لا أكون مبالغًا إذا قررتُ: لو أن أمة أخرى غير الكرد تعرضت لحجم المؤامرات التي تعرض لها الكرد لباتوا في خبر كان، ولم يعد لهم ذكر إلا في كتب التاريخ؛ فلم يكد يخرج الكرد من مؤامرة إلا وأخرى تقتحمهم قتلاً وإفناءً وتهجيرًا، وَصَلَ إلى حد الإبادة في بعضها، كمثل ما حدث من تبعات ما يسمى في أدبيات السياسة الدولية بـ «اتفاقية الجزائر» التي خصص لها برنامج «لو .. أن» بالأمس حلقة كاملة على فضائية «شمس» الإخبارية بتقديم المذيعة اللبنانية فاطمة رضا المعروفة بـ “تيما رضا”.
امتاز ضيوف الحلقة الذين كانوا من كبار السياسيين والمفكرين الكرد والعراقيين بعرض رؤاهم بموضوعية تجاه اتفاقية الجزائر من حيث الظروف التي أدت إليها والتبعات التي ترتبت عليها، مما يجعل المشاهد يخرج في نهاية الحلقة بحقيقة أن سياسات صدام حسين ألحقت بالعراق من الأضرار ما جعله يعود إلى الوراء عشرات القرون، ولو أنه احترام بنود اتفاقية الحكم الذاتي في مارس/آذار 1970م ولم يلجأ إلى الخيانة «اتفاقية الجزائر»، لكان العراق – على حد قول هوشيار زيباري وزير خارجية العراق الأسبق – من أنجح دول المنطقة وأكثرها تقدمًا، ووفّر على خزانته والخزانة الإيرانية ما يفوق الترليون دولار أُهدِر في الحرب العراقية الإيرانية بخلاف مليون قتيل وضعفين له مصابين ومشوهين، وبُنى تحتية مدمرة.
إن موضوعية فاضل ميراني – سكرتير المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكردستاني- في عرضه للآراء المتباينة حول أحداث الخمس سنوات التي سبقت اتفاقية الجزائر جعلتنا نتجاوز تفاصيل يغرق فيها كثيرون دون أن يركنوا إلى حقيقة مريحة لنهايات ثورة أيلول، تلك الثورة التي لم يوقفها صدام وشاه إيران وحدهما، وإنما كانت وفق ترتيبات مؤامرة دولية كبرى برعاية أمريكية وأوروبية، لم يكن الرئيس الجزائري بومدين فيها سوى مستضيف لدراميتها في عاصمة بلاده الجزائر؛ وعليه وصف زيباري هذه المؤامرة بأنها لم تكن مفاجأة للكرد فحسب، وإنما لبعض دول المنطقة أيضًا، وأنها لم تكن كارثية على الكرد فحسب، وإنما كانت بمثابة لغم موقوت سريعًا ما انفجر ليعود العراق وإيران إلى النقطة صفر، بل إلى ما تحت الصفر فيما اتفقوا عليه في خيانة الشعب الكردي. وأنه إذا كانت اتفاقية الجزائر صدمة كبيرة للكرد، لكنها لم تهزم روح المقاومة لديهم، بدليل أن المقاومة استؤنفت، وبقي الكرد، ومن رحل هو صدام ونظامه. وكأن هوشيار زيباري يوجه بذلك رسالة!
لقد كان المفكر العراقي عبدالحسين شعبان ثاقبًا في تناوله للموقف الأمريكي في خيانة الكرد في اتفاقية الجزائر، وكأنه أيضًا يوجه رسالة تذكيرية للمسؤولين الحاليين في الشرق الأوسط، حينما قرر قناعة الأمريكان بأنه ليس لهم أصدقاء دائمون، وإنما لهم فقط مصالح دائمة.
تبقى هناك تساؤلات كثيرة حول الضرورة التي جعلت صدام ينجرف ببلاده إلى هذا المنزلق الخطير، ويفرط في جزء من تراب وسيادة بلاده في شط العرب وغيرها. فهل إجابة السيد غازي فيصل – مدير المركز العراقي للدراسات الاستراتيجية – بأن الأوضاع السيئة التي كانت عليها العراق، وعجزه في صد نجاحات الثورة الكردية هي من أجبرته على ذلك؟ أم أنه كان هناك أسباب أخرى، وما خفي كان أعظم؟!
أعتقد كمصري أن هناك نقلة محسوسة نسبيًّا في الرسالة الكردية التي كان من المفترض أن تقدم للعرب بلغتهم منذ سنوات مضت، فنحن بحاجة ماسة لأن نعرف الكرد وحقوقهم من خلالهم قبل غيرهم، فها هو برنامج «لو .. أن» يبنى لبنة على ما سبق، ويخصص حلقة عن مرحلة مفصلية في تاريخ الكرد، بإعداد جيد من تيما رضا، التي قدمته للمشاهدين بصوتها الجهوريّ المناسب بدرجاته تصاعدًا وانخفاضًا وفق مقتضيات الأداء، وإن كنّا نود لو أن عينيها كانت تنظر إلينا وليس إلى الجزء الأسفل من شاشة التلقين (Teleprompter). لكن المهم أنه يحسب لتيما أنها كسرت لدينا قواعد التحليل العلمي التي تقرر أن التاريخ ليس فيه «لو أن»، وقدمت إلينا اليوم تاريخًا فيه «لو أن»!
*الكاتب أستاذ بجامعة الأزهر وخبير بشؤون الشرق الأوسط