أخبار عاجلة

د. عادل ضرغام: انعطافات الشعر العربي بين المذهبية والتحولات الجذرية

 

النظرة إلى الشعر العربي على امتداد تاريخه بشكل عام وإلى الشعر المعاصر وتحولاته بشكل خاص يكشف عن أن هذه التحولات التي مرّ بها الشعر العربي لم تكن مرتبطة بهيئة واحدة أو بشكل أو اتجاه واحد، بل جاءت متعددة التوجهات والمشارب. والتساؤل حول التحولات والانعطافات في الشعر العربي ربما يكون توجها مهما لمعاينتها، ومقاربة طبيعتها من كونها تحولا داخل حدود الإطار الفني أو مضيفة إليه ما يوازي الإضافة التي يضيفها اللاحق إلى السابق من خلال السير أو إعادة السير في الطريق ذاتها، أو من كونها تحولا جذريا أو مفصليا، ولا يؤدي هذا التحول المفصلي إلى الابتعاد التدريجي عن التقاليد والقوالب المتداولة داخل حدود النسق الفني، ولكنه- فوق ذلك- يهشم الهوية الفنية المؤسسة للنسق الشعري المتداول.

إن هذه التحولات- جذرية أو داخل حدود النسق المتداول- مشدودة لمؤثرين ومرتبطة بهما بشكل خاص: الأول منهما يتمثل في تحولات الواقع العربي هبوطا وارتفاعا وهزيمة ونصرا، أما الأخير منهما فيرتبط بالعلاقة بالآخر ودرجة الإفادة من منجزاته وثقافته، ودرجة الوعي بهذه الثقافة، فقد يكون الوعي واقفا عند حدود الاستلاب، وقد يكون قائما على الفهم والاستيعاب الذي يؤدي بالضرورة إلى إضافة منجز ذي خصوصية إبداعية لافتة. فتعبير مثل (صدمة الحداثة) يكشف عن حالة الاستلاب المرتبطة بتأمل الذات الجمعية العربية لنفسها في انكسارها واندحارها، ولكن المصطلحات المرتبطة بمراجعة التوجهات الإبداعية والنظرة إليها داخل حدود السياق العربي تكشف عن فهم واستيعاب لافتين، وتكشف-في الوقت ذاته- عن وجود أرضية مشتركة بين ثقافتين.

ويمكن ان نضيف إلى المؤثرين السابقين مؤثرا ثالثا يتمثل في طبيعة النظرة إلى التراث، وتباينها من نظرة ترتبط بالتقديس، إلى نظرة ترتبط بالمحو، إلى نظرة انتقائية تتحرك وتنطلق من حدود الراهن فتحيل التراث إلى وجود لا يكفّ عن الفاعلية والحضور والتأثير، ولكنه حضور وتأثير جزئي، لأن الفاعلية الكلية تصبح مجدولة ومرتبطة بالآني وتشعباته، فيتولد له قدرة على إحالة التراث إلى وجود حضاري فاعل وممتد.

إن نظرة شاملة إلى تراثنا الشعري بأنماطه البنائية والدلالية المختلفة، وباستمرار بنيته الموروثة بالرغم من تحوّل السياقات الجزئي من جاهلي إلى إسلامي إلى أموي إلى عباسي، تثبت أن النزوع إلى التجديد أو الإحساس بالتجديد أو الإحساس بالمغايرة عن السابق لا تتحقق إلا في ظل سياق منفتح على الآخر، فالتجديد وثيق الصلة بالمثاقفة، فمعرفة ما لدى الآخر تجعل التفكير في منجز الذات حاضرا، لأن الآخر بثقافته واختلافه الثقافي والفني يهشم نصاعة النمط المهيمن الموروث، فيجعله داخلا في حيز المساءلة والمراجعة وفق منجز مغاير. فلا يمكن- والحال تلك- أن نغض الطرف عن تأثير حركة الترجمة الخاصة بترجمة الشعر نثرا في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي في زلزلة النسق الإبداعي الموروث، لأن هذه الترجمة جعلت الشعراء يطالعون نموذجا شعريا مغايرا، لا يحفل بالموسيقى أو الإيقاع الذي يمثل لباب مفهومه الشعري أو نسقه الإبداعي، وإنما يحفل بالفكرة ونزوعها نحو الإنساني في تجليها العام.

تجاور الشعريات والتحولات المذهبية

الحديث عن التحولات المذهبية في الشعر العربي الحديث وطبيعة هذه التحولات يشدنا إلى إشكالية مهمة من إشكاليات الشعر العربي، هي إشكالية تقبُّل الجديد وإفساح مكان ومساحة لنموه وحركته، فمع الفنون التي تملك تراثا يستند إلى تاريخ موغل في القدم يتحول التراث بالتدريج إلى تقاليد صلبة لها قدرة على مجابهة وقمع أي بوادر للخروج. ربما كان إصرار بعض التوجهات الإبداعية الجديدة في إيجاد مكان إبداعي خاص يشكل وجودا جزئيا لافتا، ولكن هذا المجال الإبداعي الخاص ليس له قدرة على نفي الشكل التراثي، وهذا يشير إلى سطوة هذه التقاليد من جانب، ويشير من جانب آخر إلى ارتباط التقليدي الموروث بالمقدس وانفتاحه على الديني. إن نظرة فاحصة إلى الاتهامات التي وجهت ضد أبي تمام وبشار وأبي نواس- وهم أقطاب الحداثة الأولى- تثبت أنها مشابهة للاتهامات التي وجهت ضد أقطاب الشعر الحر وأقطاب قصيدة النثر، وهذا يثبت مشروعية التأويل والتفسير، فالفني في الثقافة العربية- وفي أي ثقافة بدرجات متفاوتة- لا يخلو من انشداد إلى الاجتماعي والعرفي والديني.

الاحتماء بالقديم المشدود حتما للمقدس الديني أوجد تقليما للجديد، فلم يؤد هذا الجديد في أي لحظة من اللحظات إلى سيطرة شبه كاملة، تؤدي بالضرورة إلى محو القديم وأنساقه الفنية بكل تجلياتها من جانب، ومن جانب آخر أوجد صيرورة واستمرارا للقديم بأشكال مختلفة. وهذا التوجه كان له أثر مهم على تجلي الشعرية العربية على مرّ تاريخها، فليس هناك سطوة لشكل دون آخر، فأبو تمام بنصه المغاير لم يؤد إلى تغييب قصيدة البحتري وارتباطها بالنسق الموروث، ولم يؤد أيضا إلى تغييب الازدواجية الإبداعية المشدودة إلى القديم والجديد في آن، على نحو ما يمكن أن نرى في نص صريع الغواني.

ويمكن أن نؤيد هذه الفكرة بشاهدين: أحدهما من تراثنا الشعري والنقدي، فابن قتيبة في موقفه المثالي في مقاربته لقضية القدامى والمحدثين في العصر العباسي ومحاولته إسدال العدل بين الفريقين انطلاقا من الفن وليس من الزمن، يعود أدراجه بعد صفحات إلى عبادة النسق القديم من خلال الممارسة النقدية حين تطرّق إلى بنية القصيدة، وإلى ضرورة الالتزام بالأنساق البالية المؤسسة لدى القدماء.

أما النموذج أو الشاهد الثاني فربما يكون أكثر دلالة على استمرار سطوة التقاليد الحامية للنسق الموروث، حين يعيد المتطلع إلى التجديد والداعي إليه في لحظة هامشية خطابه ضد المؤسس في وقت محدد ترديد الخطاب المحافظ القامع للتجديد والمجددين، وقد تكرّر هذا الموقف مرّتين، الأولى من العقاد لحظة كونه مبشّرا بالرومانسية وبالمفهوم الرومانسي في خطابه النقدي لشوقي، وفي موقفه المتشدد من قطبي الشعر الحر(عبدالصبور) و(حجازي). والأخير نفسه- في تحوّله من الهامش إلى المتن المؤسس- نراه يمارس الموقف المزدوج ذاته بين لحظة البداية والتهميش ولحظة التأسيس حين يتحول إلى حام للتقاليد وحارس لها، بعد أن كان في لحظة سابقة ثائرا على التقليديين والجامدين بعد أن أصدر كتابه (القصيدة الخرساء) عن قصيدة النثر.

التحولات في الشعر العربي في ظل سطوة التقاليد ليست متتابعة، لكنها تحولات متجاورة، فإذا كان توجه أبي تمام ورفاقه من المولدين لم يؤد إلى طمس ملامح الشعر الموروث والقضاء على قالبه، فإن هذا النمط ظل فاعلا في الشعر الحديث. فغاية الأمر في حداثة المولدين في العصر العباسي، وحداثة منجزها تمثلت في مسّ الأطار البنائي العام، ومسّ الصور المجهرية، مثل توليدات أبي تمام التي تأتي وكأنها تحدّ متعمد للعقل، وفي سلوك أبي نواس وتخليه عن الطريقة القديمة في تشبيهات القدماء، لأنه ينطلق من ذوقه الحضري، فنراه يسلك سلوكا إبداعيا يحاول من خلاله تجاوز الأطر التي وضعها القدماء، فيما أسموه بعمود الشعر في تجليه الإطاري العام وفي تجليه الجزئي الخاص بالصور الجزئية والمجهرية، ولكن كل ذلك ظل في إطار القالب الموروث، وإن ظهرت محاولات للخروج عليه مثل استخدام أوزان جديدة في شعر أبي نواس أو وجود المزدوج في شعر بشار.

ويمكن تطبيق هذا المنحى التراثي على الشعرية الحديثة التي تكشف عن تجاور الأشكال الشعرية، فالشكل الشعري أو النمط الإبداعي لا يتحول إلى ماض، فقصيدة التفعيلة لم تقض على الشعر العمودي، وكذلك قصيدة النثر بالرغم من انتشارها في أقطار عربية كثيرة، وتحولها نسقا إبداعيا له حضوره لم تفلح في زحزحة وطمس ملامح الشعر العمودي أو التفعيلة.

وفي ظلّ هذا التجاور في الأشكال الشعرية السائدة لا تتولّد فاعلية نهائية لشكل وحيد، أو لنمط قادر على التعبير عن اللحظة الحضارية بسياقاتها. وهذا يكشف عن تغلغل وقوة التقاليد الفنية والإبداعية، ويكشف أيضا عن خلل في الأشكال الجديدة وفي طبيعة ميلادها، وربما يولد أسئلة مرتبطة بمشروعية التجديد والتطور، وهل هو استجابة حقيقية لمتغيرات في بنية العقل وطبقات المجتمع، أم هي استجابة مرتبطة بالتأثر بالآخر وبما ينتجه. فهذا التجاور الذي نراه ماثلا في الشعرية العربية المعاصرة في معظم الأقطار العربية، لا يعود فقط إلى سطوة التقاليد، وقدرتها على تقليم وهدهدة الجديد بشكل يفقده توهجه ومنطلقاته، وإعطاء الصيرورة والامتداد للقديم الموروث، وإنما يعود في جانب كبير منه إلى طبيعة التجديد في السياق العربي القائم على التبعية، وعلى نقل الأشكال أو التأثر بها دون وجود أرضية موازية ترتبط ببنية المجتمع، وتحولات الذهنية العربية في إدراكها ووعيها بوجودها وسياقها.

إن نظرة متأنية ومتأملة إلى المذاهب الأدبية أو إلى تجليات المذاهب الأدبية الشعرية في الأدب العربي تكشف عن تنويعات عديدة لكل مذهب، أو لكل اتجاه إبداعي، وفي ذلك دليل على أن ميلاد المذهب الأدبي لا يتمّ بتجل وحيد مكتمل، وإنما يتشكل في إطار تجليات عديدة تكشف عن استباقات للحظة الميلاد الحقيقية، حيث يتولد المذهب أو الاتجاه دون معاظلة ودون محاولة استنبات سابقة لأوانها، خاصة إذا أدركنا ان قضية المذاهب والاتجاهات الإبداعية- وربما المناهج النقدية أيضا- وثيقة الصلة لفترات طويلة بالعلاقة بالمكتشف الغربي والمستهلك العربي، فتنشأ فجوة بين المذاهب الغربية في تجليها المثالي المحددة بفترة زمنية في نشأتها وذوبانها وتلاشيها، والمذاهب أو المدارس الأدبية العربية في تجليها المتعدد والمتشعب والممتد، لأن بعضها لا يتولّد في تباينه مع السابق ولادة طبيعية مترتبة على تحول السياقات والمناخات داخل إطار عام.

لكن هل ينظر إلى الانتقال من مذهب أدبي أو اتجاه إلى مذهب او اتجاه مغاير على أنه تحول؟ أم ينظر إليه على أنه تنويع لحني على نوتة أو نسج في حدود قالب لا يزال صامدا بالرغم من مرور العصور والأزمنة؟ والسؤال يمكن أن يطرح بشكل آخر، هل ينظر إلى الانتقال من الكلاسيكية- على سبيل المثال- إلى الرومانسية على أنه تحوّل؟ أم ينظر إلى هذا الانتقال على أنه حركة أو تمدد داخل القالب أوجدها التغير في المنطلقات مما أنتج اختلافا في المفاهيم الخاصة بالشعر؟.

الإجابة عن مثل هذه التساؤلات ليست يسيرة، خاصة أنه ليس هناك من ينكر أن التغير في المذهب الأدبي أو الاتجاه ليس شيئا سهلا، لأنه للوهلة الأولى يشكل متغيرات عديدة أهمها نقطة الانطلاق الأساسية، وما بنتج عن ذلك من فروقات واختلافات تبدو جوهرية في النصوص الشعرية وطبيعتها، بداية من مفهوم الشعر، ومرورا بالموضوعات التي تتم مقاربتها والمعجم الشعري والرموز، وانتهاء بالآليات الفنية التي يوجدها المذهب الأدبي في تشكيله مساحات للاختلاف والمغايرة عن المذهب أو التوجه الأدبي السابق.

فإذا أخذنا الانتقال من الكلاسيكي إلى الرومانسي بوصفه انتقالا كاشفا من مذهب إلى مذهب آخر في شعرنا العربي، فإننا بالضرورة سنجد تغييرات تتشكل وفق مستويات عديدة، وسنجد تباينات تجعلنا نوقن أننا لا نستطيع تحديد ماهية الكلاسيكي إلا في إطار متقابل مع ماهية الرومانسي. فبداية من نقطة الانطلاق أو المرتكز الأساسي هناك مغايرة تتشكل في حدود التباين بين العقل في مقابل الخيال، وقد أدى ذلك التباين إلى وصف الأدب الكلاسيكي بأدب الصحة، والأدب الرومانسي بأدب المرض، لأن الكلاسيكي يمثل التناسب بين الملكات، فلا العاطفي أو الخيالي يطغى على ما هو عقلي، ولا العقلي يطغى أو يؤثر على حرارة ما هو عاطفي، أما في الرومانسية فإن طغيان الخيال- والخيال الثانوي الخاص- يمارس تأثيره الخاص في تشكيل خلل ما يقلل من حضور العقل وفاعليته.

ويمكننا أن نعاين في إطار هذا التقابل مجموعة من التوازيات والتقابلات المتباينة، فالكلاسيكي يلتحم بموضوعه وسياقه ومجتمعه، لأنه جزء منه، وقيمة الفرد متحدة بقيمة الموضوع أو المجتمع الذي ينتمي إليه، أما الرومانسي- ربما لانشداده إلى مفهوم الحرية الذي أخذ مدى واسعا على مستوى الأفراد والمجتمعات- فإنه يعاني من سوء تكيّف، يجعله في شعره أكثر التصاقا بذاته مستبطنا هواجسها الداخلية واضعا إياها في بؤرة التركيز، فقد تحوّلت في نزوعها واقترابها أو ابتعادها مقياسا للوعي والإدراك، ومن خلالها يؤسس صلته بالعالم. وفي إطار الموضوعات الخاصة بالمقاربة الشعرية فإن المتأمل سيجد الأشياء في الشعر الكلاسيكي سميت بأسمائها، وليس هناك مساحة للاختراع، أو لمعاينة ومقاربة موضوعات خارج المساحة التي يتيحها العقل، فلم تشده نتيجة لذلك الموضوعات الوجودية والميتافيزيقية، بعكس الشاعر الرومانسي، حيث أتاح له الخيال مقاربة هذه الموضوعات. ويمكن للقارئ أن يكمل رصد جزئيات التباين الواضح بشكل خاص بين التوجهين أو المذهبين الشعريين، مثل طبيعة اللغة أو المعجم الشعري أو الآليات الفنية التي ارتبط وتأسس وجودها بهذا الانتقال.

لكن هل يمكن أن نعد ذلك تحولا في الكتابة الشعرية؟ أم يظل إضافة طبيعية تحتمها طبيعة الحركة والنمو والتراكم التدريجي؟ هناك كثيرون من النقاد يعتبرون هذا الانتقال المذهبي تحولا مشدودين في ذلك السياق إلى اعتبار الرومانسية أول ثورة حقيقية نظرا لعمق تأثيرها في الكتابة الشعرية، بالإضافة إلى تحللها وذوبانها في اتجاهات إبداعية تالية، لا تختلف عنها في التوجه وطبيعته، ولكنها تختلف عنها في درجة الاحتشاد، وطريقة استخدام الآليات الفنية التي ولدت في سياق تجليها وهيمنتها، مما أوجد لها تمددا وديمومة.

التحولات الجذرية المفصلية

وإذا كان الانتقال من مذهب أو توجه شعري إلى مذهب مغاير داخل حدود الإطار الإبداعي البنائي محل جدال وشك وتساؤل، خاصة إذا كان الأمر- كما عرضنا سابقا- يرتبط بالرومانسية بتجلياتها العديدة في الأدب العربي، حيث يتمّ اعتبارها أكثر الحركات تأثيرا، لأنها مثلت جذرا مغذيا لانتقالات مذهبية تالية ارتبطت بها من خلال التجاوب في الأسس والاختلاف في الدرجة والحدة، فإن الأمر في هذه الحالة يحتاج تفريقا بين الانتقال أو الحركة من جانب والتحول المفصلي الجذري من جانب آخر.

فالانتقال أو الحركة التي تشير إلى اختلاف بين مذهب ومذهب تمثل تحولا تدريجيا أشبه بالدبيب أو الحركة البطيئة، هناك نمو وهناك مغايرة، ولكنه نمو شبيه باختلاف أبناء الأسرة الواحدة في الملامح والسمات، ولكن الجسد الأساسي يظل واحدا، وتظل ملامح التشابه حاضرة، وربما تكون أكثر من ملامح الاختلاف. فالمذاهب التي تتوالد تتابعيا داخل الإطار البنائي شبيهة إلى حد ما بالأنهار والجداول الصغيرة المشدودة إلى النهر الأساسي تخط اتجاها بعيدة عنه، وتأخذ مسارب قد تتباين أو تتدابر وتتعارض معه، ولكنها تظل مشدودة لسطوة النهر الأساسي أو الجذر المغذي لتجليها وتمددها.

فهذه المذاهب بالرغم من حركتها واختلافها لم تخلق هوية جديدة، فهي تتحرك- حتى في اختلافها- في إطار هوية محددة سلفا، وسابقة التجهيز، قد تخدش، ولكن أسسها القديمة لم يتمّ خرقها، وتظل تطلّ بفاعلية، لأنها متجذرة بوجودها اللافت والحيوي على المدى الزمني البعيد. فهي حتى في خروجها الجزئي عن الشكل الموروث على نحو ما يمكن أن نرى في الرومانسية على سبيل المثال تظل منطوية على استحضار الهوية الفنية الممتدة. فقد كان هناك في ظل سيادة الرومانسية، وخاصة في تجليها الأخير(أبولو) دعوات إلى تجديدات جزئية ترتبط بمناوشة الشكل والبناء مثل ازدواج القافية أو التنويع في القوافي والبحور العروضية، ولكنها ظلت كلها محاولات مقهورة لانشدادها إلى سطوة النسق الموروث.

تأتي التحولات الجذرية والمفصلية في ظل التحديد السابق مرتبطة بالتحولات التي تهشم مواضعة مستقرة، وتفكك هوية فنية ظلت مهيمنة لفترات زمنية طويلة، وتعيد مقاربة ومساءلة المفهوم المستقر للشعر. ففي تراثنا الشعري هناك مقابلة حادة وضدية بين الشعر والنثر، فقد كانت نظرتهم للأجناس الأدبية منطلقة من سياقهم الحضاري متساوقة مع المفهوم الكلاسيكي للأجناس الذي يرى أن هذه الأجناس- كما يشير خليل الموسى- يجب أن تكون منفصلة، ولا يسمح لها بالامتزاج. وقد استقرّ أمرهم- نتيجة لذلك- على وضع حدود فاصلة بين الشعر والنثر، فالظل عندهم ظل مرتبطا بتحديد قدامة بن جعفر(قول موزون مقفى يدل على معنى)، وظهر ذلك التحديد الأجناسي القائم على التفريق الحاد بين الشعر والنثر في عناوين الكتب التراثية، مثل (الصناعتين) لأبي هلال العسكري، و(المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر) لابن الأثير.

وظل النظر إلى الشعر والنثر على هذا النحو المائز لفترة طويلة بوصفهما جنسين منغلقين ومنفصلين، وليس هناك مساحة للتداخل بينهما من الناحية الشكلية أو البنائية، إلا من خلال ما يتيحه الاتكاء على جماليات فنية متداخلة لا تثبت ذوبانا للنوعين الإبداعيين، بقدر ما تثبت انفصالا وحدودا مائزة بينهما. ولكن الضربات الجزئية التي رأينا وجودا لها في بعض نماذج شعر العصر العباسي والخاصة بمغايرة النسق الاستعاري والذهاب إلى الخفوت الشعري، بالإضافة إلى المناوشات الشكلية التي رأينا وجودا لها في الشعر الرومانسي تجمعت، وأضيف إليها الترجمات العديدة للشعر الأوربي في نمط نثري، وضعت نموذجا مغايرا لتحديدات الموروث، وأدت دورها في زحزحة هذه المقابلة الحدية بين فني الشعر والنثر.

مع قصيدة التفعيلة يقابلنا أول تحول مفصلي في تاريخ الشعر العربي استنادا إلى عمق المجابهة ودرجتها بالنسبة للمؤسس، وتقديم بدائل نوعية تتصل بالمفهوم والبناء والشكل، فهناك خرق لهوية فنية ظلت مهيمنة ومتجذرة لفترات زمنية طويلة. فقد جاءت قصيدة التفعيلة لتمثل تحولا مفصليا مهما في توجيه ضربات نحو جزئيات محددة في بنية الشكل الموروث، وذلك من خلال الاتكاء على جزئيتين، كان لهما كبير الأثر في تهشيم سطوة النسق والقضاء على الهوية الفنية، تتمثل الأولى في القضاء على عدد التفعيلات الثابت في البيت الشعري ليتحول إلى سطر شعري، والأخرى تتمثل في المكان الذي ترد فيه القافية، فلم يعد حضورها شيئا ملزما، ومكان حضورها أصبح غير محدد، وإنما تحضر حين يستدعيها السياقان الإيقاعي والدلالي.

وبالرغم من أن هاتين الجزئيتين لهما تأثير كبير في الشعرية العربية الحديثة، فقد كان لهما تأثير أقرب إلى الثورة، إلا أن حركة (شعر) التي بدأ أقطابها كتابة قصيدة النثر بشكل محايث لقصيدة التفعيلة، كانت ترى- على حد تعبير أحد الباحثين- أن الإنجازات التي حصل عليها أو حققها قالب الشعر الحرّ ليست كافية، وأن الشعر لا يزال مكبّلا ببعض القيود، فلابد والحال تلك من التحرر التام منها، بحثا عن أشكال جديدة. في ظل ذلك السياق، وفي ظل ذوبان الفواصل والحدود بين الشعر والنثر بدأت مغامرة قصيدة النثر لأسباب عديدة، منها ماهو ثقافي، ومنها ما هو اجتماعي، لنشعر أننا أمام تحول في طبيعة الشعر العربي، ولهذا يقول عنها عبدالل شريق (إنها إبدال من إبدالات الشعر العربي وأحد أشكاله الجديدة).

ففي قصيدة النثر هناك انفتاح على معطيات يتيحها إطاران إبداعيان، يشكلان من خلال جمعهما معا هجنة بنائية، فقصيدة النثر أوجدت شكلا مغايرا يستفيد من حركية النثر وانطلاقه وثبات الشعر، فالنثر حفر دائم أثناء الحركة، والشعر حفر من الثبات، فقد جاءت قصيدة النثر لتجمع الاثنين في نص واحد، وهذه هي الإضافة التي يوجدها التداخل بين الأجناس الأدبية، فالتطور في الشعر في قصيدة النثر نابع من هذا التداخل، وفي إشعار الناقد أن هناك تحولا ما، ربما يعود في جزء كبير منه إلى ذوبان الحدود الصلبة التي مجدتها النظرية الكلاسيكية للأنواع، فالاستعارة -وهي قوام الشعر ولبابه- تستدعي الثبات والتوقف من القارئ لتفكيك عناصرها وتراكيبها، ولكن حركة النثر تقوم بعمل تدريجي توجيهي لاشتغال هذه الاستعارة، فتأتي قصيدة النثر كاشفة ومعبرة عن الحركة والثبات في آن.

في قصيدة النثر هناك بنية نثرية، ولكن هذا البناء النثري مطالب أن يعمل عمل الشعر، فقصيدة النثر – كما يقول راسل إدسون الشاعر الأمريكي- أشبه بطائرة مصنوعة من حديد الزهر، ولكنها قادرة على الطيران. فالاتكاء على النثر في الكتابة الشعرية ليس شيئا سهلا أو بسيطا كما يتخيل البعض، لأن كاتبها بالرغم من استناده إلى النثر عليه أن يحيل هذا النثر من خلال مقدرته الخاصة، وقوانينه الفنية شديدة الخصوصية التي يخلقها في كل مرة إلى كتلة بنائية شعرية.

ونتيجة لهذا التكوين الخاص لقصيدة النثر من خلال ذوبان الحدود الفاصلة بين فني الشعر والنثر، وانفتاح الشعر ومعطياته على النثر وما يتيحه من خصوصية بنائية، تبقى قصيدة النثر إشكالية في تحديد نوعها أو جنسها الإبداعي، وإشكالية في تحديدها وتحديد أطرها الشكلية والبنائية، وإشكالية في تحديد بدائلها الموسيقية أو الإيقاعية التي يرى بعض النقاد ضرورة وجودها للاستقواء والاقتراب من الشعر. فمارجريت ميرفي على سبيل المثال ترى أن قصيدة النثر تعتبر إحدى ضحايا أزمة التجنيس في الأدب. ويرى سامي مهدي أن قصيدة النثر ستظل شكلا تعبيريا نثريا، لأنها في رأيه تفتقد إلى أهم عنصر من عناصر الشعر وهو الموسيقى. ولكنّ هناك عددا من الباحثين يرون أن قصيدة النثر أصبحت نصا عابرا للأنواع، فهي لدى أدونيس تشكل مساحة إبداعية تتداخل فيها مختلف الأجناس التعبيرية.

أما إشكالية بنائها وطبيعتها فإننا تجد أنفسنا أمام محاولات عديدة للتحديد وللتعريف، للوصول إلى أشكال وصفات وقوانين مائزة لقصيدة النثر، ولكنْ هناك اتجاه مقابل ومتضاد مع السابق لجعلها منفتحة على كل التجليات والأشكال، وأصحاب هذا الاتجاه ينطلقون من هجنتها التكوينية، وفي ذلك الإطار يمكن التوقف عند مقولة غي لافود التي قالها من مائة سنة، حيث يقول (لا يمكن تحديد أو تعريف قصيدة النثر، هي توجد فقط)، وتتساوق مع المقولة السابقة مقولة أنسي الحاج في توصيف قصيدة النثر على المستوى البنائي أو الإيقاعي حين يقول في مقدمة ديوانه (لن) (ليس لقصيدة النثر قانون أبدي).

هذا الانفتاح البنائي والتركيبي لقصيدة النثر جاء في الأساس من استنادها إلى جزء مهم يشكل تفردها، يتمثل في ابتعادها عن كل محاولات التقعيد والحصر في إطر وأشكال قارة محددة، فهي من الناحية البنائية والإيقاعية تنفر من أي تقعيد أو تحديد، حتى لا يتحول بالتدريج إلى قانون، حتى سوزان برنار في كتابها المؤسس لقصيدة النثر الفرنسية بالرغم من إشارتها إلى سمات فاعلة في لحظة زمنية محددة تصر على الإشارة إلى أن قصيدة النثر تحيّرنا بتعدد أشكالها.

قصيدة النثر وثيقة الصلة بالتجريب المستمر المنفتح في كل كتابة على شكل جديد، فهو نوع ليس ساكنا، بل يتجلى دائما للبحث والتنقيب عن أطر إبداعية جديدة، يتولد من خلالها إيقاع خاص، ذلك الإيقاع المتغير والمتبدل دائما مع كل قصيدة نثر جديدة، ففي كل كتابة هناك إعادة وتجل جديد للشكل، وفي ذلك يقول ريفاتير في كتابه دلائليات الشعر عن قصيدة النثر( إنها نوع ليس له شكل ثابت ينبه القارئ عرفيا، وإنما له لعبة المعنى وحدها التي يمكن أن تفسّر تعرف مقطع نثري تعرفا مفارقا بأنه شعر).

القدس العربي الأحد 3 أبريل 2022