الدكتور محمود زايد يكتب: ملا مصطفى البارزاني.. رمز أمة وعنوان نهضتها
منذ نحو عشرين سنة، جذبتني مقولة قرأتها للرئيس جمال عبدالناصر عن القائد الكردي ملا مصطفى البارزاني يصفه فيها بأنه: «زعيم اجتمع فيه القديم والحديث، وهو متفان من أجل شعبه». فالقائل زعيم، ويتحدث عن آخر في المنطقة ويصفه بـ «الزعيم»، ومعلوم عن عبدالناصر أنه لم يكن مجاملاً، فكثيرًا ما يضع الأمور في نصابها وليكن ما يكون.
منذئذ وأنا مهتم بكل ما كتب وما يُكتب عن ملا مصطفى البارزاني لأعرف بنفسي ما الذي حدا بعبدالناصر أن يتحدث بهذه القناعة عن هذه الشخصية الكردية. وخلال رحلة طويلة اتضح أن عبدالناصر لم يكن مبالغًا ولا مغاليًا فيما ذهب إليه عن ملا مصطفى: زعيمًا مخلصًا لقضية شعبه العادلة، وقائدًا تجاوز حدود كردستان ومنطقة الشرق الأوسط ليصل إلى العالمية في مصافّ ماو تسي تونج وجوزيف تيتو وغيرهما من زعماء النضال والحركات التحررية في العالم.
من يريد أن يرى ذلك بنفسه يقرأ كتاب الكاتب الصحفي شيركو حبيب الذي صدر مؤخرًا في طبعته الأولى بالقاهرة عن دار نشر أم الدنيا بعنوان: «ملا مصطفى بارزاني رمز أمة وعنوان نهضتها»، مبرزًا على غلاف الكتاب إحدى ترانيم هذا الزعيم التي تقول: «إذا كَانَ حُبُّ الوَطَنِ تُهْمَةٌ فَأَنَا أَكْبَرُ مُتَّهَم».
والكتاب جمع عددًا من لقاءات صحفيين مصريين وعرب وأجانب بملا مصطفى، وبعض رسائله إلى عدد من رؤساء وقادة الدول الكبرى كالولايات المتحدة والمملكة المتحدة والرئيس الفرنسي شارل ديجول وغيره، وذلك خلال مدة متوهجة بالنضال السياسي والعسكري ومفصلية في تاريخ الحركة التحررية الكردية الحديثة، منذ ثورة 14 تموز 1958م وحتى التآمر الدولي على ثورة أيلول باتفاقية الجزائر عام 1975م.
عبّر كل صحفي مصري التقى ملا مصطفى البارزاني في كردستان بما رآه في هذه الشخصية؛ فالصحفي المصري الكبير مكرم محمد أحمد وصفه بأنه «أسطورة كردستان»، منبهرًا بالمقدمات التي كونت شخصيته بهذه الأسطورية. يقول: «أي سحر مَكّنَ هذا الرجل من أن يصبح أسطورة كردستان! ما من شك أنه انتزع مكانه من خلال حياة طويلة مغامرة».
وهذا حافظ إمام وصفه بـ «شيخ الأكراد»، وعَنوَنَ حواره المنشور معه في مجلة آخر ساعة بتاريخ 15 أبريل 1970م بـ «جلسة هادئة مع شيخ الأكراد». وشيخ هنا ليس بمدلولنا المصري إمام مسجد أو عالم دين، وإنما تعني رئيس وقائد وزعيم الكرد.
أمّا هيكل، وما أدراكم ما هيكل! فقد وصف ملا مصطفى بأنه «صقر كردستان»، وأبدى أسفه وحزنه الشديد عن تأخره كثيرًا في مقابلة ملا مصطفى التي تمت في طهران بعد المؤامرة الدولية على الكرد، وتحديدًا في سبتمبر 1975م. حتى ملا مصطفى نفسه قال له: «كنت أريد أن أراك من وقت طويل … لقد دعوتك مرارًا لتجيء إلينا لكنك تأخرت».
تقرأ في هذا الكتاب من خلال ما كتبه الصحفيون المصريون، كيف كانت مصر ورئيسها جمال عبدالناصر في وجدان البارزاني أمرًا عظيمًا يُكِنّ لهما كل تقدير واحترام، فعبدالناصر لم يكن ضد الحقوق الوطنية العادلة للشعب الكردي، بل كان داعمًا لحقهم في حكم ذاتي في إطار العراق أو في إطار الجمهورية العربية المتحدة إذا ما تمت الوحدة بين مصر وسوريا والعراق، بشكل فيدرالي على النموذج اليوغسلافي.
وبسبب هذه الرؤية المصرية الواعية والعادلة، وبسبب أن الحكومات العراقية لم تفِ بالتزاماتها مع الكرد، طلب ملا مصطفى أن تكون مصر وسيطًا في المفاوضات الكردية العراقية، وشاهدة على أي اتفاقية تُبرم بين الجانبين، لكن حكومات بغداد كانت ترفض ذلك بزعم أنه شأن داخلي، لكن في الحقيقة كانت ترفض حتى تستطيع التهرب من أي شروط أو بنود متفق عليها كما هي عاداتها. ولنفس الأسباب لم تقبل وساطة الجامعة العربية وغيرها من المنظمات التي اقترحها ملا مصطفى.
لقد نجح شيركو حبيب في كتابه عن ملا مصطفى أن يبرز جوانب مهمة عن حقيقة الزعيم الكردي ملا مصطفى البارزاني، ليس بعيون الكرد أو مؤيديه؛ وإنما بعيون أخرى غير كردية من جنسيات دولية عديدة. ونستطيع أن نخرج منها أن ملا مصطفى البارزاني كان رجلاً حكيمًا، عظيم القدر، مهيب الطلعة، يحترم المبادئ، وينبذ العنصرية، تتملكه أعلى درجات الوطنية والإخلاص والتفاني لحقوق الكرد الوطنية وللحقوق الإنسانية والحيوانية والطبيعية بشكل عام.
الكاتب أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة الأزهر