أخبار عاجلة

الدكتور نبيل فزيع يكتب عن “الإيجارات” : القوانين بين سُلطان النفاذ المُستقبلي وحظر الأثر الرجعي

تشكل مبادئ العدالة والإنصاف واليقين القانوني الدعائم الجوهرية التي تقوم عليها دولة القانون، ومن بين هذه المبادئ، يبرز مبدأ «عدم رجعية القوانين» كضمانةٍ أساسيةٍ لحقوق الأفراد، وكسياجٍ منيعٍ يحول دون العبث بالمراكز القانونية التي استقرت في ظل تشريعٍ نافذ. وفي هذا الصدد، يُثار جدلٌ فقهي وقضائي واسع بشأن مدى مشروعية التطبيق بأثر رجعي لنص البند رقم (١) من المادة السابعة من قانون الإيجارات المصري الجديد رقم ١٦٤ لسنة ٢٠٢٥، والتي تنص على انتهاء العلاقة الإيجارية في حال ترك المستأجر للوحدة مغلقةً لمدة تزيد عن عام.

المبدأ الأصيل.. حظر الرجعية وضرورة النفاذ المُستقبلي للقوانين:

 

يُعد مبدأ عدم رجعية القوانين من المُسَلَّمات القانونية التي تحظى بإجماع الفقه والقضاء، بل وتكرسها الدساتير في شتى الأنظمة القانونية. وهذا المبدأ ليس منةً من المشرع، بل هو حقٌ أصيلٌ للمواطن، يستمد جذوره من مبدأ «شرعية التصرفات» الذي يقضي بأن يسود القانون في زمنٍ معين، فتخضع له كافة التصرفات التي تتم خلاله. وبمقتضى هذا المبدأ، فإن القانون يولد وينسحب بأحكامه على الوقائع والأشخاص من لحظة نفاذه فصاعداً، دون أن يمتد سلطانه إلى الماضي ليعبث بحقوقٍ مكتسبةٍ أو بمراكز قانونية استقرت وترسخت تحت ظل قانونٍ سابق. وهذا الضابط الزمني ليس شكلياً، بل هو ضمانةٌ جوهريةٌ لاستقرار المعاملات وثقة الأفراد في النظام القانوني، إذ لا يجوز إخضاع الفرد لحكم قانون لم يكن موجوداً وقت إبرام التصرف.

اتطبيق المبدأ على المادة السابعة من قانون الإيجارات الجديد

 

ت
ينص البند رقم (١) من المادة السابعة من القانون الجديد على حالةٍ من حالات انتهاء العلاقة الإيجارية، وهي حالة موضوعية تتمثل في «ترك المستأجر للوحدة مغلقةً لمدة تزيد عن العام». وتطبيقاً للمبدأ سالف الذكر، فإن هذا النص – شأنه شأن سائر نصوص القانون – يظل مُعلقاً على المستقبل، لا يسري إلا على الفترة الزمنية التي تلي تاريخ ٥-٨-٢٠٢٥ وعليه، فإن ترك المستأجر للوحدة مغلقةً لمدة عامٍ قبل هذا التاريخ هو واقعةٌ انقضت واكتملت أركانها في ظل القانون القديم، الذي لم يكن ينص على مثل هذا السبب لانتهاء الإيجار. فالمستأجر في هذه الحالة لم يقترف مخالفةً لأنه التزم بالقانون الساري وقت الالتزام. ومحاولة تطبيق الجزاء (وهي انتهاء الإيجار) على واقعة سابقة على صدور النص القانونى، تعد انتهاكاً صارخاً للمبادىء الدستورية والقانونية.

 

وقد يَدَّعي البعض بأن حالة «إغلاق الوحدة» هي واقعةٌ مستمرة، وبالتالي يجوز تطبيق القانون الجديد عليها. إلا أن هذا القول يجد رَدَّه في التحليل الدقيق للطبيعة القانونية لهذه الواقعة. فالمشرع لم يجعل مجرد «الإغلاق» هو الواقعة المنشئة للحق، بل جعلها «انقضاء مدة عامٍ من الإغلاق». فهذه المدة (العام) هي الركن المكون للواقعة القانونية. وبالتالي، إذا كانت هذه المدة قد انقضت بالكامل قبل سريان القانون الجديد، فإن الواقعة تكون قد اكتملت وتحقق سبب انتهاء العلاقة الإيجارية في الماضي تحت مظلة قانونٍ لا يعرف هذا السبب، مما يحول دون تطبيق القانون الجديد عليها بأثر رجعي. أما إذا بدأ الإغلاق في الماضي واستمر إلى ما بعد تاريخ النفاذ، فإن حساب المدة يبدأ من تاريخ نفاذ القانون، فلا يُحتسب من هذه المدة إلا الفترة التي انقضت بعد ٥-٨-٢٠٢٥ تحقيقاً للتوازن بين حماية حقوق المالك ومنع الإضرار بالمستأجر الذي أبرم عقده في ظل نظامٍ قانونيٍ مختلف.

 

في الختام، فإن القول بجواز التطبيق الرجعي الفقرة رقم (١) من المادة السابعة من قانون الإيجارات الجديد على فترات الإغلاق التي انقضت قبل تاريخ نفاذه، هو قولٌ يهدر ضمانةً دستوريةً وقانونيةً عظمى، ويعرض النظام القانوني بأكمله لهزةٍ عنيفةٍ تقوض استقراره وتقَلِّل من ثقة الأفراد فيه. وإن الحق اليقيني الذي لا مراء فيه، هو أن النص المذكور لا يسري إلا على حالات الإغلاق التي تبدأ أو تستمر بعد تاريخ الخامس من أغسطس ٢٠٢٥، بحيث يتم حساب مدة العام المنصوص عليها اعتباراً من هذا التاريخ فحسب. وكل تطبيقٍ يتجاوز هذا الإطار الزمني يعد تطبيقاً باطلاً، لمخالفته النظام العام، ويتعين على القضاء، حامي الشرعية وحارس الحقوق، أن يدفعه ويقضي بعدم القبول، صوناً للمبادئ الراسخة وتحقيقاً للعدالة الجوهرية.