أصدرت الكاتبة فاطمة التليلي روايتها الأولى “القطة التي خبأتني في عباءتها” مؤخّرا عن دار أم الدّنيا للدّراسات والنشر والتوزيع بالقاهرة، و في انتظار صدور مجموعتها الشعرية الأولى التي تحمل عنوان “تراتيل مملة”.
طرحت الكاتبة في هذه الرواية مجموعة من القضايا الاجتماعية تتعلق خصوصا بالحياة الريفية في البلاد التونسية، وتدور معظمها حول وضعية المرأة والصّعوبات التي تلازمها طيلة حياتها في ذلك المجتمع الذكوري المغلق على نفسه والخاضع لنواميس وقوانين أملتها عقلية متحجّرة تلحّ على الظاهر ولو أنّ في باطنها تخرقها أوبئة وسموم كثيرة تغطى في معظم الحالات بنفاق ورياء بارعين، وتنخرط في سلوكيات منحرفة يعلمها الجميع ولا يشيرون إليها، بل يبشرون بنقيضها الذي يتفننون في إبرازه وفرضه على نمط حياة ممزقة بين تناقضات لا تنتهي.
تلحّ الكاتبة على رسم الكائنات الأنثوية التي تتحمّل سلبية نتائج ذلك الواقع الموبوء وترزح تحت العقوبات الجسدية واللفظية وغيرها وتتخبط في عواقب هذه المعادلة المنخرمة وتحمّل جرم ما لم تأته لا نفسها ولا جسدها ولا قدرها من اقترافات يثقل بها كاهلها لترزح تحت وطأة العذابات النفسية والمظالم العائلية والأحكام الاجتماعية القاسية والفظة التي تجعل منها كائنا أدنى لا معنى لوجوده سوى الرضوخ للمفهوم الذكوري بكلّ سطوته وجبروته وأنانيته القاتلة.
شخصيات هذه الرواية كثيرة، معظمها نسائي، تدور في فلك محموم من الوضعيات المضطربة والحالات المرتبكة، أغلبها يرضخ وبعضها يثور ثمّ يتراجع القهقرى ويسقط مغشيا عليه، يدحره الواقع المتسلط ثمّ ينهض من جديد لتجلده سياط المجتمع الأبويّ السّاحق لكلّ أشكال الأنوثة، ليسخّرها لمصلحته الذاتية ويرتوي من دماء عذاباتها ودموع أشجانّا وجراح ذاتها المتشظية في فضاءات مغبّرة تخنق تطلعاتها وتحرمها من نفس عميق تطلقه طمعا في أن تمتلئ رئتاها ببعض هواء نقيّ وأوكسيجين قد ينعش جسدها المنهوك وعقلها المضنى.
نجحت الكاتبة في طرح عشرات القضايا وبسط عشرات الإشكاليات في إطار عائلة واحدة بمختلف تشعباتها وتفرعاتها مقتبسة في تلك العملية الإبداعية جوانب عديدة من سيرتها الذّاتية وأحداث يومية عاشتها وتعيشها لتفصّلها من جديد في هذا الشكل الرّوائي والسّير ذاتي في آن مستغلة أحداثا حقيقية طعمتها بكثير من الخيال الملتزم بالواقعية، والذي قد يحدث في أي لحظة حتّى إذا لم يحدث وذلك لأنّها تتسم بمملكة عميقة تعمل على استنباط ما يدور حولها من وقائع لتشكّله وتجسّده نصّا روائيا يشدّ القارئ حينا ويفاجئه في أحيان أو يخاتله ويغالطه لإدهاشه ولخلق التأثير في عقله وفي تركيبته الاجتماعية والوجدانية والفكرية.
اعتمدت الكاتبة كذلك تداخلات مقصودة بين شخصيات الرواية الأساسية النسائية التي تشمل فيما تشمل الروائية والسّاردة وصديقتها وشقيقتها ووالدتها إلخ، لتطلق كلّ تلك الكائنات الروائية صرخة هلع واستنكار في شكل ثورة متمردة على واقع رديء، إلاّ أنّ تلك الصّرخة ترتفع أحيانا وتنخفض أحيانا أخرى، تحت تأثير الكائنات الذكورية )الشقيق، الأب، الصّديق( التي تأبى طبيعتها الاعتراف بجرائم اجتماعية كرّستها الذكورية وأضفى عليها المجتمع الأبوي قداسة تحميها من قِبلِ كلّ مساءلة واعتراف مسؤول من معادلة سوية رسخت في الخيال في الحلم وامتنعت عن تعرية زيفها في واقع رجعيّ رغم بريق حداثي واه إلى أبعد الحدود.
وأمام انسداد الآفاق في وجه المرأة أو الأنثى التي تحاول الصّراخ والتمرد نجدها تلجأ في أحيان كثيرة إلى حلول غير جذريّة يجسّدها بالخصو الخيال والأحلام التي غرقت فيها السّاردة وشبيهاتها في الرّواية لتخفّف من وطأة الألم ووحشية الاستغلال وطغيان الأنانية المتجسّدة في تتويج الذكورة منهاجا للعيش وجنسا متفوّقا يستغلّ امتيازاته المفروضة عبر القرون.
أمّا إذا لم يكف الحلم والخيال فإن تلك الكائنات المسحوقة تلجأ إلى قراءة الشعر والانغماس في عوالم شعرية وتعمد عند انتهاء الحلول إلى نكو نحو الطفولة وهرب إلى تلك العوالم البريئة المليئة بالذكريات والعفوية لتحتمي تحت عباءتها وتتغطى لتتحمّل هول الصقيع ولفحات البرد القاسية.
إنّ هذا العمل الروائي الأوّل حقق نجاحات لا يستهان بها في طرح الإشكاليات ومخاتلة القراء وإدهاشهم بمفاجآت إبداعية طريفة، كما أنه يمثل كتابة ملتزمة بقضايا اجتماعية ونسوية أو إنسانية بالمعنى الأرحب، وهذه القضايا لا تقتصر على دول العالم الثالث كما قد يتبادر للذهن، بل هي متفشية في كلّ أصقاع الدّنيا.
وقدكُتب هذا العمل بإحساس مرهف وبمخزون من الوجع شديد العمق والامتداد وبتعلق مكين بقيم إيجابية تعيد للمجتمعات توازنّا وتمكّن من عيش محترم وسويّ.
