في زمنٍ تتقدّم فيه التقنية على الحواس، ويتسلّل الذكاء الاصطناعي إلى مساحات الإبداع، يظلّ الفنّ الحقيقي هو ذاك الذي ينبع من الداخل، من التجربة الحسيّة العميقة، من اليد التي ترتجف أمام البياض، وتقرّر أن ترمي عليه بعضًا من روحها.
و في عالمٍ تتكاثر فيه الألوان وتتكرّر فيه الأساليب، تظهر الفنانة التونسية سناء هيشري كاستثناء صاخب يُثير الدهشة ويطرح الأسئلة، ويُدهش الأبصار بلوحاتٍ لا تُشبه إلا بصمتها العميق وصرختها الحرّة.
في أحدث أعمالها الفنية، تواصل سناء مغامرتها الجمالية التي طالما تجاوزت المألوف، وكسرت النمطية بجرأة لا تعرف التراجع. لوحتان جديدتان تنبضان بالغموض والأنوثة، حيث تتداخل الأوجه مع المادة، وتتحوّل الطلاءات الثقيلة إلى مشاعر مجرّدة، تُلامس الذاكرة واللاوعي البصري.
لكنّ ما يميز تجربة سناء ليس فقط نتائجها البصرية الآسرة، بل العملية نفسها: فنانة تُمارس الرسم كمن يُقيم طقسًا. ترمي الطلاء، لا تضعه. تُغرق اللوحة، لا تزيّنها. تستخدم تقنيات جريئة تمزج بين الأكريليك والدهانات الزيتية، وتختار أن تُشبِع اللوحة بفيض لونيّ غني، دون أن تحسب الكلفة.
” لم أفكّر في سعر الطلاء، بل فكّرت في قيمة لوحتي… أردت أن أرويها حتى التشبّع و أن أمنحها كل ما تحتاجه لتنبض بالغموض وتترك أثرها في عيون لا تُجيد النسيان.
هكذا تصف سناء علاقتها بموادها الفنية، والتي تعتبرها شريكة في الفعل الإبداعي، لا أدوات صامتة.
الألوان هنا ليست زينة، بل أصوات. الوجوه ليست وجوهًا فقط، بل كائنات تشبهنا في هشاشتنا، في اختراقنا للعالم وفي قدرتنا على البقاء رغم كل الطمس البصري
تقنية فريدة… وهوية لا تُشترى
لا تعتمد سناء على القوالب الجاهزة، بل تبتكر، تُغامر، وتعيد اكتشاف الرسم كما لو أنه يُمارَس للمرّة الأولى. تقنيتها الخاصة، القائمة على رمي كميات كثيفة من الطلاء ثم العمل عبر التمويه والتجريب، جعلت من أعمالها تجارب حسّية كاملة، فيها حركة، ووزن، وملمس، وأحيانًا رائحة.
يظهر ذلك جليًا في إحدى لوحاتها الجديدة : وجه أنثوي يتخلله شريط بصري من المربعات الصغيرة والطبقات المتقشّرة، كأن الجمال يخرج من الشقوق، وكأن الندوب صارت نوافذ للضوء.
أما اللوحة الأخرى، فتشبه انفجارًا لونيًا يخرج من قلبٍ أنثوي، وجه يطل من العاصفة، لا نعرف إن كان يختفي أم يظهر، لكنه بالتأكيد يُمسك بالبصر ويأسره.
بين المحلية والعالمية: إلى أين سترحل الألوان؟
تقول الفنانة:
“لا أعرف بعدُ أي بلد سيكون المحظوظ ليحتضن أعمالي القادمة… لكنني أعلم أنها سترحل إلى حيث تُحتفى بالحريّة، وبصوت الأنثى، وبالفنّ كفعل وجودي.”
تستعد سناء لعرض أعمالها في 2025/2026 في وجهة لم تُكشف بعد، وتترك للزمن – ولجمهورها – فرصة الحلم والتكهّن. هل ستكون كالعادة الامارات العربية ؟ باريس؟ الدوحة؟ نيويورك؟ لا يهم. فالفن لا يعرف الحدود، وأعمال سناء تحمل في داخلها بذرة عالمية تُلامس إنسانيتنا المشتركة.
سناء هيشري: الفنانة التي لا تُقنّن الحلم
ليست مجرد رسّامة. بل صوت أنثى تُلَوِّن الحكاية. تعيش الفنّ كتجربة داخلية، كموقف من العالم، وتُعطي لوحاتها من ذاتها أكثر مما تعطيها من الفرشاة.
إنها ترفض أن تُختزل لوحتها في مساحة منضبطة، أو أن تُحسب بقيمة ما صُرف فيها من طلاء…
إنها فنانة تعرف أن القيمة الحقيقية تُقاس بما تهزّه اللوحة فيك، لا بما تُعلّقه في جدارك.
سناء هيشري، أديبة، باحثة، وفنانة تشكيلية بلجيكية من أصول تونسية.
درست في الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة ببروكسل، وهي عضوة في اتحاد الفنانين التشكيليين التونسيين.
تُعرض أعمالها باستمرار في دولة الإمارات العربية المتحدة منذ عام 2010، و تمتدّ مسيرتها لأكثر من عشرين عامًا بين الفن التشكيلي وتدريس قواعد وتقنيات الفنون الجميلة، عبر ورشات وفعاليات ومعارض أُقيمت في بروكسل، دبي، وتونس.
شاركت في عشرات المعارض، وقدّمت ورشًا تدريبية، ودرّست لفنانين من خلفيات ثقافية متعددة، وأسهمت في تطوير الحراك الفني المعاصر عربيًا.
تحصلت على جوائز وتكريمات عديدة لمساهمتها البارزة في تطوّر الفن التشكيلي في العالم العربي، وشاركت في لجان تقييم المسابقات الفنية.
صدر لها مؤخرًا كتاب “نضال من ألوان”، وهو عمل يجمع بين التجربة التشكيلية والرؤية الأدبية، وخصّصت جميع مبيعاته دعمًا إنسانيًا لدور الأيتام.