حسين متولى
خبر يبدو عابرا، ولا يلتفت إلى تداعيات تفاصيله إلا العارفون بخطورة الأسباب، حيث تقدم عدد من موظفي إقليم كردستان، الأحد الماضي، بدعوى قضائية أمام المحكمة الاتحادية المعنية بالحكم في النزاعات الدستورية بين المحافظات والأقاليم، يطالبون فيها باستمرار صرف المرتبات في مواعيدها المحددة، وفقاً لقرار سابق أصدرته المحكمة ذاتها.
منذ سقوط نظام صدام حسين في التاسع من أبريل عام 2003، نجد العراق على صفيح ساخن، بين قسمة الفرقاء السياسيين، وحسبة المتعقلين الشركاء في وطن جامع لقوميات وعرقيات على غير حسابات التاريخ والجغرافيا، حتى إذا ما استقروا على صياغة دستور يحول البلد إلى نظام اتحادي فيدرالي، باتت الأزمة ربما في فهم القائمين عليه منذ العام 2005 وتطبيقه، فيبقى المجتمع بمختلف مكوناته على غير موعد مع نقطة واحدة لانطلاق البلد نحو تقدم سبقته دول الخليج العربي كله في سباقه.
ما يدعونا لتناول الأمر هنا، هو السيرة التاريخية للعراق في العقل الجمعي المصري، منذ كنا صغارا تتكرر حكايات المسافرين العاملين بالخارج من عائلاتنا، خاصة في العراق وليبيا، وكيف كانتا مصدرين للدخل الحقيقي المقابل للغربة وعنوانين للاستقرار وسط شعبين مطمئنين، لدرجة أن عددا من قرى مصر جرت تسميتها بأسماء مدن عراقية، بخلاف وجود عائلية ذات أصول كردية طابت سيرتها بيننا.
عود على بدء؛ وقد اختلف الأمر في عالمنا العربي والإسلامي، وتحكمت السياسات الاقتصادية العالمية في مصائر بلدان وشعوب، فحكم الدولار على أمثاله من العملات، وأثمرت التبعية الطوعية أو ممارسات الاستعمار الجديد عددا من النماذج التي تعاني أزمة ثقة داخلية، أكثر من كونها مفتعلة بتدخلات خارجية، وفي الحالة الفيدرالية التي تجاوزت فكرة الحكم الذاتي لإقليم كردستان إلى الشراكة التامة بين بغداد وأربيل، بموجب الدستور الجديد، الذي يبدو البعض طرحه وكأنه شكلي تتجاوزه الممارسات السياسية أو التشريعات النافذة بالتمرير أو الامتناع، فتبقى الخلافات قائمة يتعيش عليها منتفعون بصراع مكتوم أو معلن، لا ممسك لأطرافه.
في أزمة مقاضاة حكومة منعت ماليتها عن مواطنيها رواتبهم منذ 18 أبريل الماضي، ومع دخول عيد الأضحى المبارك بات أكثر من ستة ملايين مواطن بالإقليم دون دخل يقتاتون منه، على أن تأخذ الطرق الودية والدبلوماسية والقانونية وقتها لحسم قرار جديد بمنحهم حقوقهم.
يعرف خبراء الاقتصاد العمل دون أجر بأنه عقوبة عن جريمة غائبة، ولا تفهم البطون الجائعة ما يفكر به الساسة حين يصل الأمر حد عقد الاجتماعات والمشاورات لأجل ماذا؛ لأجل إطعام عائلات حرم ذووها حقهم في الأجر عن عمل تم إنجازه.
الحكومات الناضجة تفكر بالضرورة بطريقة تحتوي بها كافة خلافاتها فلا تؤثر على مواطنيها وهم أولى بالرعاية من الزج بهم في صراع أو خلاف، وما تبني الأحداث عليه قرار بغداد بشأن تعطيل صرف رواتب الموظفين في كردستان، قيام رئيس حكومة أربيل مسرور بارزاني بتوقيع اتفاقيتين في واشنطن بقيمة 110 مليارات دولار في مجال الطاقة دون الرجوع للحكومة العراقية ، و صرف حصة الإقليم في الموازنة من أجور، وسط إشارات إلى عدم تجاوزها 15 ٪ من إجماليها قياسا على عدد سكان كرد يستحق نسبة أكبر منها، ما يشير إلى ضرورة تفسير أمرين، يتعلق أولهما بتشريعات معطلة بشأن حصة الإقليم في الموازنة واستثمار الإقليم موارده الطبيعية وبينها النفط والغاز بشكل أمثل في ظل نظام فيدرالي، والثاني يتعلق بأدوات ووسائل الضغط المستخدمة عند التفاوض حول قضايا محل نزاع داخلي بين الشركاء في الوطن، ولا يجوز أخلاقيا بالتأكيد استخدام قوت المواطنين في حسمها.
الأزمة يدرك مفتعلوها أن عيد الأضحى هو موسم للاستهلاك الكبير بمجتمعاتنا العربية والإسلامية، تحتاج خلاله الأسر المزيد من النفقات، وكل الدول التي تلتزم حكوماتها بحقوق اقتصادية أساسية لمواطنيها تمنحهم المزيد من الدعم و العطايا ليكونوا قادرين على سد احتياجاتهم، بل تعتبر هذا الدعم عن تراجع قيمة عملتها أو ارتفاع مؤشرات التضخم، حصنا ضد نزعة ضعاف النفوس الذين يلجأون لطرق أخرى يمارسون بها فسادا.
هنا نجد الحكومة الاتحادية في العراق مطالبة بالالتزام بالبحث عن حلول جذرية، دستورية وقانونية، لضمان حقوق موظفيها كافة، وعدم تكرار تلك المشاهد التي تستخدم فيها أقوات الناس أداة في حسم خلافات، ربما كان تصور تحالف الإطار التنسيقي بأن المسار الحقيقي لحل الأزمة يكمن في تشريع قانون النفط والغاز ضمن رؤية وطنية ناجحة لحسم تلك المشكلات، وإشارة إلى ضرورة أن ينتبه القائمون على مؤسسات الحكم بإنجاز إنهاء الخلافات الداخلية، حتى يلتفت العراق إلى ما يحاك ضده أو ما يدور حوله من تغيرات وتقلبات تهدد بالضرورة أمن الدول، ناهيك عن مشكلات واجهها داخليا أبرزها داعش ومحنة الكورونا، وحاليا لم تسلم دولة من تداعيات حروب إقليمية هنا أو هناك.
العلاقة بين بغداد وأربيل لا يحتاج معها الشعب العراقي بكافة مكوناته وأعراقه إلى ندية و شد و جذب، بل إلى تكامل أدوار في ضوء دستور واضح متفق عليه، خاصة وأن نداءات التوافق والشراكة والتوازن متكررة على لسان المرجعية السياسية الكردية الأكبر الزعيم مسعود بارزاني، وحضوره و رؤيته يمثلان فرصة تاريخية هامة لحماية عراق موحد استقرت على نظامه الدستوري كافة القوى السياسية بعد 2003.
أمام رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، فرصة حقيقية، لوضع حلول جذرية للخلافات كافة بين بغداد وأربيل، في إطار الدستور والقانون، لينطلق بالبلد من مشكلة مفتعلة نحو حل شامل لكل القضايا الداخلية، وليكن دور القضاء والبرلمان حاضرا بإيجابية في هذا الخصوص.