أخبار عاجلة

النزعة الوطنية في كتابات جمال حمدان.. “راهب الجغرافيا المصري”

يحدث أن تعاكسك ظروف الحياة، يتخطاك الحظ ويمر، موقف تلو الآخر، تتباعد المسافة بينك وبين كل من حولك، وتأتي لحظة، تزهد فيها كل ما يخص البشر، فتبتعد وتنعزل في غرفة صغيرة.
اختار العالم الجغرافي جمال حمدان، أن يعيش وحيدًا كالراهب، ابتعد وفضل الانعزال، بعد صدمتين غيرتا حياته كلها، ظلم وقع عليه جعله يقدم استقالته من جامعة القاهرة، حيث تقدم للحصول على درجة “أستاذ” ولكن تم رفض طلبه، وذهبت الترقية لزميل آخر لا يستحقها، وقصة حب كبيرة لم تكتمل، فبعد أن قابل حبيبته الإنجليزية أثناء دراسته لدرجة الدكتواره في بريطانيا، رفضت أن ترافقه إلى مصر، فعاد وحيدًا.
ابتعد أكثر من 30 عامًا، وعلى الرغم من انتقاد البعض لاختياره الوحدة ورفض عروض كثيرة جاءته، تليق بمكانته العلمية، كرفضه رئاسة جامعة الكويت أو توليه وزارة للتعليم العالي بليبيا، إلا أن ذلك كان خيرًا له، إذ أصبح بفضل انعزاله رمزًا من رموز الجغرافيين، وجد ملاذه في الكتابة، ووهبها نبوغه فأكرمته بمجدها.
كتابات “حمدان” تميزت برؤيته الفلسفية للمكان والزمان، والتي جعلت من كتبه مراجع يلجأ إليها الباحثون في مجال الجغرافيا، وبالإضافة إلى ذلك، اتسمت كتاباته بنزعة وطنية واضحة، فلم يضيع أي فرصة لتأكيد مكانة مصر المنفردة إلا ويستغلها.
وفي شرحه لتأثيرات حجم الدولة، في موسوعته “شخصية مصر.. دراسة في عبقرية المكان”، يقول: “أول ما تنفرد به مصر الضخامة، ضخامة الحجم التي تجعل منها حجرًا شامخًا، هي حقيقة أدركها وأحس بها دائمًا جيرانها طوال التاريخ قديمًا وحديثًا، إذا التفتنا إلى جيران العرب المباشرين، فإن مصر هي الدولة الوحيدة التي تناظر الوحدات الكبرى فيها مثل إسبانيا، نستطيع إذن أن نعد مصر على أساس الحجم البشري الدولة الأولى بين العرب”.
ربما ينقد أحد هذا الوصف بأن المكانة التي احتلتها مصر هي مجرد حظ من فعل الطبيعة الجغرافية، ولكن يرد “حمدان” قائلاً إنها لا تستمد ثقلها وقوتها من الحجم فقط، بل من تجانسها الشديد ووحدتها اللغوية والوطنية واستقرارها السياسي.
ويؤكد تفرد مصر في رأي “حمدان” احتفاظها بخصائص فريدة، فيقول في كتابه “نحن وأبعادنا الأربعة”: “مصر تظل في النهاية هي مصر، فهي أرض وشعب وحضارة وسكان ورغم كل الخيوط والخطوط المشتركة التي تربطها بأبعادها القارية، لا هي أفريقية تمامًا وإن وقعت فيها، ولا آسيوية تماما وإن لاصقتها، ولا أوروبية تمامًا وإن واجهتها، إنها تنتمي إلى كل هذه الآفاق دون أن تكون هناك تمامًا، بل تظل في النهاية مصرية تأصيلاً وتطويرًا وانتماء”.
رؤية دقيقة لـ”حمدان”، ونظرة ثاقبة كاشفة لتفاصيل المكان، وعقل تحليلي فذ، يسافر للماضي ويتجول في طرقاته، يشرح الحاضر تشريحًا عميقًا وعليه يضع تصوراته للمستقبل، والتي تحقق الكثير منها، يتجول في الشوارع ويصفها بدقة وكأنه هو من خططها، فيتنقل بين حلوان، وشبرا، يذهب للزمالك ويعود إلى السيدة زينب وهكذا في كل مناطق القاهرة، ويتناول كل ما يخصها من هيكل و”طبوغرافية” وبعد تاريخي، ووضعها بالنسبة للعالم وحتى المشكلات التي تواجهها، ويضع في الأخير حلولاً لاتباعها كي تظل مكانتها العالية كما هي في كل وقت، وذلك في كتاب بنفس اسم المدينة صاحبة الكتاب “القاهرة”.
وفي كتاب يتناول شرح كل ما يخص العالم الإسلامي المعاصر، يتطرق “حمدان” لدور مصر في انطلاق الإسلام نحو القارة الأفريقية، فيؤكد أنها من أهم محاور إشعاع الإسلام في العالم، وأنه بالرغم من وجود الديانة المسيحية وطوائف أخرى فيها، فلم تنتج انقسامات أو فتن طائفية، وإن حاول البعض إثارتها كل فترة، وذلك لأن مصر بقوتها وتفردها أضفت مسحة من التسامح والسلام والانصهار المجتمعي، فيُقتل أي انقسام في مهده، وهكذا، كلما ألف جمال حمدان كتابًا، تظهر خلال صفحاته نزعة وطنية وفخر قومي هائلين.
وبدراسة حياته وطريقة عيشه وتعامله مع الظروف والتحديات، التي واجهته خلال سنوات عمره، نتأكد أن هذه النزعة ليست وجهة نظر يدونها على الورق، إنما هي شعور ينبع من قلبه بكل صدق، عاش حياته بأكملها يصفه ويسجله، ويثري المكتبة العربية والعالمية بأعمال من أفضل ما كتب عن مصر ووصفها.
كتبت – ابتسام أبو الدهب
“الكتاب 50+1”