أخبار عاجلة

“الشامانية”.. فلسفة فهم العالم بطرق روحية ورمزية بقلم ” مدني قصري “

لا شك أنّ الروح التي أهملها العِلم والفلسفة هي جوهرُ كائنِنا الحقيقي. ولذلك فبِحكم الحاجةِ إلى الصحوةِ التي تنشدُها مجتمعاتُ العالم المتحضر اليوم نحو وعيٍ كونيّ أكثر شمولا، بدأ الحديثُ عن الشامانية في الصحافة، وفي الكتب، ومن خلال البرامج التلفزيونية والإذاعية والانترنت. كما تُنظَّم في الغرب على الخصوص المؤتمرات والرحلات، والمعارض حول هذا الموضوع.
يقول الأخصائي الفرنسي أرنو ريو، مؤلف كتاب” أيقظوا الشامان في داخلكم” إن “الشامانية، قبل أنْ تجِد منشأَها في الثقافة الهندية، كانت قد نشأتْ في جميع الثقافات في العالم. هناك آثارٌ من التقاليد الشامانية الأولى تعود إلى 50 ألف سنة مضت، حيث مارس الإنسانُ الأولُ طقوسَها في الكهوف! الشامانية ليس لها عمرٌ، وليس لديها بلدُ منشأ، لأنها تأتي من الطبيعة!”
يُعرّفُ المختصّون النفسانيون والروحيون الشامانيةَchamanism بأنها واحدةٌ من أقدمِ أشكال الروحانية البشرية التي تم اكتشافُها بفضل أعمالِ كارلوس كاستانيدا، وبِفضل الأنثروبولوجي الأمريكي ميرسيا إلياد (الشامانية وتقنيات النشوة القديمة 1968 ). فالشامانيةُ تُقدّم لعالمِنا المعاصر نهجًا شامِلا للحياة.
مبادئ الشامانية
كلمة شامان chaman، وأصلُها من لغة تونغوسيك (لغة سيبيريا) تعني “الشخص الذي يُبصِر في ظلام الليل”.
من مبادئ الشامانية أنها تدعو الإنسانَ لأنْ يبحث عن الانسجام مع الطبيعة والحياة، ولأنْ يعي أوهامه، وقوالبَه واشتراطاتِه، ولأنْ يعيش في الحاضر، وليس مُشتّتًا بين ماضٍ صار ذكرى، وبين مستقبلٍ ليس سوى فكرة.
بين العالم المرئي والعالم غير المرئي
يرى الباحثون الغربيون الأخصائيون أنّ الشامانية تُعبّر عن روحِ الكون، لأنّنا جميعًا جزءٌ من هذه الروح. ففي خلال حياتِنا كثيرًا ما ننْسى مُقوّماتنا الأساسية، وهي أنْ نعيش من أجل ما جِئنا من أجله. ولذلك تساعد تقنياتُ الشامانية الإنسانَ على تحويلِ وتكييفِ طقوسه، وفقًا لذاتِه العميقة المتناغمة أصلا مع الكون.
الشامان، حسب الخبير الفرنسي أرنو ريو، يُطوّر حساسيّته. ويتيح له هذا أنْ يكون جسرًا بين العالم المرئي والعالمِ غير المرئي، الهُنا والهُناك، والحاضر، والمستقبل … وهذا يتيح له التواصل بشكل طبيعي مع الأرواح …
الشاماني إذن يرى الأرضَ والحيوانات والنباتات والبشر كأجزاء من كيانٍ كاملٍ متطور. ولذلك يُحذّرنا الشامانيون من الثقافة الغربية المادية التي صارت في كلّ مكانٍ تريد فرضَ اجتثاث الإنسان من جذوره، وكسْر علاقاته مع القوى الطبيعية في الأرض والكون.
العلاقة بين التحليل النفسي والشامانية
يقول أرنو ريو والعديدُ من الأطباء النفسيين الغربيين الذي أدخلوا في عياداتهم النفسية تقتيات الشامنية وفلسفتها ضمن أدوات العلاج النفسي التقليدية التي كثيرًا ما أثبتت فشلها، يقولون إنّ العلاقةَ موجودةٌ بالطبع بين العلاج النفسي والشامانية. فالمحللُ النفساني الكبير كارل غوستاف يونج، على سبيل المثال، أثبتَ من خلال تجربتِه العميقة الصلةَ بين اللاوعي الجمعي من وجهة نظر العلاج النفسي وبين الشامانية، وبين هذه الأخيرة والتنويم المغناطيسي، وغيره من طرق العلاج النفسي الحديثة. ولا شك أنّ جميع هذه العلاجات الجديدة متّصلة حقًا بجوهر الشامانية، لأنّها تُدمِج في سيرورة العلاج النفسي العالمَ غير المرئي، كاللاوعي … والكثير من الجسور الروحية بين الشعور واللاشعور.
نبوءات شامانية
يرى الباحثون المختصّون في فلسفة ومبادئ الشامانية الروحية أنّ نبوءات شامانية كثيرًا ما تتحدّث عن عصرنا من حيث هو اقترابٌ حتمي لنهاية العالم حضاريًا. ذلك في الواقع لأنّنا، من حيث لا ندري، بصددِ تدميرِ عالمِنا تدريجيًا. ففي رأي الشامانيين أنّ تلوثَ الهواء والماء ودفنُ النفايات السامة، وتدميرُ غابات الأمازون، واستنفادُ طبقة الأوزون، والتغيراتُ في درجات القديمة.
الشامانية والوعي النقي
ولذلك يرى الكثيرُ من علماء النفس والاجتماع والأنثروبولوجيا أنّ الشامانية يمكن أنْ تُعلّمنا الكثير، لأنها تُلامِس منبعَ وعيِنا ذاتِه، الوعي النقيّ الذي ينشأ فيه انتباهُنا ويقظتُنا، وإدراكُنا للحقائق، وذكاؤُنا، وهيكلةُ رغباتنا وإبداعُنا الحقيقي، وطاقةُ أجسامنا الكامنة. لأنّ الشامانية جسرٌ حقيقي بين الطبيعة المادية والروح، إذ تتيح لنا تحقيق حالةٍ من الانسجام بين العالمِ من حولنا وعالمِنا الداخلي.
منهاج عملي
ولا بد من القول إنّ الشامانية ليست مجردَ أفكارٍ ومشاعرَ روحانية بقدر ما هي منهاجٌ عمليٌّ يشمل كلَّ نواحي الحياة. الطبُّ الشاماني، مثلا، غنِيٌّ جدًا، إذ يَعتبِر المرضَ باعتباره علامةً على الجهل، أو نسيانًا لطبيعتِنا الربانية، لأنّ كلَّ واحدٍ منّا يملك القدرة والمسؤولية على الشفاء، وعلى أنْ يكون طبيبَ نفسه أيضًا.
أقدم علاج طبيعي يصبح مألوفًًا في الغرب
تقول المُحللة النفسية الفرنسية مارتين جيركول إنّ الشامانية التي صارت في الغربِ مألوفةً جدًا اليوم، هي أقدمُ طريقةٍ للشفاء في تاريخ البشرية، فهي تُعلّمنا أنّ كلَّ شيء في الكون مُترابِطٌ في نسيجٍ لا نهاية له. فهذا التقليدُ القديم يَفتح الأبوابَ على مستويات أخرى من الواقع الذي لا يقتصر على الحواسِ الخمس وحدها، إذ يوقِظ الحدسَ الكامنَ فينا ليَربِطنا بالطبيعة والحياة بأبعادِها وطاقاتها الخفية.
السرّ
عند مواجهتِها للألمِ أو الصدمة، تتكسّر الروحُ وتعود بعض “أجزائها” إلى واقعٍ غيرِ عادي، من وراء الزمان والمكان والمعاناة والألم. أي، بمعنى آخر، أنّ أجزاءَ الروح تغادر الجسم، وتذهب لِتَشْحن طاقتَها من مهدِها الروحي الأصلي، بعيدًا عن ظروف وشروط الوجود المادي.
أشبه بعمل الصائغ
للقيام بعميلةِ استعادةِ الروح، يقوم الشامان برحلةٍ شامانية يقودُه خلالَها حلفاؤُه من الأرواح إلى حيث يتواجد فيضُ الروح الذي لجأ إلى العالم الآخر الخفي. في بعض الحالات يتوجّه الشامان إلى ماضي مُوكله المريض ليُدرك ويقِف على الظروف التي تَسبّبتْ في هُروب روحه، بينما في حالاتٍ أخرى يسافِر الشامان إلى عوالمَ بعيدةً عن الواقع الملموس، وعن العوالم التي لن يُدركها إلا بالتجريد الخالص. وفي جميع الحالات يسعَى الشامان إلى العثور على روح مُوكِلِه (أي المريض)، حتى يتكّمن من إعادتِها إلى الواقع العادي، لكي ترسُو مرّة أخرى في جسدِ هذا الشخص المريض، عن طريقِ النّفخ في قلبِه، مثلا.
وسيط بين عالمين
وفي هذا تستند الشامانية إلى الخبرةِ والوحيِ المباشر القائِم على علاقةِ وكيفيةِ التواصلِ مع “الأرواح الحليفة “، ولا علاقة للشامانية بأيِّ معتقدٍ ديني. ففي المجتمعات التقليدية، يُعتبَر الشامان رجلَ طبٍّ، ومعالِجًا، ومُطبّبًا، ووسيطًاً بين عالَمَين، يستطيع السفرَ فيهما بملءِ إرادته، ترافِقه أرواحُه الوصيّة.
الشامانية والمرض العقلي
يقول مليدونا باتريس سومي، وهو كاتبٌ وباحثٌ روحي من غرب إفريقيا “إنّ ما يَعتبِره الغربُ مرضًا عقليًا، يراه شعبُ داغارا (في غرب أفريقيا، داغابا باللغة الإنجليزية) على أنه “أخبار سارة من العالم الآخر”. “الاضطرابات النفسية، والاضطرابات السلوكية من جميع الأنواع، تشير إلى حقيقة أنّ طاقتين غير مُتوافقتين قد اندمجتا في نفسِ الحقل”. “وتَحدُث هذه الاضطرابات عندما لا يتم مساعدةُ الشخص على مواجهةِ طاقةٍ آتية من العالَم الروحي”.
يعني ذلك، في الرؤية الشامانية أنّ المرضَ العقلي يشير إلى “ولادةِ مُعالج” (مُطبّب). ويوضّح الخبير ماليدونا باتريس سومي هذه الحقيقة بالقول إنّ الاضطرابات النفسية هي حالاتٌ واضطرابات روحية حرجة، ويجب أنْ تُعامَل كما هيَ، لمساعدةِ هذا المُطبّب القادم على ولادته الجديدة.
المرض العقلي رسالة تحمل أخبارا سارة
ويضيف الدكتور سومي “إنّ ما يعتبِره الغربُ مرضًا عقليًا، يراه شعبُ داغارا (في غرب أفريقيا، داغابا باللغة الإنجليزية) “أخبارًا سارة من العالم الآخر”. ففي رأي هذا الشعب إذن أنّ الشخصَ الذي يمرّ بأزمةٍ نفسية قد اختِير كوسيلة لنقلِ رسالةٍ إلى المجتمع، يتم إبلاغُها من العالَم الروحي الخفي. “الاضطرابات النفسية، والاضطراباتُ السلوكية من جميع الأنواع، تشير إلى حقيقةِ أنّ طاقتين غير متوافقتين قد اندمجتا في نفس المجال. وعند حدوث هذه الاضطرابات يجب مساعدة الشخص على مواجهةِ ظهور طاقةٍ من العالم الروحي”.
يعني ذلك أنّ أطاء الطبّ العام في الغرب غير مُدرّبين على التعامل مع الظواهر النفسية، والعالم الروحي، ويتعاملون مع هذه الاضطربات، مثلما يتعاملون مع باقي الأمراض الجسمية من خلال أعراضها ليس أكثر. ففي الواقع، يتمّ تجاهلُ القدرات النفسية. فعندما تظهر طاقاتُ العالم الروحي في النفس الغربية، يظل الفردُ عاجزًا تمامًا عن دمجِها، أو حتى عن فهمِ ما يحدُث. ولهذا يمكن أن تكون النتائج مُرعبة. فمن دون بيئةٍ ملائمة، ومساعدةٍ لمواجهة انفراجةٍ من مستوى واقعٍ آخر يُصاب الشخص في نهاية المطاف بِمسٍّ جنوني. والحال أنّ جُرعاتٍ كبيرة من العقاقير المضادة للذهان كثيرًا ما تُفاقم المشكلة، وتحُول دون الإدماج الذي يمكن أن يؤدي إلى نموّ الروح، ونمو الفرد الذي يتلقّى هذه الطاقات الكامنة.
الحاسة السادسة
وأحب أن أختم هذا البحث بخلاصة للدكتور سومي: “الثقافة الغربية تتجاهل باستمرار ولادة المعالجين”. “ونتيجة لذلك، فإنّ العالم الآخر يميل إلى الاتصال أكثر فأكثر بمزيدٍ من الأشخاص، في محاولة منه للفتِ الانتباه”. “الكائنات الروحية تنجذِب أكثر إلى الأشخاص الذين لم يتم تخدِير حواسهم. الحاسة السادسة غالبا ما تكون دعوة إلى عالمٍ رائع حيث الحكمةُ الذكية التي تساعدنا على منح معنى للحياة”.