أخبار عاجلة

الشاعر ” أحمد الشهاوي : الحب هو أقصى تجليات الروح

العاشقُ كائنٌ طِينتُه الحُب

الغَرامَ هُو الحياةُ فمُتْ بهِ

فى المرأة يكتمل ظهور الحقيقة

منْ لمْ يفقِّههُ الهوى فهوَ في جهلِ

كل حُبٍّ يكونُ معه طلبٌ لا يُعوَّلُ عليه

أحـمـد الـشَّـهـاوي
[email protected]

هناك نوع من البشر لا يستحق أن يعيش ، أو يُعاتب أو يُناقش في سلوكه الشاذ والغريب ، حيث يحيا على الهَزْلِ ، والفراغ ، وهدْر الوقت ، وتجفيف الحواس ، وضرب أعناقها ببندقية إهمال حاجات القلب وطلب الروح ، ومن المؤكَّد أنه يعاني مشكلاتٍ وأزماتٍ رُوحيةً ونفسية واجتماعية ؛ لأنه ” يؤمن ” بالترفُّع عن حُبِّه للمرأة ؛ إذْ يعتبرُها كائنًا لا يستأهل إسالة دم الوقت على عتباته ، ولا يستحق منحه الرعاية والعناية والاهتمام والحُب ، والانشغال به ، مع أنه « فى المرأة يكتمل ظهور الحقيقة » كما يذكر محي الدين بن عربي ، ومع أن الحُب عند البعض الآخر دين ومِلَّة وعقيدة ، ووصول إلى المعرفة الكبرى ، ( إنّ الغَرامَ هُو الحياةُ فمُتْ بهِ حُبًّا فحقُـكَ أَن تمـوتَ وتعـذُرَا – عمر بن الفارض ) ، حيث الحُب يصوغ رُوح المُحب ، ويجلو قلبه وبصيرته ، ويشف الحواس ، ويوقِظ النفس من سُباتها ، ويُفَقِّهه فيما لا يعلم ( ومنْ لمْ يفقِّههُ الهوى فهوَ في جهلِ – عمر بن الفارض ) ، ويُلْهِمُه الواردات والأحوال ، ويجعله في مقامٍ خاص ، لا ينافسه آخر في مرتبته . والحُب – الذي أعرفُ وأمارسُ – لا غرض منه ولا غاية ، ( وَبي يَقتدي في الحُبِ كُلّ إِمامِ – عمر بن الفارض ) ، إذ عند أصحاب النفوس الكبيرة والقلوب الرائقة ليس وراء الحُب مرمى ف ( كل حُبٍّ يكونُ معه طلبٌ لا يُعوَّلُ عليه .

” و” كل محبَّةٍ لا يؤثرُ صاحبها إرادةَ محبُوبِه على إرادته فلا يُعوَّلُ عليها.
” و ” كل محبَّةٍ لا يلتذُّ صاحبها بموافقة محبُوبه فيما تكرهه نفسُه طبعا لا يُعوَّلُ عليه . – ابن عربي ).

فالحُب منحةٌ وليس مِحنةً ، إذْ هو منَّة إلهيَّة يرسلها الله إلى عباده المُصطفين ، الذين ليس في قلوبهم مرض أو هوى أو غرض ، حيث يفنى العاشق في محبوبه ، إذ ( كل حبٍّ لا يفنيك عنك ولا يتغيَّر بتغيُّر التجلِّي لا يُعوَّلُ عليه – ابن عربي ) ، و يرتفع المحبوب – المرأة إلى رُتبة الألوهة ، التي هي أصلُ الوجود و عمادُه ، إذ يتم التعامل والتخاطب والتفاعل والتواصل معها بقداسةٍ :
( شَرِبْتُ الْحُبَّ كَأْسًا بَعْدَ كَأْسٍ
فَمَا نَفِدَ الشَّرَابُ وَمَا رَوِيتُ)
فالعشقُ بحرُ سُكُرٍ لا ينفدُ ، كأنه بحرٌ من الكلمات ، إذْ العاشق كلما ارتوى عطش ، وكلما أكل جاع ، ( وَهَلْ رأيت مُحبًّا غيرَ سَكْرانِ ) ، والعاشق رغم الطمأنينة والأمان اللذين يعيشهما ؛ فإنه غيرُ مطمئنٍ أو مستسلمٍ بأنه احتوى من يحب ، وهذا هو الخطأ الذي يقع فيه أغلب البشر إذْ يستنيمون للوضع الذي هُم فيه أو عليه ، غير مُدركين أن الحُبَّ يحتاج إلى إدارةٍ ترعاه وتعمِّقه وتُجلِّيه وتزيده وتثقِّف شجرَ حواسه ، ولذلك نرى حولنا تجارب عشقٍ غير مكتملة ، أُجْهِضتْ بضربات الإهمال واللامبالاة والجهل والتجاهل .

والحُب هو أقصى تجليات الرُّوح ، ليس له سواحل ، يمتدُّ بطول مساحات القلب ، يرسم له جغرافيته ، ويُحدِّد لصاحبه مجاله المغناطيسي الذي يتحرَّك فيه ، وهو غالبًا مجال لا شاطىء له ولا تخُوم ، لأن الحُبَّ فوق العقل الواعي ، بما يحمل من سمُوقٍ وسُمو في الجنون ، حيث تكون نفس المُحب في أعلى درجات الإشراق ، وتكون في حالٍ حميمةٍ لا معتادة ولا مألوفة ، لا تعرف إلا المرتبة العليا من الشعور ، حيث يتجرَّدُ العاشق ويتخلَّصُ من شوائب النفس ، ويشفّ ، ومن ثم يدخله الحُب في ميلادٍ رُوحيٍّ جديدٍ له ، ويصير في شوقٍ دائم لمحبوبه :
( وَمَا زِلتُ إياها وَإيايَ لَمْ تَزَلْ – عمر بن الفارض ) ، حيث ينقل المُحب من حالٍ إلى حالٍ أخرى قد تكون هي النقيض تمامًا لما هو عليه ، حيث يعيش في مقامات البسط والفرح والرجاء ، وتنكشَّف له أحوال كانت غائبةً عنه ، تخُصُّ فقط المحبين ، ويطمئن بعد حيْرةٍ ، ويأنس بعد أرقٍ وقلقٍ ، إذ قلب المُحب مغمورٌ في ماء الوصل ، يعرُج برُوحه كل ليلة ، يفيض بالاسم الأعظم للمحبوب ، ويترقَّى من حالٍ إلى أخرى ، هي عندنا الحياة الأخرى للمُحب ؛ لأنه يخرُج من حجاب النفس ” الأنا ” ، ممزقًا الأستار والحُجب ، ليصير معدن المعادن النفيسة ، ومحل جميع الأحوال ، وفي ترقٍّ مُستمرٍ ، سره صافٍ ، سائح في المكان ، نفسه مصفَّاة .

والحُب كائنٌ مقدَّس ، وله من صفات الإله الكثير ، وفي كُل الكُتب المقدَّسة سنجد أن كلمة الحُب وحقول دلالاتها تتكرَّر بشكلٍ لافتٍ مما يشير إلى قداسته ، ولذا لا أومن أبدًا بموتِ الحب ، فمن ينفي الحُب ويُقْصِيه ويكفُر بوجوده ويراه هو والعدم سواء ، هو عندي لا يُحبُّ نفسه ، وتنتفي عنه سمات وصفات إنسانية كثيرة ، فالعاشق كائن طينته الحُب ، وماؤه الهوى ، وهواؤه العشق ، وترابه الغرام .

والحُب لا يحتاج معلمًا ولا مُوصيًا ولا ناصحًا ؛ لأن قلب المحب هو وحده القِبلة والمقْصِد والمدرسة ، وما على المُحب إلا أن يدع قلبه يفتح بابه ؛ كي تشرق شمسُه ، ويخفق جناحَا طائرِه ، وينزل مطرُ جسده بردًا ساخنًا وسلامًا جامحًا ، غير خجلان مع أن في الخجل حُبًّا لا نهائيًّا ، وأرى أن عقل المُحب في قلبه ؛ لأنَّ ( الحُبُّ أَمْلَكُ للنفسِ من العقول ) ، وقيل ” لا خير في حب يُدبَّر بالعقل ” ، و الحب – كما يذكر ابن عربي في الجزء الثاني من كتابه ” الفتوحات المكية ” ( لا يجتمع مع العقل في محلٍّ واحدٍ فلا بد أن يكون حُكم الحُب يناقضُ حُكم العقل فالعقل للنطق و التهيام للخرس ) ، والرُّوح هي من ترشد الجسد الباذخ حامل الكُنوز إلى فعل العشق الذي لا يساويه فعلٌ إنسانيٌّ آخر .

والمُحب دومًا غيرُ بعيدٍ ؛ لأنه ربما يكون أمامك أو جوَّاك أو جوارك أو حولك أو على بعد خطوةٍ أو خطواتٍ منك أو تحت سماء واحدة معك ، وأنت غافلٌ أو ناسٍ أو منشغلٌ أو غير مكترثٍ أو ذو قلبٍ لا يُبصِر .

فيمكن للمُحب أن يبيت ليلةً واحدةً مع من يحب ، تُعادل أو قد تزيد على حياةٍ بأكملها ، قد عاشها دونما معرفةِ جوهر الحُب وجواهره التي تزيِّن رُوحه وجسده معا .

والحُب كما يقول أجاتونAgathon ( لا يأوي إلى كل النفوس لأنه إذا رأى طبيعة جافة أو نفسا خشنة فإنه ينفر منها ويبتعد عنها ولا يألفُ إلا النفوس اللينة الرقيقة ، فلهذا كان أرق الأشياء لأنه يلمس بخفة (…) ألطف جزء من أرق الأشياء وألطفها ) .

وعلى المُحب أن يرى النور الجوَّاني الذي يملأ باطنه ، ويتركَ طائرَ رُوحه ؛ ليطير بعيدًا في سموات العشق التي لا حدَّ لعددها ، لأنه بالحب نرى أشياء لم نكُن نبصرها من قبل ، فالرُّوح هي التي تجذبنا وتجعلنا ندور في فلك صاحبها – صاحبتها ، لأنها الأعمق والأبقى والأهم ، وهي التي تمنحنا الطمأنينة والصدق والحُلم والحُب والأمان ، وعُمومًا المرأة تتوقُ إلى العشق وتتمنَّاه وتطلبه ، والمهم أن يكون هناك من يستأهلها ، فالمرأة بطبيعتها مُهيَّأة للعشق ، ومستقبلة له ، ومانحة إياه لمن تريد هي ، وإن بدت في خفرٍ وحياءٍ وخجلٍ ، على الرغم من أنها تدرك أن في الخجل خسارات ، لكنْ تلك طبيعتها في كُل الثقافات والحضارات ، مع اختلافاتٍ طفيفةٍ ، ففي الثقافة الفرنسية – رغم الرُّقي والتقدُّم والتحضُّر والترف المادي ، ما تزال المرأة الفرنسية تطلق المثل السَّائر – الذي ترَسَّخ في لا وعي الفرنسين وأمم أخرى بالطبع – ( الرجل هو الصيَّاد ) ، وأنها هي الفريسة المُشتهاة أو المُغْوِية ، وإنْ كنتُ أرى أن المرأة أكبر وأجلُّ وأسمَى من أن تكون فريسةً يُطاردها الرجل ؛ لأجل الفوز بها ؛ والاستمتاع بجسدها ، وهو أمرٌ بعيد – تمامًا – عن مقصدي في العشق ، وكذا تربيتي الروحية والثقافية .
فالحُب – الذي أعرفُ – ثنائي القطب ، وليس مقتصرًا على الصيَّاد ، ولا على الفريسة ، فمن غير الحُب يصبح الأمرُ ” تجربة صيد – علنًا من هاوٍ ” أو ” نزهة قنص – خفاءً من مُحترفٍ ” ، ولا حُب يحيا تحت مظلة شرطٍ أو طلبٍ أو غرَضٍ ؛ لأننا عندما نعشقُ ، يكون اليوم الذي نحياه بألفِ يومٍ مما كُنَّا عليه قبل العشق .