أخبار عاجلة

الحمد لله.. ما أحببتها يوما

مما أحمد الله عليه في حياتي أنني لا أهوى كرة القدم ولا أحب مشاهدة -الماتشات- وأنظر بغرابة لكثير ممن هم حولي من المتعصبين للكرة إلى حد الهوس، وأتعجب أكثر حينما يأتي موعد الماتش فتتوقف لديهم مسيرة الحياة والزمن، ليشاهدوا المباراة ويقدمونها على كل شيء في حياتهم.
وإذا حاول صديقي المهووس بالمباريات أن يصحبني معه، أسير مضطرا وأجلس بين المشجعين كالغريب المستوحش، أو كالتائه الذاهل، فليس هاهنا مكاني وليست هذه جنتي.
وأرى أحدهم يمكن له أن يتخلى عن أي ضرورة في حياته مهما كانت قهرية، لكنه لا يمكن أبدا أن يتخلى عن مشاهدة المباراة.
وأنا هنا لن أنتقد المهوسين بكرة القدم التي صار لها غرام عالمي، ولن أصفهم بأنهم تافهين أو فارغين، حتى لا يحزن أحد أو يتضايق مني أو يغضبه وصفي، لأن المشكلة أكبر من هذا، فهي مشكلة اجتماعية ولها أبعاد سياسية وأصابع فكرية.
كنا ونحن صغار في قريتنا، لم نجد محضنا يستوعبنا ويجمعنا غير نادي الشباب الذي لم يكن له اهتمام بثقافة أو فكر أو توعية، وإنما القرة وحدها التي صارت تشكل عقل الجميع ووجدان الصبيان حتى شبوا عليها وهي معشوقهم الأسمى.. ولو أنه وجدت محاضن أخرى تستوعب الصبية لكن لنا نمط آخر.
هناك من يريد إبعاد عقولنا عن الاهتمام بوطننا ومستقبله وقضاياه، وهناك من يريد تهميش عقولنا وتقزيم أفهامنا حتى نبتعد عن غاياتنا وكل باعث لنا على العمل والنهوض والتقدم، وإني أري أن الغرام بالكرة من صور الغزو الفكري في مجتمعاتنا المسلمة.
وربما تكون من باعث الراغب نفسه كمحاولة للهروب من آلام ومآسي الحياة وجراحات الفقر والعوز، ومن عجب أن البعض يبرر الكرة بأنها ترويح للناس عن آلامهم، بدلا من أن يعالج هذه الأمغاص.
إن حولنا كثير من المصائب التي تجعل المرء الذي تأخذه كرة القدم إلى حد التعصب الممقوت أو تتملك هواه جريمة وجناية.
كيف تحوطني وتحوط أوطاني كل هذه البلايا، ثم أهرول إلى المباراة ومعاينة اللهو والعبث، نحن الان نخاطب عقولا تفقد الحس والشعور وربما تفقد العقل.
كثيرون لن يعجبهم هذا الكلام لان الكرة إدمان يغلب على هوى أحدهم دون إرادته، وكما ذكرت أنني لا أريد أن أمعن في نقد الجماهير، بقدر ما أسلط الضوء على سبب الداء وعمق ومنبت الإشكال.
درست قديما أن معاوية بن أبي سفيان حينما أراد أن يشغل الناس عن الحديث في القضايا المهمة، أحيا سوق عكاظ والمنافسات الشعرية وأحيا العصبيات القبلية، كل يرى سمو قبيلته فوق سمو الإسلام، لينشغل الناس عنه وعن مراداته.
وقرأت كذلك مؤخرا أن: “فيديو إعلان صفقة انتقال أحمد مصطفى سيد الشهير بـ «زيزو» تخطى 35 مليون مشاهدة و5 ملايين تفاعل على حسابات النادى الأهلى الرسمية فى أقل من 24 ساعة، فى سابقة لم يشهدها الوسط الرياضى المصرى. وما إن انتشر، حتى اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعى بحالة من الجنون الجماهيرى، سجالات حامية، اتهامات، انفعالات، ومشاعر مختلطة بين جمهورين لا يعرفان الحياد.. وكأن الكرة أعلنت قيامتها!”
هل هذه هي مصر وهذا هو جيلها الجديد الذي يجب أن يحمل قيادتها في المستقبل؟
انشر أي مقطع لأي قضية سياسية أو اجتماعية، فلن تراها بهذا الاقبال المهول، لأن العقول أفرغت من الواجبات والمسؤولية التي تناط بها.
لقد أعجبني جدا هذا التحليل القائل بأن فى المجتمعات التى انهارت فيها الثقة بالمؤسسات والأحزاب، تصبح الفرق الكروية كيانات بديلة للهوية والانتماء!. وقد تجد أن ٥٠٪ من مشجعى الأهلى والزمالك ولاؤهم لناديهم أقوى من انتمائهم لأى كيان سياسى أو حتى قضية وطنية كبرى، وقد أكد استطلاع أجرته شركة «يوغوف» عام ٢٠٢٣ أن 42% من الشباب العربى تعد كرة القدم «ملاذاً» نفسياً لهم من الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، وما يوصف بـ«التعصب الكروى» ليس سوى تعبير عن غريزة الانتماء للقبيلة، كما فسّرها سيجموند فرويد فى تحليله للبُنى الجماعية.”
إن الفراغ الذي يكتسح عقولنا، يكبل مستقبلنا ولن تجد لهذه العقول أي اهتمام بقضية مصيرية تشكل وجودنا وحاضرنا ومستقبلنا، وذلك خطر كبير جرته علينا كرة القدم.
نريد من الدولة أن تعد شبابها وتعلمه الاهتمام بالقضايا المصيرية حتى تجدهم في اللحظات الحرجة رجالا أشداء يحمون ترابها ويصدون عدوها.. الجيش المصري يعد الرجال والأبطال، ولكن المدرسة والمسجد والمنتديات الثقافية والفكرية تعد العقول، التي إن توافقت مع جسد قوي، صارت بلادنا قوية عفية.
عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم – : قال الغلمان ليحيى بن زكريا : اذهب بنا نلعب، فقال يحيى : ما للعب خلقنا، اذهبوا نصلي ، فهو قول الله تعالى : وآتيناه الحكم صبيا.