أخبار عاجلة

“فاقد شحن”.. قصة حاتم السروي

حين تكثر الأسئلة تقل الإجابات.. هذا ما تَوَصَّل إليه “إيهاب نافع” بعد تفكيرٍ طويل أثناء الاستحمام.
كانت المياه تَنْسَدِلُ على جسده مثل خيوط الحرير، والجو المعتدل يرسل نسيماً من نافذة الحمام الصغيرة التي أراد لها ولده المهندس أن تكون وظيفتها التهوية لا الفضيحة..
رجلٌ أرهقه العمل وأضناه التفكير، من حقه طبعاً أن يستحم ويستجم، لكنه رغم قرار الراحة من التفكير فكَّر فيما حوله ومن حوله، وانتهى إلى نتيجة هامة.. في غاية الأهمية..
لقد اكتشف أن الصمت في زمن اللا معيارية فضيلةٌ كبرى.. كفاك طيبة يا إيهاب، لماذا تصارح من تظنهم أصدقائك بتجاربك وأخطائك وذكريات الألم التي طَوَتها نجاحاتك؟ إنهم يأخذون منك حكاية بسيطة فيزيدوا عليها من خيالهم المُغَذَّى بسخافات الدراما التلفزيونية ثم يجعلون منك فاشلاً معيباً مع أنك فعلاً أفضل منهم.
لماذا تكلمهم عن الزكام الذي أصابك في الشتاء وهُم مرضى منذ عقود، وعِلَّتُهم مزمنة؟!.. يا إيهاب إن من حولك يحقدون عليك مع أنك تحبهم..
هنا راوَدَتْهُ الأسئلة ليشرع تلقائياً في ممارسة رياضته الذهنية المُفَضَّلَة، السباحة في التأملات وسَبْر أغوار الحياة والناس.. السياحة في الكهوف البشرية والمغاور والمتاهات، الغوص في أعماق النفوس، إنها سياحة تحت الأرض، أو قُلْ تحت الجلد، وخلف الصُّوَر.
مرة ينزل في مستنقع، ومرة يتسلق على الصخر في طريقٍ وَعِر، ومِرَاراً يطوف بالمزابِل لِيَشُمَّ رائحة العفن والحيوانات النافقة..
هكذا هي نفوس البشر في زمن العَوْلَمة والعَوَالِم.. قيل قديماً إن كل جسد في داخله عالَم، وحين انتشرت الوقاحة تحول العالَم إلى “عالْمَة” فأصبح كثيرٌ من الرجال راقصات، وحين يفقد الرجال رجولتهم يصبح التفكير مرضاً، وعلى إيهاب أن يبحث عن العلاج.
وهكذا ارتدى الرجل الوسيم بدلَتَهُ الزرقاء ذات القميص الغالي سماويِّ اللون، ورباط عنق أحمر مُنَقَّط يدل على ذوقه الحسن، ثم نزل على سلم بيته “الدوبليكس” قاصداً بوابة كبيرة تشبه بوابات القصور، وخرج..
رغم أنه لا يحتاج إلى مزاولة أي عمل، حيث يكفيه العيش من أرباح أمواله المودعة في البنك، إلا أنه فَضَّل العمل على الخمول، وأراد أن يكون اسمه “نافع” على مسمى..
إنه الاسم الذي جلب عليه التنمر والسخرية، وهو الاسم الذي حَفَّزه على الخير، واليوم لابد أن نحب إيهاب لأنه نافعٌ حقاً، ويكفيك أن تزور جمعيته الخيرية مرة واحدة حتى ترى حشوداً من الفقراء والمعاقين ينتفعون من خدماتها.
ثراءه ملحوظ، ونجاحه في شركة المنتجات الغذائية التي أسسها يجعله شخصية جذابة، غير أنه مصاب بأزمة عاطفية، معاناة مجهولة السبب..
كان ولا يزال يطلب مُحَالاً، يريد أن يحبه كل من يعرفهم، ويؤلمه أنهم يرمقونه بعين الحسد، وكيف لا يحسدونه؟!
هل يصيبهم نجاحه بالنشوى؟ أم هل تطربهم مكاسبه من البانِيه المُجَمَّد الذي تبيعه شركته؟؟ وهل يسعدهم إنفاقُهُ عليهم في المطاعِم والكافيهات؟ كل هذا يصيبهم بالغضب الصامت والحزن المُغَلَّف بالابتسامات الصفراء..
وحين يتركهم ليعود إلى بيته بعد سهرة حافلة، ينهمكون في اختلاق الفضائح المالية الوهمية والمغامرات الجنسية المكذوبة لينسبوها إلى رجل لا يزال طعامه في بطونهم.
كان يعرف أنهم يطعنونه من الخلف بألسنتهم الحادة، وتصله كل يوم أخبار الإشاعات السخيفة التي يطلقونها عليه، وحين يتمدد على فراشه تحضُرُهُ أسئلة عن السبب..
أي شيءٍ يجعلهم مظهراً للتوحش والكراهية؟ لماذا يعضون يداً تواسيهم وقلباً يدعوهم إليه بكل حفاوة وعقلاً يقدم لهم عصارة خبرته بلا مقابل؟!
– لماذا يا دكتور؟
نظر إليه الدكتور ممدوح طبيب الأمراض النفسية متأملاً في ملامحه الطيبة، ثم وضع عينيه في ورقة بيضاء نامت على سطح مكتبه، وكتب له عليها عبارة واحدة حاول أن تكون بخطٍ واضح:
“أنت تسعى خلف الهُراء”
قرأها نافع الذي اتسعت عيناه من الدهشة.. ابتسم له الطبيب فأيقن أنه فكر في موضوع لا أساس له، ركض نحو السراب، أراد أن يصل إلى حقيقة الوهم وليس للوهم حقيقة..
كل ما تراه خيال: الضحكات والدموع، الحوارات والحكايات، الحب والكراهية، الصداقة والصراع، كل هذا حلم كبير رآه نائم وهو يظن كل الظن أنه الواقع وما سواه خرافة، ثم استيقظ ليجد الشمس والهواء.
أقبلَ عليهِ الدكتور ممدوح مُرَكَّزَاً النظرَ في عينيه، وقال بنَبْرةٍ رخيمة مُنَغَّمَة:
أنت أول من يعرف أن الآخر جحيم، هكذا يرى الناس في البلاد الفقيرة بعضهم البعض، هكذا يمسخهم الفقر ويُحِيلُهم الزحام إلى ألغام، أنت يا نافع رجلٌ طبيعي، لستَ عُصَابِيَّاً ولا مُضطَّرِبا، كل شيء في حياتك يشهد لك بالنجاح، عملك وأسرتك، ولدك المهندس وبنتك المعيدة، حبك لأقربائك، ورحمتك بالفقراء… علاجك الوحيد أَلَّا تعبد الأصنام!
– أصنام؟! ماذا تقصد يا دكتور؟
– أقصد أن المرضى يستحقون الشفقة، أن تشعر بألم هزيمتهم النفسية، أن تدرك قسوة العَوَز والخيبة، أن تشاهد في حديثهم مشاهد حياتهم الحافلة بصنوف القهر والمذلة، وحيث عايَْنتَ المرض عليك أن تدعو لصاحبه بالشفاء، أما أن تعبد المرضى فهذا هو مرضك..
– والحل يا دكتور؟
– ابتعد فوراً، ألم تسمع عن الحجر الصحي؟ نحن في جائحة نفسية، فتنة بلا ضفاف، طوفان من الأذى، ولهذا أقول لك: احرص على ما ينفعك يا نافع، الزم بيتك، مارس هواياتك، اكتب ما تحبه من الخواطر والذكريات، وخصص وقتاً أكبر لعمل الخير، فإذا جاءتك الذكرى الحَرِجَة، ذكرى من أحسنت إليهم وأساءوا إليك، انظر إليهم بعين الرحمة ولا تخالطهم لأن قسوتهم لابد أن تُعدِيك.
لمعت عينا الرجل الطيب، وارتسمت على فمه ابتسامه عريضة، فنظر إلى الطبيب نظرة فرح وامتنان..
ولما خرج من عنده استقرت العزيمة في قلبه وقرر أن يأخذ بوصيته ليعالج نفسه بيديه.
رن هاتفه المحمول، صديق عقرب أو عقرب صديق.. أراد أن يرد في البداية، ثم تذكر أن إدمان البشر بلاء، إدمان الأصدقاء والمعارف، ألَّا يهدأ المرء إلا حين رؤيتهم، أن ينتظر رأيهم فيه بشغف ولهفة، أن يعجبه ثناؤهم عليه ويحزنه ذَمُّهم له.. كل هذا الصفر لابد أن يزول، والتجاهل هو البداية..
بعد الرنة الأولى جاءت رنتان ولم يرد.. شعر بلذة خَفِيَّة، وعندما وَسِعَه بيتُه بعد العشاء وافته راحة النفس، ذهنه الصافي قدم له الشكر، جسدُه أيَّدَ القرار فثقلت عيناه وتراخت أعضاؤه وراح في نومٍ عميق.
بعد ساعة رَنَّ هاتِفُهُ للمرة العاشرة!! أرادت زوجته أن ترد لتخبر المتصل بنوم زوجها لذا عليه أن يتصل في وقتٍ لاحق، لكنها حين لمست علامة الرد الخضراء فقد المحمول الشحن وارتاح مثل صاحبه..
*تمت*