك كثيرا في نص الرواية، فهي تجعل القارئ يواجه العالم انطلاقا من الجرح المنفتح دون تاريخ سابق جاهز يكشف عن أسباب ذلك الجرح.

ففي الفصل الأول (طحين ومدفأة وغشاء للبكارة) هناك إشارة للجدة (أم مازن) ولحفيدتها (غزل)، وطلب الجدة من الساردة المساعدة في إعادتها بكرا. ويغلق هذا الفصل، وينتقل إلى جزئية أخرى، ولا يعود إلى الكشف عن الجزئيات الغائبة المسببة لذلك إلا بعد فصول عديدة، ولا يكشف عن ذلك دفعة واحدة، وإنما بشكل متوال حتى تكتمل عناصر الحكاية، وتضفير الانتهاك الفردي مع الانتهاك الجماعي. فهذا التقطير في جزئيات الحكاية وثيق الصلة بالارتداد وبتيار الوعي، ففي الانعطافات السردية للوراء تتشكل حدودها على نحو جزئي وليست على نحو كلي يرتبط باسترجاع الحكاية كلها انطلاقا من طبيعة المثير الآني، وطبيعة المشابهة الشكلية التي تساعد على استحضاره ووجوده في حيز السرد.

ففي مهمتها الآنية الخاصة بمخيم الزعتري بالأردن، وفي معرض حديثها عن صعوبة الرحلة الأممية إليه تعطي إشارة إلى رحلة سابقة، وهي رحلة (حلب). يستند السرد على التشابه في وجود مقهى باسم (قهوة جحا) لتشير من خلال دفعات سردية متوالية وموزعة على فصول الرواية، بداية من الإشارة الأولى لحظة توزع الساردة بين قبول ورفض المهمة الآنية، ومرورا بالإشارة الثانية في هذا الموضع قائلة (كأن الحادث المشئوم في القهوة التي تحمل نفس الاسم في مدينة حلب لم تمر عليه سنوات)، وختاما بالكشف عن النتائج الكارثية التي أوجدها الانفجار الذي تسبب في موت الحسن سائق الساردة، ومحو فندق إقامتها وقهوة جحا بحلب، وعدد كبير من الضحايا.

ويتكرر ذلك المنحى كثيرا في التعامل مع شخصيات الرواية، وتاريخ هذه الشخصيات، ذلك التاريخ المؤثر بطبيعة الحال في الاختيارات والانحيازات المستمرة في النظر إلى الأمور لتحقيق العدل المفقود. تستند الرواية إلى ذكر اسم الشخصية الغائبة والمؤثرة في الوقت ذاته في بروزها للمرة الأولى ذكرا خاليا من أي إشارة، لتستمرّ عملية التشويش التي تؤدي في النهاية إلى الإغواء بالقراءة لاستكمال التعرف وتشكيل الجوانب الناقصة. ففي حديث الساردة في الفصل الثاني عن الدكتور فولك(الضلع الثالث في البعثة الأممية لمخيم الزعتري مع الساردة وألما الأمريكية ذات الأصول الفلسطينية) وإشارتها إلى ضعف سمعه بسبب سقوط قذيفة قريبة منه تقول( أخذت معها بعض المباني وقوة سمعه ورولا). يجد القارئ أن هناك إشارة إلى رولا إشارة فقط مملوءة بالتغييب الكاشف عن الاختلاف المؤثر، ومحفزة للانتباه، ومولدة للتشويق، ولكن البناء السردي لا يكشف عن رولا الفلسطينية التي تعرّف عليها فولك في مهمة شبيهة في الأراضي الفلسطينية إلا من خلال مناجاة ذاتية لفولك بعد فصول كثيرة من نص الرواية.
يتجلى هذا النمط بشكل كاشف في الهطول متعدد الأوجه لشخصية (علي)، فقد جاء محاطا بسمات التقديس ومشكًلا من خلال التغييب الذي يضفي على الشخصية أبعادا تجعلها تغادر طبيعتها المادية، فكأنه الغائب المؤثر في تنميط علاقة (الساردة) بالزوج من خلال فاعلية الغياب. فالقارئ يبصر ملامح هذه الشخصية من خلال خطاب موّزع إلى إشارات متفرقة في نص الرواية، فأول ذكر له في نص الرواية في الفصل السادس في الجزء الخاص بالارتداد للكشف عن أثر الانفجار في رحلة حلب السابقة، فقد أخذ الانفجار – كما يقول نص الرواية- قهوة جحا والفندق المجاور، ومزيل العرق، ومرآتي الصغيرة ذات الإطار الفضي الذي أهداني إياها عليّ).

فتغييب الشخصية بالرغم من دورها الفاعل في نص الرواية يتساوق مع الآلية الفاعلة القائمة على التقطير السردي وعلى الأبنية الخيالية التي يشكلها القارئ لحظة القراءة اعتمادا على بنيات سابقة. فالوجود الشبحي لشخصية (عليّ) مؤثر في تشكيل رد فعل الساردة، وفي نفورها من زوجها، ومن كل سلطة قاهرة. فالسرد النسوي بشكل عام مغاير، ووعيه بالعالم وجزئياته مختلف، فهي تؤرخ وتقارب العالم من خلال الوعي بالجزئيات البسيطة التي تؤرخ للروح في فرحها وهزيمتها وانكسارها.

وتشكيل الشخصية على هذا النحو من خلال سرد يتكامل ويتكوّن من دفعات سردية مختلفة في الزمان والمكان يحتاج جهدا من القارئ ليلمّ بأطراف الحكاية، ومؤثرات السلوك والاختيار من بين توجهات عديدة يمكن أن تكون حاضرة، ولكن الأمور تزداد صعوبة حين يقف السرد عند حدود أسماء عديدة لم يؤسس لها تاريخ سابق في نص الرواية، فيجب على القارئ أن يشكل هذه الشخصيات بتاريخها وحكاياتها الناقصة غير المكتملة فحين يشير نص الرواية في الفصول الأولى إلى(عمر ويوسف والحسن) دفعة واحدة تتداخل الخيوط الدلالية، ولا يتمكن القارئ من الكشف عنها إلا من خلال انتباه شديد للبنية السردية وارتداداتها الخاصة، وللإضافات التي يتمّ وضعها بشكل لافت مع كل حضور أو ذكر لهذه الشخصية.

آليات الدفاع تساؤلات الهوية واللجوء والتهجير
تهتم الرواية بعالم المخيم، ولكن تركيزها الأساسي على عالم النساء اللواتي تبدأ بمراقبتهن في مقهى سالوته، ومن خلال هذا الاهتمام والتركيز تعيد طرح ومساءلة العلاقة بين السلطة والشعب، بين الحاكم والمحكوم، السلطة ببنيتها الفوقية المتعالية بفعلها الكاشف عن الانتهاك المستمر. هذه المساءلة تحتم إعادة المقاربة وإعادة النظر في الموضوعات التي تطرحها مثل التهجير واللجوء والهوية.
فمن خلال الارتدادات يحدث تحوير وتغيير لمساحات الاهتمام من العناية بالآخر للعناية بالذات، لتتجلى لنا في النهاية وجهة نظر تتعاظم على المؤسس في تلك النواحي. كل فرد في العالم الروائي له مشكلاته وإشكالياته على المستوى الفردي والجماعي، ولا تحمل الرواية إدانة لنظام دون آخر انطلاقا من لحظة آنية، وإنما تحمل إدانة لكل الأنظمة التي تغرب الإنسان وتسجنه بعيدا عن ذاته، وتجعله يعيش –بسبب عدم قدرته على تحقيق تواصل مع البنى الإدارية والأنظمة الفاعلة كحالة عالية المهندسة الزراعية شقيقة الساردة- لاجئا منكفئا على ذاته حتى لو كان في وطنه.

الرواية تشتغل من خلال صوت الساردة الأساسي- ومن خلال أصوات الأخريات من الشخصيات النسوية بالرغم من اختلافهن اجتماعيا وثقافيا- على إعادة تفكيك ومعاينة المستقر من الدلالات مثل اللجوء والتهجير والهوية، خاصة في ظل ارتباطها(وهي واحدة من اللواتي يحققن في عنف السلطة وانتهاكها) بزوج ينتمي إلى سياق السلطة، فهي تناهض كل سلطة، وهو ممثل لها يناصرها، فيصبح الانتهاك بالنسبة لها انتهاكا مزدوجا أو انتهاكا داخليا تشكل من الحرمان من الزواج بعليّ، وانتهاكا خارجيا يجعل الجميع بالرغم من اختلاف الأفراد والأماكن والبلدان ينضوون في إطاره، فهناك انتهاك داخلي يجاوبه انتهاك أكبر مستمر يشابهه في القمع ولا يساويه في الدرجة.

فسكان المخيم بتجاربهم المريعة، وتشوهاتهم الجسدية والنفسية -بالإضافة إلى نساء مقهى (سالوته)- متحدون في معاينة ومعاناة الانتهاكين، ويمرون بعوالم ثلاثة: العالم الآني الكاشف عن شتات، والعالم القادم الذي تفسخت ملامحه، ولم يعد هناك ما يكشف عن خطوطه ومعالمه، والعالم الماضي الذي لا يخلو من انتهاكات مستمرة تكشف وتمهد للخراب الآني الذي لا يفصح عن أي بادرة تغيير في المستقبل القريب.

تستند الساردة في تمرير وجهة نظرها إلى أصوات قد تكون أقل ثقافة لمعاينة الفكرة، وتضعها في حيز الاهتمام، وتقلبها بين أصوات عديدة حاضرة، فالانتهاك لم يولد في اللحظة الآنية، فهو مستمر وجزء من هوية الحاكم والمحكوم، وجزء من طبيعة الوجود والحياة. يتكشف ذلك التوجه من خلال صوت أم مازن في حوارها مع الساردة( يا حبيبتي كلنا لاجئين بها لخرابة، آدم بذات نفسه وحوّا كانوا أول لاجئين).

فجعلُ صوت أم مازن مهموما بتجذير الفكرة إلى حدودها القصوى لتجعل الوجود نفسه وجودا غير حقيقي أو مشدودا لفكرة القلق الوجودي المستمر، ليس إلا بداية لتأصيل الفكرة وإعادة تدويرها من خلال أصوات أكثر ثقافة وتأثيرا، فالتهجير في ظل هذا المنطق لا يرتبط بمكان، وإنما يرتبط بالذات والروح، فعلى لسان العنزة- في تمثيل الساردة- الأستاذة الجامعية المصرية تقول الرواية( كلنا لاجئون تلفظنا أوطاننا أو نلفظها، ونسعى إلى غيرها علّنا نجد الملاذ والمأوى والملجأ). ويأتي المنحى ذاته مكتملا واضحا على لسان الساردة الأساسية في النص التي توزع سلطة التحكم في النص على أخريات، وتكشف وفق سلطتها بالتدريج عن الارتباطات والعلاقات بين الشخصيات في قولها (الترحال والاغتراب واحد وإن تعددت الأسباب سواء طوعا أو كرها، ربما توافينا جميعا نفس الكوابيس الليلية، ولكن بشخصيات وأسماء مختلفة.. هي مسرحية عبثية تعاد كل يوم على مسرح جديد).

فهذه المقولات بالرغم من اختلاف الصوت النسوي وثقافته تعيدنا بشكل واضح إلى خطاب الملحقات في الإهداء حيث تقول الكاتبة (إلى كل من غادر وعاد.. إلى كل من غادر ولم يعد). ففي هذا الإهداء، هناك اعتذار كشف عنه النص الروائي في ابتعاد الساردة عن والدتها وعدم العودة بالرغم من حاجة الأم إليها، وهناك تأسيس للمنحى الفكري الذي تشتغل عليه الرواية، فلكل فرد غربته وتهجيره أو هجرته.
ففي هذا الإهداء تفكيك لمقولة الوطن، وبالتبعية تفكيك لمقولة الهوية الثابتة، وربما عمدت الكاتبة في توسيع مجال السلطة السردية في إعطاء النساء الأخريات الحرية الموهومة في التعبير عن أنفسهن بشكل مباشر، فقد منحت هذه السلطة (لألما)، و(للناقة)، و(للمهرة)، و(للعنزة) وذلك من خلال قدرة الساردة الأساسية المتعالية على تمثيل الآخر، ولكنها لم تعط هذه السلطة لفولك أو للأتان (المحجبة) كأنها تمثل الهوية المكتفية بذاتها المقرّة بالأنساق السائدة دون تبرم أو تعاظم.
فالتهجير أو اللجوء الذي قام به أهل مخيم الزعتري من السوريين ليس التهجير الوحيد، بل هناك تهجير أو لجوء من نوع خاص يقوم به الجميع، بداية من الساردة الأساسية وذلك من خلال تيار الوعي الذي يهشم خطية الزمن وثبات المكان، ويجعل زحزحتهما حاضرة بشكل قوي، ومرورا بالنساء الأخريات في مقهى سالوته، وانتهاء بمجمل الشخصيات الثانوية التي تتجلى بشكل مغاير لتوجه العمل الروائي مثل والد (ألما) حيث يمثل الجيل الأول من المهجرين الذي يظل على تحديدات الهوية الثابتة، ووالدة المحجبة الشركسية التي تتمنى أن تكون نهايتها أو موتها بأرض أجدادها.

المقارنة بين نظرة الآباء والأبناء في هذا العمل الروائي حول موضوع التهجير واللجوء، يجعل سؤال الهوية يلحّ كثيرا وبأشكال مختلفة، ووجهات نظر متباينة، ولكنها جميعا تعيد المساءلة والمكاشفة حول صلابتها وانغلاقها أو حول ليونتها وانفتاحها. فبداية من صوت الطفلة (ألما) المولودة لأب فلسطيني وأم سورية(قبل الحصول على الجنسية الأمريكية) نراها ترفض أن تعترف في مدرستها بكونها فلسطينية، بالرغم من كون هذا الرفض يسهم في تأسيس خلاف نوعي ممتد مع والدها، وتصر على كونها سورية. ولكننا نجدها في لحظة أخرى وبشكل كاشف عن التباس الهوية لدى جيل الأبناء من المهجرين ترد على ضابط الجوازات حين أبصر جواز سفرها قائلا (أمريكية الجنسية) متباهية: فلسطينية.

ويمكن أن نجد لدى الساردة الأساسية موقفا شبيها بهذا الالتباس، فسلوكها وانكفاؤها حول ذاتها بالخارج جعلا سؤال الوطن أو سؤال الهوية من الأسئلة المطروحة دائما، ومن ثم تقاربه في أجزاء كثيرة، وتضعه في بؤرة التركيز والاهتمام، ولكن ليس بصوتها المباشر، ولكن من خلال رؤية واحدة من الأخريات اللواتي تملكن في بعض الفصول السيطرة على حركة السرد، فتقول واحدة عنها( تحاول دائما تفادي أي حوار بشأن الجنسية والهوية، وتمازحنا بأنها من نسل آدم وحوّاء، أول لاجئين على وجه المعمورة).

هذا الالتباس في الهوية لدى جيل الأبناء وتوزعها من خلال ردود الأفعال إلى انفتاحها وديناميتها في بعض الأحيان، وانغلاقها وصلابتها في أحيان أخرى يكشف من جهة أولى عن حالة الانتهاك التي تلازم المجتمع العربي دائما، فالإشارة إلى زواج الساردة الأساسية من ممثل السلطة بدلا من حبيبها عليّ، وإلى جنس المحارم الأبوي السلطوي بين الوالد والحفيدة (غزل) يكشف عن أن الانتهاك الآني من خلال قصف الحاكم لقطاع من شعبه انتهاك ممتد، وتفتت غشاء البكارة لا يتكشف سبب حدوثه هل بفعل السلطة الأبوية أم بفعل الشبيحة، نظرا لأن صوره تتعدد وتتباين، ولكن درجة ظهوره في السياق الآني أشعرت الجميع بالضآلة، وتشعر الجميع أن هناك كسرا لنمطية الأشياء. فالأب بمعناه السياسي الواسع- الحامي في معظم الأعراف- يصبح منتهكا، ومن هنا تحدث زلزلة في طبيعة ونمطية الأشياء، ومن ثم يتولد هذا الالتباس في الشعور بالانتماء والعزوف عنه.

ولا يكشف ذلك عن كون ردود أفعال نسوة المقهى في الرواية واحدة بالإضافة إلى الساردة التي بدأت بالتلصص عليهن، فهناك تفاوت في ردود الأفعال وإن كانت النتيجة كاشفة عن التشظي والاندحار، ولكن كل واحدة منهن تواجه هذه الإزاحات انطلاقا من حيزها الذي تصنعه حول نفسها في لحظات المشاركة مع الجميع أو من خلال الشرنقة التي تواجه فيها الذات نفسها في لحظات الحساب أو العودة إلى الذات. مع الساردة الأساسية انطلاقا من طبيعتها الذاتية التي تصنع استقواءها بالتدريج من خلال الصمت نجد أن هناك تباينا بين استجابتها للأعراف في البداية من خلال تزوجها بممثل السلطة بدلا من حبيبها، ورفضها الاستمرار في النهاية، وتستجيب للهجرة، وتصبح موزعة بين أم في حاجة إليها وحاجتها إلى وجود حر تركن فيه إلى ذاتها.

ويمكن أن نلمح التباين واضحا بين ردود الأفعال الخاصة بنساء المقهى والأخريات في استجابتهن لحالة التهجير النوعي أو القسري، فكل واحدة منهن تصنع حيزا أو تكشف عن رد فعل مساو لطبيعة التكوين ولحجم الويلات التي تعرضت لها. فالمهرة تأخذ اتجاها مغايرا يكشف عن الخوف والهشاشة الداخلية من خلال الصوت العالي واللغة الجنسية المكشوفة التي تكشف عن فقدان الصلة بالعالم أو فقدان الاهتمام به وبرأي أو ردود أفعال الآخرين تجاه لغتها المتعمدة الخارجة. يتجلى ذلك في حديثها المكشوف عن رأي نعوم تشومسكي ومقاله حول تقسيم الشرق الأوسط من جديد، بالإضافة إلى الحضور الطاغي لاستجابتها للغريزة الجنسية، لأن في حضورها في ذلك الوقت إعلانا عن النصر، واستمرارا للشعور بالقوة والوجود. كما كشفت الرواية عن وجود ذلك المنحى في حديث ألما عن مخيم الزعتري وسكانه في قولها مخاطبة الساردة( إيش قولك معدّل المواليد بالمخيم أكثر من اللي كان بكام محافظة في سوريا قبل الحرب).

في رواية (في مدن الغبار) التي تشدنا من خلال العنوان إلى كتاب أدونيس عن الثورات العربية هناك اشتغال خاص على موضوعات لها بريق مثل الهوية والتهجير والإزاحة واللجوء، وذلك لإعادة مقاربة الدلالات الثابتة، وإعادة مساءلتها من خلال الاستناد إلى نسقين لا ينفصلان إلا من خلال زاوية الرصد، وتوزعه في الاهتمام بين إطار: عام يعاين التهجير واللجوء والإزاحة في ارتباطها بمكان وزمان محددين، وإطار ذاتي يطيل النظر والتأمل إلى الإنسان وهجراته الداخلية التي تصبح بالتدريج نوعا من الاستقواء، وتتحول في النهاية إلى تهجير طوعي أو قسري لا يستطيع له دفعا.

****
نشر في القدس العربي الأحد 11يوليو 2021