بقلم- حاتم سلامة
يقول بعض ممن أقحموا أنفسهم في التاريخ وضروبه بغير علم أو دراسة أو قراءة متأنية: إن تشيع المصريين في زمننا محال، وأن الخائفين على المصريين من التشيع يعيشون في وهم وغفلة، ولما أرادوا أن يقدموا حجة من التاريخ على صحة فتواهم، ضربوا لنا مثلا بالفاطميين الذين مكثوا في مصر أكثر من قرنين من الزمان ولم يثبت أن المصريين اعتنقوا التشيع وهم تحت ظلال حكمه.
وهنا نقول ابتداء: إنه لم يثبت تاريخيًا أن الفاطميين حاولوا نشر مذهبهم أو إرغام الناس على الدخول فيه أو محاولة تغيير عقائد المصريين السنية للانتقال إلى التشيع.
لقد أغفل الفلاسفة أمرا مهما وهو أن مجرد التفكير من الفاطميين في نشر مذهبهم فإنهم بهذا يعلنون حالة من التمرد والفوضى والاضطراب في البلاد وهو ما يهدد سيطرتهم على مصر وإحكام القبضة على عرشها وشعبها، ومن ثم لم يدعوا إلى مذهبهم أبدا، بل أعتقد أنهم لو جاءهم من يريد أن يتشيع لردوه، لأن هذا ليس من الحكمة والحصافة، أن يوجدوا منفذا لثورة الجماهير.
ثانيا: يزعم أصحابنا أن الأزهر الشريف بُني لهذا الغرض، وأبدا لم يبن الأزهر لهذا الغرض وإنما بني الأزهر لنشر الفقه الشيعي أو بمعنى أدق: تدريس الفقه الشيعي، ولم تتم أبدًا بنايته لنشر الدعوة الشيعية.
ونحب أن نُذكِّر المتاولين بأمور منها.. أنهم يغفلون أمرا مهما جدا وهو أن المذهب الحالي في إيران هم مذهب جعفري إثنا عشري، بخلاف الفاطميين الذين كانوا على المذهب الاسماعيلي وهم أشر مذاهب الإثنا عشرية ودعوته وأدبياته وأصوله تقوم كلها على السرية التامة، وثبت علميًا أنه مذهب معقد لا يمكن قبوله أو التواؤم معه من العقل السني، ولهذا أحجم الفاطميون عن دعوة المصريين لأن خرافات الاسماعيلية مهما كانت محاطة بالتقية فلت تتم قبولها.
أما المذهب الجعفري في إيران فإنه خلاف ذلك تمامًا، وأنه يستميت بالتقية في نشر مذهبه.
وهذا يعطينا لمحة بين الفرق الرهيب بين دولة تحجم عن نشر مذهبها، ودولة ونظام في عصرنا الحالي يدعوا إلى التشيع بكل قوته، وفتح لنفسه مراكز وهيئات ومنافذ في كل دول العالم للدعوة إلى التشيع في إفريقيا وأوروبا وكل مكان، حتى في مصر طالتها الدعوة إلى التشيع فما عليك إلا أن تضغط زر البحث في جوجل عن انتشار الحسينيات في مصر لتعرف أنباءها من المصادر الإخبارية الموثوقة.
وهنا أقول: إن محاولة تكميم أفواه المنذرين بخطر الدعوة الشيعية في مصر وغيرها محاولة تزييف وعماية عن الحقيقة، فإن هناك قطاعات صوفية كثيرة في مصر ممن لا وعي لهم قبل بعضها التشيع بل هناك حتى شخصيات علمية كبيرة تشيعت وثبت تشيعها، وأكثر الصوفية العوام يتم خداعهم بمحبة أهل البيت حين يرون أنه لا فرق بين الشيعة والسنة ومن ثم يقبلون على التشيع بحب وحماس.
ومن دلائلنا التاريخية على أن الفاطميين لم ينشروا المذهب الاسماعيلي في مصر حسب رؤية بعض الباحثين وهي كما أشرت لمثلها “أن الفاطميين عندما قدموا إلى مصر، كانوا يدركون الفارق الشاسع بين مذهبهم الشيعي الإسماعيلي من جهة، ومذهب المصريين السنّي من جهة أخرى، ومن هنا عمدوا إلى انتهاج سياسة مهادنة، تميل إلى التسامح المذهبي، رغبةً منهم في كسب ود المصريين وإحكام سيطرتهم على البلاد، خصوصاً أنهم عانوا الأمرّين في المغرب عندما حاولوا فرض المذهب الإسماعيلي على السكان الذين يعتنقون المذهب المالكي، بحسب ما يذكر أبو بكر عبد الله بن محمد المالكي في كتابه “رياض النفوس في طبقات علماء القيروان وإفريقية”.
ثم أين نحن من رسالة الأمان التي أظهرت هذا النهج المتسامح، وهي الرسالة التي أعلنها جوهر الصقلي بعد استيلائه على البلاد، “إذ ورد فيها التأكيد على إقامة المصريين على مذاهبهم: “وأنْ تُترَكوا على ما كنتم عليه من أداء المفروض في العلم والاجتماع عليه في جوامعكم ومساجدكم، وثباتكم على ما كان عليه سلف الأمة من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين بعدهم، وفقهاء الأمصار الذين جرت الأحكام بمذاهبهم وفتواهم، وأن يجري الأذان والصلاة وصيام شهر رمضان وفطره وقيام لياليه، والزكاة والحج والجهاد على ما أمر الله في كتابه ونصه نبيه صلى الله عليه في سنته”.
“ومن الممكن أن نفسّر سبب عدم جنوح الخلفاء الفاطميين إلى نشر المذهب الإسماعيلي في مصر إلى طبيعة المذهب ذاته، فهو يتميز بطبيعته المركبة المعقدة، ما يجعل التبشير به بين الجموع والحشود أمراً صعباً، بعكس المذاهب الإسلامية الأخرى، مثل المذهب السنّي أو المذهب الشيعي الإمامي أو المذهب الزيدي.
ويكفي أن نرجع إلى كتابات الفقهاء والعلماء الإسماعيليين المعاصرين لأحداث غزو مصر، من أمثال القاضي أبو حنيفة النعمان المغربي، في كتبه المشهورة “افتتاح الدعوة”، و”دعائم الإسلام”، و”المجالس والمسايرات”، لنرى كيف امتلأت بالتأويلات وعلوم الباطن والدقائق التي لا يمكن أن يستوعبها العقل الجمعي لشعب ما في فترة زمنية قصيرة.”
ورغم هذا فإن كل ما ثبت عن الفاطميين في مصر هو بعض التضييق في لإقامة الشعائر الدينية كالأذان ومنع صلاة الضحى والتأثر بالقضاء وهي كلها أمور شكلية وقد تأثرت مصر بالشكليات الفاطمية كثيرا إلى اليوم.
ويبقى السؤال الذي نوجهه للمتفزلكين الان وهو:
ماذا لو نشر الفاطميون مذهبهم في مصر وكيف يكون حالنا اليوم؟
من المضحك أن بعضهم يستغل هذا الوهم للتدليل على تدين الشعب المصري الشديد، وأنه يحتفي بعقيدته مهما كانت الضغوط والملمات، ولكن ذلك كله أوهام، فوالله لو أعمل الفاطميون في الدعوة لمذهبهم بالقوة والجبر لكان من الممكن أن نرى اليوم نصف شعب مصر على المذهب الشيعي الاسماعيلي.
في دراسة أعدها «صالح الوردانى» تحت عنوان: «الشيعة فى مصر»، يشير فيها الكاتب إلى أن مصر احتفظت ببعض الأفكار والممارسات المرتبطة بالتشيع بعد إنهاء الحقبة الشيعية، وما زالت هذه الأفكار والممارسات تظهر فى حياة المصريين فى بعض الأحيان، من بينها: الحركة الصوفية التى عكست فى بداية ظهورها بعد انهيار الدولة الفاطمية تطبيقاً لمبدأ «التقية»، فقد تذرع المصريون بالتصوف من أجل الهروب من بطش «صلاح الدين» بالشيعة، فأظهروا «التسنن» رغم أنهم يضمرون التشيع، وبمرور الوقت تحول التسنن من مجرد ادعاء إلى حقيقة على يد الأبناء والأحفاد. وهناك تجمع الأشراف فى مصر الذين يرون أنهم ينتسبون إلى ذرية على بن أبى طالب، رضى الله عنه، ويطلق على نقابة الأشراف «نقابة الطالبيين»،
وهنا وبعد هذا نحاول أن نرد على هذه الدعوات الواثقة جدا من أنفسها وتتكلم وكأنها محكمة بالعلم وهي بعيدة كل البعد عن الواقع والتاريخ وطبيعة الشعوب، كما أنها محاولة مفضوحة لطي هذا الملف وعدم إثارته والحديث فيه، لكننا اليوم نجزم أن مثل هذا الملف يجب أن يكون مفتوحا وأن تكون مؤسسات الدولة متيقظة له، فقد أعلن الأزهر رفضه لذلك في تعقيبه على إقامة بعض الحسينيات، كما أننا يمكن أن نلفت إلى خطرين كبيرين يمكن لهما أن يكونا مكسبا كبيرا للتأثر الشيعي في مصر وغيرها، وهو أولا قلة وعي العامة بالمذهبية والخلافات العقدية، ثانيا الحالة الاقتصادية المتعثرة التي يمكن أن تكون الورقة التي يركز عليها الشيعة اماما كما يفعل التبشير في إفريقيا.