أخبار عاجلة

الظل / الآخر عند محمد الشحات بقلم د خالد محمد عبد الغني

صدر حديثا للشاعر المصري محمد الشحات ديوان “ملامح ظلى 2021” عن الهيئة المصرية العامة للكتاب وهو الديوان الثانى والعشرين في مسيرته الشعرية وتوحي لنا ملامح ظلي أنه لابد وأن يكون ذلك في وجود الضوء سواء الطبيعي كالشمس والقمر أو صناعي كالكهرباء وهذا هو الشرط الأساسي لوجود الظل على المستوى المادي ، وعليه فيمكننا القول بأن ملامح الذات لا تتشكل إلا في وجود الآخر الذي يعطي الذات بنيانها الداخلي وملامحها الخارجية أيضا، وهنا سيتضح الرمز الذي عمد إليه الشاعر وهو ما يشيع في الديوان بل وفي كل الدواوين الأخيرة تقريبا حيث الآخر المجتمعي بكل ما فيه من مآسي وأفراح ، وها هي ثيمة الحزن والأم والجرح تسيطر على أغلب ملامح التجربة الشعرية للشاعر محمد الشحات فهناك ديوانه السادس “الذي حمل عنوان “كثيرة هزائمى”. وديوان “البكاء بين يدى الحفيدة” . وهو القائل في ديوان “مكاشفة” : كلَّمَا حاولتُ أنْ أنزعَ خوفِي/ آهِ ياكفِّي الذِي يسْكُنُنِي / كيفَ لا تنزعُ مِنِّي/ خوفَ أطفالٍ/ وخوفِي. وفي ديوانه ” رجفة المقامات ” سوف نجده ممتلئ بمشاعر الكشف عن ملامح تخص الشاعر في قصيدة
البحث عن ملامحي ” والآخر المجتمعي في قصيدة موجود في قصيدة “الرحيل عن وطن يأكلنا “وسرقة حلمي” ، و”الحياة في زمن الزيف” و”مساومة الظل” ، وكأننا أمام ما اصطلح على تسميته آلية إجبار التكرار في التحليل النفسي وكأن الشاعر كان مسكونا بالقضايا التي تناولها في ديوانه الحالي “ملامح ظلي ” من قبل في ديوانه رجفة المقامات ـ 2020، أو كأنهما – الديوانان – كتبا في زمن نفسي واحد عاشه الشاعر ولكنهما نشرا متفرقين .
والظل مصطلح صكه يونج يشير من خلاله لهوية شخصية, والجانب اللاشعوري منها وباختصار ، الظل هو الجانب المجهول.، فالظل “يكافئ تقريبًا كل اللاوعي عند فرويد;” و كارل يونغ نفسه أكد أن “نتيجة الطريقة الفرويدية للتوضيح هي توضيح دقيق لجانب الظل للإنسان لم يسبق له مثيل في أي عصر سابق”.على عكس فرويد تعريف الظل ومع ذلك ، يمكن أن يشمل الظل كل شيء خارج ضوء الوعي وقد يكون إيجابيًا أو سلبيًا. لأن المرء يميل إلى رفض أو البقاء جاهلًا بالجوانب الأقل استحسانًا لشخصيته ، فإن الظل سلبي إلى حد كبير.
وقد يظهر الظل في أحلام و رؤى بأشكال مختلفة وعادة “يظهر كشخص من نفس جنس الشخص الحالم”. يعتمد مظهر الظل ودوره بشكل كبير على التجربة المعيشية للفرد لأن الكثير من الظل يتطور في عقل الفرد بدلاً من مجرد توريثه في اللاوعي الجماعي. ومع ذلك ، فإن “الظل يحتوي ، إلى جانب الظل الشخصي ، على ظل المجتمع … تغذيه القيم الجماعية المهملة والمقموعة”.
ولكننا هنا لا نرى الظل في هذا الديوان هو الجانب المخفي المظلم من الشخصية كما يراه يونج ، ولا نراه أيضا اللاشعور كما رأي فرويد من قبل ، وإنما نراه الصديق الوفى أو بالمعنى الفلسفي هو الآخر الذي يمنح الأنا وجوده لمواجهة حالة الاغتراب عن المجتمع التي يعيشها شاعر يمتلك قدرا كبيرا من الشعور بتجاهل المجتمع لتجربته الشعرية كما سبق وطرحنا في مطلع الدراسة الحالية ومن ثم فإن الظل هو الآخر أو الصديق أو القرين الذي سوف يتحاور معه الشاعر فيما يعانيه وفيما يحلم به وفيما يتمنى حدوثه.
فنجده يقول في قصيدة بعنوان “محاوراتي مع ظلي ”
كنت أحاول أن أترك ظلي
يجلس خلفي
كيما يرقب ما يجرى
حتى حين أعود إليهِ
فيخبرني
طبطبتُ على كتفيهِ
وأسرعتُ
لعلِّى ألحق بقطار الرغبةِ
منكسراً عدتُ
وما إن نظر إليَّ
حتى انسحب
يجرِّر خيبته.
هنا يبدو لنا أن الصديق أو الآخر في هذا المقطع الشعري يجر الخيبة والحسرة والأسى والسؤال ما الذي يدفع شاعر للتحاور مع ظله؟ والإجابة في ظني إنها بالطبع ليست حالة مرضية ذهانية – عقلية – ولا حالة فقدان الذات وعدم ادرك الواقع ولكنها حالة من شعور بالاغتراب الروحي والفكري والوجداني بعد خبرة طويلة من التجاهل فالشاعر هنا وقد تجاوز السابعة والستين من عمره وها هو منجزه الشعري البالغ اثنين وعشرين ديوانا منشورة منفردة وفي سلسلة الأعمال الكاملة ليقول لنا “هاؤم اقرؤوا كتابي ” إذ بدأت تلك التجربة من عام 1974 – حتى الآن . فيقيم علينا الحجة بعدم المعرفة أو نقص الانتشار أو صعوبة التجميع لكل ما هو مكتوب.
وفي المقطع الثاني من القصيدة يكشف لنا الشاعر عن حالة من الضياع أصابت الظل ومن المسلم به أنه حين يضيع الظل فلابد أن يكون ذلك انعكاس لضياع الأنا على اعتبار أن الظل أو الآخر هو مانح الوجود للأنا فلا أنا بغير ظل والعكس صحيح لا ظل في غياب الأنا فيقول :
حين جلست على شاطىء نهري
لمح الظلُّ ملامحَه فوق الماءِ
فقاومنى كيما يهبطُ
وارتسمتْ فى عينيهِ
طيورُ الفرحِ
فغافلنى
كيما يسبحُ فوقَ الماءِ
فأشفقتُ عليهِ
وحين اهتز الموجُ
وضاعَ الظلُّ
فعدْتُ
ثم تستمر حالة الضياع والفقد بل وحالة الاغتراب حين يضيع الظل أيضا حتى في وجود الحبيب ولكن الضياع هنا لأسباب خارجية هي غياب الضوء الطبيعي في إشارة خفية مستترة لدور الخارج – المجتمع – في تغييب الظل المانعح الوجود للأنا . فيقول في المقطع التالي :
أجلسُ قربَ النافذةِ
أرقبُ وقعَ خُطاها
ما إن شعرَ الظلُّ بطيفٍ يعرفهُ
حتى أسرعَ كى يسبقني
حاول أن يتزينَ
ليرافقَ ظلَّ حبيبٍ أعشقهُ
ما إن صادفَه
حتى امتزجا
بدأ يناوشُهُ
ويُشاكسهُ
ويُسَارِع فى مِشيتهِ
فما إنْ غابَ شعاعُ الشمسِ
حتى ضاعت كلُّ ملامِحهِ
وفي المقطع الحالي يتاكد الخوف والاعتراب وضياع الظل في النهاية فيقول أوقفنى ظلي
كى يتحسسَ ضوءَ الشمسِ
وحجمَ السُّحُبِ
ووقتَ السَّيرِ
وهل سيكون أمامي أم خلفي
امتثلَ الظلُّ لوقعِ خُطاىْ
وتماسكَ
حاولَ أنْ يسَبقني
حتى خِفْتُ
وحين رأيتُ جيوشَ السُّحِبِ
وكنت أحاولُ أنْ أسْبِقَه
فلم يلحقني
و تعثر حين وقفتُ
فلم ألمحْهُ
حين اختفتِ الشمسُ
وكما بدأنا نؤكد هنا على ملامح الاغتراب الذاتيّ وقد اختلفت آراء الفلاسفة في تعريف الاغتراب، ومع هذا اتفقت الآراء بأنّ الاغتراب هو شعورُ الانفصام والصراع بين قوى اللاوعي الدفينة في الذات وبين الذات الواعية. وبأنّ الاغتراب عبارةٌ عن حالةٍ نفسيّة من حالات الفرد السويّ، حيث إنّ الإنسان الاغترابيّ هو الذي يشعر بانّه غريبٌ في مجتمعه، أو هو من تمّ تحويله إلى إنسانٍ ذي علاقة غير وديّة مع مجتمعه بمفهوم ثقافة ذلك المجتمع. وبأنّ الصفة التي تميّز الإنسان الاغترابي هو شعوره بأنّه غير قادرٍ على تحقيق رسالته الصحيحة في مجتمعه. وبأنّ الاغتراب هو عبارةٌ عن شعورٍ فرديّ، أو هو حالةُ انفصالٍ عن الذات وبالتالي انفصالٌ عن الآخرين والعالم بأسره.
وخلاصته : أنّ الاغتراب هو حالةٌ طبيعيّةٌ في عالمٍ فاقدٍ للهدف وللغاية. ويتميز بالعجز، أي الشعور الذي يولد في أعماق الإنسان بأنّ مصيره ليس في يده. وباللامعنى أي شعور الإنسان بأنّه ليس للحياة أيّ معنى أو هدف. وبالعزلة الثقافيّة أي انفصال الفرد عن قيم مجتمعه. وباللامعيار أي عدم التزام الفرد بالمعايير السائدة في مجتمعه. الغربة الذاتيّة، وتعني انفصال الذات عن عمق الذات وطموحاتها وأهدافها.
وهذه الملامح الخاصة بالاغتراب ليست موجودة في الديوان الحالي ولكنها موجودة في العديد من الدواوين الأخيرة ولكننا لسنا في معرض مسح تلك الملامح وقد تكون موضوع دراسة قادمة بأمر الله تعالى . وحين يقدم الشاعر قصيدة “مصالحة” بين نفسه التي انقسمت نصفين وجسده الذي يعمل كنصفين مستقلين فهي إشارة لملامح اغتراب انقسم فيها الشاعر مرة في النفس ( الأنا – الظل ) ومرة في الجسم (النصف الأيمن والنصف الأيسر) فها هي قصيدة مصالحة يقول فيها :
أشعرُ أنى منقسمٌ
منشطرٌ نصفين
لي كفَّانِ
وذراعانِ، وعينانِ
ولي قدمانِ وأذنان
إنه يقدم صورة شعرية جميلة طبعا ولكن هذا من عمل النقاد حين يتتالوا مثل هذه الأمور ولكننا مهتمون بالدلالات النفسية لتلك الازدواجية وهذا الانقسام وذلك الصراع الذي يظهر في قوله :
ما يتعلق بذراعيّ
فلقد حدث نزاعٌ بينهما
كادت تحدثُ معركةٌ
فاستقوتْ كالمعتادِ ذراعي اليمنى
بمعاركَ من رحلتها
واغترت بالقوة والقدرة
وهي تحاولُ ليَّ ذراعى اليسري
فصعقتُ وكِدتُ أقيم عليها الحدَّ
حتى استسلمتِ اليمنى واستلت توبتها
وتأبطتِ اليسري
ثم تناول في بقية القصيدة بقية أعضاء الجسم وضرورة الانسجام بينهما حتى لا تقع المآسي جراء الصراع بينهما حتى قال لنا :
كنت أخافُ بأن أنشطرَ إلى نصفين
فيحاول نصفي أن يتجه يمينًا
والنصفُ الآخرُ يتجه يسارا
فأحاول أن أعقدَ بينهما الصفقاتِ
وأصلحَ من شأنهما
حتى لا أنقسمُ إلى شطرين
وأما جهة اليمين فلا شك تمثل المستقبل وجهة الشمال تمثل الماضي، والصراع بين ماضي معروف وحاصل ومستقبل غامض، وواقع يحاول فيه الشاعر عقد الصفقات وإجراء المصالحة بينهما ، أو الماضي يشير إلى ما هو ذاتي نفسي والشمال يشير إلى ما هو اجتماعي في علاقته بالآخر ، وهكذا تشير دلالة الظل على الآخر وعلى حالة الاغتراب التي يعيشها شاعر بحجم موهبة وعطاء محمد الشحات في ظل غياب واضح لاهتمام الحركة الأدبية بتلك التجربة الثرية .