حكيم جماعين يكتب: الاحتفاء بسيرة الجمال واللون في قاعات ضي
عند رائد الحركة التشكيلية السعودية عبدالحليم رضوي
يُعَدّ عبدالحليم رضوي (1939–2006) واحدًا من الأسماء التأسيسية في مسار الفن التشكيلي السعودي، لا بوصفه فنانًا مبدعًا فحسب، بل باعتباره شاهدًا على تحوّلات ثقافية واجتماعية كبرى عاشتها المملكة منذ منتصف القرن العشرين.

إن قراءة تجربته قراءة نقدية تقتضي النظر إلى موقعه التاريخي، وإلى مشروعه البصري، وإلى حدود التأثير الذي تركه على الأجيال اللاحقة.تُعدّ أعمال الرضوي احتفاءً باللون في المقام الأول. فلوحاته مشحونة بطبقات لونية كثيفة، نابضة بالحيوية، تكاد تتحوّل فيها المساحة إلى احتفالية تعبيرية.

ويُلاحظ في كثير من أعماله حضور اللون الأزرق والفيروزي والبرتقالي، وهي ألوان ترتبط بالبيئة البحرية الحجازية وبحيوية الحياة الشعبية.وعلى الرغم من تصنيف الرضوي غالبًا ضمن المدرسة التعبيرية، إلا أنّ أعماله تتضمن إشارات رمزية واضحة: النوافذ، الأقواس، القوارب، الوجوه، والهيئات البشرية المختزلة.

هذه الرموز ليست مباشرة، بل تتبدّى كإيحاءات للذاكرة الجمعية، وكأن الفنان يكتب تاريخ المكان بلغة لونية بدل السرد الشفهي.غير أنّ هذا الجمع بين التعبيرية والرمزية يُعرّض الرائي أحيانًا لشيء من التشتت الدلالي، إذ يصعب أحيانًا التقاط المحور المفاهيمي الرئيسي للوحة، خصوصًا في مراحله التي اتسمت بكثافة التجريد.

ويتمثل تأثير الرضوي الحقيقي في قدرته على دمج الحداثة بالانتماء المحلي دون الوقوع في فخّ التقريرية أو النسخ الفولكلوري. وقد أسس لخطاب بصري سعودي أصيل ما زال كثير من الفنانين الشباب يستلهمونه، سواء في التراثيات المعاد تفسيرها، أو في الحوار بين اللون والذاكرة.التفكيك ليس نقدًا هدميًا، بل ممارسة تكشف تناقضات النصوص وتعدد طبقاتها، وتُظهر أن المعنى ليس ثابتًا بل يتولد عبر الاختلاف والإرجاء.

وانطلاقًا من ذلك، يمكن التعامل مع لوحات عبدالحليم رضوي بوصفها خطابًا بصريًا يتشكل من حضور وغياب، من متن وهوامش، من نص وتراث، ومن صورة ورمز.يظهر في أعمال الرضوي توترٌ فلسفيّ بين الرغبة في بناء هوية بصرية محلية (عبر الأصباغ الشعبية، الرموز الحجازية، الأقواس، القوارب) والانخراط في الحداثة الفنية العالمية من خلال التجريد والتعبير اللوني.

وفق المنهج التفكيكي، لا يمكن اعتبار هذا الازدواج “تناقضًا” بل هو مسرح للاختلاف الذي ينتج المعنى. فالهوية المحلية ليست أصلًا ثابتًا بل أثرًا يتكرر عبر إعادة تمثيله. وما يبدو محليًا هو نفسه مُعاد إنتاجه داخل نظام فني كوني، فينهار بذلك الفصل الحاد بين “الأصيل” و”المؤثر”.يقدّم لنا الرضوي اللون لا بوصفه أداة زخرفية، بل كـ”علامة”. لكن هذه العلامة لا تحمل معنى نهائيًا؛ إنها تنزاح باستمرار. الأزرق، المرتبط بالبحر، لا يعود تمثيلًا طبيعيًا، بل أثرًا لذاكرة جمعية. الأحمر ليس رمزًا للحياة أو الجسد فحسب، بل يتولد من صراع بين حسّية المادة وسكون الشكل. الخطوط الكثيفة لا تنقل “حركة” محددة، بل تكشف التوتر بين الرغبة في الانطلاق وضرورة البنية. وبذلك تصبح اللوحة نصًا مفتوحًا، يدعو المتلقي إلى التورط في لعبة المعنى بدل تلقيه جاهزًا وهذا مايميز الرضوي.يتعامل الرضوي مع “التراث” في لوحاته ليس باعتباره نسخة من الماضي، بل اختراع حداثي يرتكز على اختيار عناصر معينة وإقصاء أخرى.

“الحداثة” ليست قطيعة مع الماضي، بل إعادة كتابته بلغة بصرية جديدة. إذن، ليست العلاقة بينهما علاقة “مزاوجة”، بل علاقة تعالق (ارتباط) يتحول فيها كل طرف إلى أثر للطرف الآخر. وهذا ما يجعل قراءة الرضوي من خلال ثنائية مغلقة أمرًا مضلّلًا. فلوحته تعمل على تقويض مفهوم الأصل الثابت، وتكشف أن كل هوية هي هوية مؤجلة.تظهر وبشكل جلي في أعماله أشكال بشرية مختزلة، وأحيانًا مشوهة أو متداخلة. لا تبدو لنا هذه الأشكال كتجسيد للجسد، بل كـ”أثر لغياب الجسد”. الشكل المختزل يدل على غياب الكمال لا على حضوره. الجسد المتداخل يفقد مركزه، فلا يعود الذات فاعلًا مُنتجًا للمعنى بل موقعًا تُعاد فيه كتابة المعنى بلا نهاية. الوجوه الرمزية ما هي إلا وجوه بلا ملامح مستقرة، تؤكد لا حضور الشخص، بل انمحاءه داخل النص البصري.هكذا تتحول اللوحة من تمثيل لذات الفنان أو مجتمعه إلى مساحة لا نهائية لتفكك الهوية.إنّ أعماله ليست مجرد تعبير عن التراث أو الحداثة، بل بنية جمالية تتشكل باستمرار عبر لعبة الاختلاف، وانفتاح العلامة، وتجربة التلقي. بهذا تصبح قراءة الرضوي قراءة في تكوين الهوية البصرية السعودية نفسها، وهو تكوين لا يقوم على الثبات بل على الحركة، لا على الجذور الصلبة فقط بل على التراكم والتأويل والانكشاف الحسي.

ما يقدمه الرضوي هو كشف للعلاقة بين الإنسان والمكان، بين الذاكرة والتحول، بين التراث كقوة روحية والحداثة كأفق مفتوح.ومن هنا تكتسب أعماله قيمتها؛ فهي لا تمنح المتلقي جمالًا بصريًا فحسب، بل تمنحه فهمًا أعمق لجوهر الثقافة، جوهر ينهض من الأزقة والأسواق والبيوت القديمة، وينفتح في الوقت نفسه على أسئلة فلسفية كبرى حول المعنى والهوية والزمن.
* الكاتب باحث جمالي وفنان تشكيلي
الخبر الثقافي موقع يهتم بكافة النواحي الثقاقية بمختلف مجالاتها وتغطية الأخبار الفنية .