نعرف بين رموز أحزابنا المصرية في التاريخ الحديث كثيرين ممن قادوا العمل السياسي وناهضوا الاستعمار البريطاني، قبل ظهور حركة الضباط الأحرار وإعلان المبادئ الستة التي جعلت نتائج بعضها من حدث 23 يوليو ثورة تاريخية، حتى غيبت الحياة الحزبية لتظهر في صورة المنابر السياسية عام 1976 في عهد الرئيس محمد أنور السادات، ضمن خطوات التحول نحو التعددية، بدلاً من نظام الحزب الواحد “الاتحاد الاشتراكي العربي”.
وكان الوفد أشهر الأحزاب السياسية في مصر منذ ظهوره عقب مؤتمر باريس عام 1919، وفي ظل احتلال و ملكية لم يحكم صراحة سوى سبع سنوات وبضعة أشهر، حسبما يشير مورخون مفندون لحقيقة حقبة الليبرالية السياسية التي لم تشهد ديمقراطية بالضرورة في وجود الاحتلال وسلطة الملك في حل البرلمان، وعليه انتهت سيرة “الوفد” مع حكم يوليو، ليظهر شكله “الجديد” المختلف عليه بين أرباب الليبرالية.
على الجانب العربي، ظهر البعث بامتداده في العراق عام ١٩٥١ لكنه صار عراقيا خالصا عام ١٩٦٦ وانتهى وجوده بسقوط نظام صدام حسين عام ٢٠٠٣، ولونه القومي في سوريا بين ١٩٦٣ و ٢٠٢٤.
بينما شهد العام ١٩٤٦ ميلاد أقدم حزب بالمنطقة من حيث الاستمرارية، وهو الحزب الديمقراطي الكردستاني على يد ملا مصطفى بارزاني، الذي احترمه القادة العرب وأولهم الزعيم جمال عبدالناصر، كما قدره السوفييت وكان لجوؤه يوما إليهم، قبل عودته إلى القاهرة في أكتوبر عام ١٩٥٨.
استمر الحزب الديمقراطي الكردستاني في نضاله ضد الديكتاتوريات المتعاقبة والأنظمة التي صنفت الكورد كأقليات داخل العراق، رغم أن الاستعمار القديم قسم إقليمهم بين عدة دول ليخضعوا لحكم أنظمتها، ورفض زعماء عرب أولهم جمال عبد الناصر حربهم، واحترم التاريخ ثوراتهم، حتى المسلحة منها، لأن مبدأ الحزب وشعاره كانا واضحين، الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستان، وشهدت فترات الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي أعظم اضطهاد لهم يد النظام البعثي وحكم صدام حسين الذي ورط المنطقة كلها في استدعاء سيرة الحروب غير المبررة، مع إيران لمدة ٨ سنوات، ثم غزو الكويت، ليكون الاستدعاء الأعظم للاستعمار الأنجلوأمريكي ووضع العراق كله تحت الحصار لمدة ١٣ سنة، حتى سقوط بغداد في ٩ أبريل ٢٠٠٣، وظهور نموذج العراق الاتحادي بدستور فيدرالي عام ٢٠٠٥.
في عهد جديد للعراق امتد خلال عقدين ماضيين، ظل الحزب الديمقراطي الكردستاني معبرا عما يبحث عنه العراق كله، ولم لا، وزعيمه مسعود بارزاني هو نجل مؤسسه، وميلاده وافق تأسيس الحزب في هذا اليوم ١٦ أغسطس، وقد نال احترام وتقدير كافة زعماء ورؤساء وملوك العالم الذين اعترفوا بضرورة تطبيق رؤيته لإصلاح العراق داخليا، بتطبيق مبادئ التوافق والتوازن والشراكة، والالتزام بدستور وقانون يضمنان لكافة مكونات العراق حقوقها دون تمييز أو استبعاد.
هذه الحالة التي خلقها الحزب الديمقراطي الكردستاني في الحياة السياسية العراقية ميزت سيرته بين أحزاب المنطقة وجعلته عنوانا لنموذج سياسي فريد في إقليم يتمتع بموقع فريد وعلاقات دبلوماسية راقية مع الكافة، مع رؤية تضع بغداد أحيانا في حرج عند التفاوض حول القضايا الخلافية مع أربيل.
هكذا صعد الحزب الديمقراطي الكردستاني في العراق وكردستان متصدرا المشهد السياسي، والانتخابي بحسابات رقمية أحادية بعيدة عن التحالفات، وتصبح مهام رئيس الإقليم نيجيرفان بارزاني جسيمة مع تطورات الأوضاع في المنطقة والعراق، وتبقى أحلام الكورد متزايدة في ظل نجاحات حكومة مسرور بارزاني المتكررة خاصة في مجالات التنمية والإصلاح الإداري ومكافحة الفساد، رغم تكرار الأزمات المفتعلة مع الإقليم، تارة بخصوص رواتب المتقاعدين والموظفين، وتارة أخرى بشأن ملف عوائد تصدير النفط أو غيره.
من بعيد؛ نتابع بين الحين والآخر ظاهرة غير متكررة إلا في العراق وكردستان، وهي تأخر تشكيل الحكومات رغم إنجاز الانتخابات، بسبب ما يمكن تسميته “نفسنة” الأحزاب السياسية تجاه نجاحات يحققها الديمقراطي الكردستاني غالبا، ما يجعلنا نتعجب من فهم كثيرين من الساسة معنى الاستحقاق الانتخابي، أو قل الديمقراطية ذاتها، طالما لا تعني لديهم في أبسط صورها نتائج الصناديق.
٧٩ سنة من النضال والكفاح السلمي، والمسلح أيضا، وعقود من البحث عن الإصلاح وإعادة بناء الوطن والتنمية، تتخللها محاولات جادة مستمرة للحفاظ على فيدرالية العراق ووحدته، كافية للتأكيد على حقيقة أننا أمام حزب غير عادي و زعيم تاريخي، اكتسب الأول تأثيره السياسي من حنكة وذكاء زعيمه، واليوم نجدنا أمام لحظة تستلزم ذكر سيرة الديمقراطي بتاريخه النضالي، وتهنئة الشعب الكوردي كله بيوم ميلاد زعيمه مسعود بارزاني الذي يحتفظ بمكانة تليق بمقام نضاله في قلوب العرب والكورد والشعوب الحرة كلها.
