أخبار عاجلة

الشاعر عبد الله عيسى: نص من سيرة لم تكتمل ” طفولة بلا آلهة “

(1)
لكأن صباحاتي في مخيم ببيلا الذي لم تعترف به بعد منظمات الأمم المتحدة ، كما أذكر ، كانت مطرودة من رحمة الطفولة . لا شيء هنا يوحي بأنك أشبه بالملاك كطفل ، وكأن الرب هجر سماء المخيم . لا بابا نويل يزورنا بهداياه حتى في أحلامنا و لا آباء يهبُون ، من قلة حيلتهم ، فرح الجديد من الملابس إلا في الفصح والأضحى .
:النقيفة لعبتنا الوحيدة ، وفي الصبا بارودة الفِتّيش .
نغوص في بساتين الغوطة لنعثر على غصين أشبه بشارة النصر ، نقتلعه من أّمّه لنعقده من رأسيه على مطاطة في وسطها قطعة جلد نجعلها مستقرا للحجارة لنصطاد بها العصافير التي تقيل على الأشجار الوارفة أو ترقص في السماء ، أو نقنص بها الضفادع لنخلع عنها أفخاذها ، ثم نقيم وليمتنا المشتهاة بعد تعب مطاردة الأرزاق في السماء وعلى الأرض . ولأن المخيم النحيل هذا ببيوته ورزقه كان مسورا بنهرين : شق العجوز على يساره والبهدلية على يساره ، ومحروسا من جهتيه بغوطتي دمشق الغناءتين كما كانتا ، فقد كان رزقنا في كل وقت وفيرا .
ننتبذ مكانا قصيا ، شاعريا بالضرورة هربا من رائحة الأحزان والإنكسارات والفقر الموطوء بها المخيم ، فالشمس ينبغي أن تكون قد استعدت للانسلال بأشعتها من بين أوراق الأشجار ومن مرايا النهر ، ليكون لذؤابات النار التي نوقدها لشواء الطيبات من رزق اصطدناه أن ترسم ملامحنا باسمرار محروق ، حول مائدة أعدت بالطيبات من فاكهة الغوطة وخضارها ( لم نكن نسميها مسروقة ، فقد كان ملاكو البساتين رحيمين بنا ، أو هكذا هُيّىء لنا أو شئنا : بأن للفلسطيني أن يأكل في البستان ما أراد دون أن يأخذ منه لبيته ). لكن الناطور اليلداني ” أبا عدنان ” كثيرا ما كان يفسد علينا موائدنا العامرة ومساءاتنا الشاعرية ، فيطاردنا على حصانه والسوط في يمناه يجرّح الهواء وظهورنا حتى ندخل المخيم مدخل صدق .
وفي كل مرّة ، حتى ونحن نتسنّد على ظلالنا أوّل الليل ، وبطوننا متخمة بالطيبات من الرزق ، وجوانحنا الطفلية بقصص اخترعناها فصدّقناها وبخيالات توهمناها فآمنا بها ، كان آباؤنا ينتظرون عودتنا بالعصي والأحذية ، أو بالحنين والبكاء الأخّاذين ، لكنهم كانوا دائما يحتضنوننا وقوفا كأسوار عكا .
وإذ نهرب من وجع صدورهم اللاهثة خلفنا كانت بالدعاء ، يطلقون وراءنا اللعنات الطيبات : ” الله يأخذكم . قلقنا عليكم ” .
وكنا نعرف ما يؤجّج قلقهم ويعجّل بآخرتهم . أمر يتعدى أن يغرق أحدنا في جوف النهر ، أو أن تُسمّم أفعى دمه ، أو أن يقع تحت رحمة سوط الناطور اليلداني ، أو أن يشوّه حافرُ حمار وجهه أو يبقر بطنه ..وكثيرا ما كانوا يخيفوننا بسرد قصص ، لم تكن تعيقنا عن عاداتنا اليومية ،عن سارقي الأطفال لبيعهم أو بيع أعضائهم ، فصرنا نمارس مشاغلنا اليومية جماعات ، ونحمل سكاكين ” الكبّاس ” تحت قمصاننا .
وأمعنّا في الصبا بتهديدهم بما يجعل فرائصهم وأعضاءهم وأعمارهم ترتعد من خوف غلاب ، لنحوز من آبائنا على مانريد : الهرب للمنظمات في لبنان .
ظلّت النقيفة لعبتنا في الصبا ، لكننا أضفنا إلى مهامها نَقْفَ من أطلقنا عليهم أعداء فلسطين . وفلسطين هي نحن كلنا : العصابة كما سمّونا : من عشيرة الأكراد : أنا وطعمة الشتيوي و أولاد سعدة اليونس محمد وأحمد ومعنا أحياناً تيسير ابراهيم الخالدي وكان أكثررنا هدوء وفي أحيان عدة يلقي بنا بكلام عاتب زاجر ، ومن عشيرة المغاربة : موسى ( أخ لأخي الذي مات قبل ولادتي بالرضاعة ) وأخوه محمود وابن عمّهما حمودة ، ومن عشيرة الغوارنة : أولاد أسما : موسى ومحمود ومحمد ، وكذا محمد بن خزنة .. ومن معنا . وأعداء فلسطين كلهم . هكذا قررنا : من اعتدى على حرمة المخيم وأهله نقفناه . ملاك أراض ظلم إحدى نساء المخيم اللواتي يُعشّبن ( أي يقلعن النبتة البرية من حقل نبات المحصول حتى لا تقاسمها الماء ) فلم يعطها أجراً أو شتمها على رؤوس الأشهاد نقفناه . ومثل هذه الحوادث نادرة كأيام الفرح في المخيم . أو أستاذ عاقب ظلما أحدنا ، بضرب أصابعه عشرا بالعصا ، أوبالوقوف على قدم واحدة ووجهه إلى الجدار فيما ذراعاه ملفوفتان حول رأسه نقفناه . وكان جل أساتذتنا في مدرسة ببيلا الإبتدائية أو ثانوية الثورة من الفلسطينيين ، وكانوا يقسون علينا حرصا علينا لنصير أشطر من سوانا وزلفى لفلسطين ، لكن منهم من أدرجناه في قائمة أعداء فلسطين ونقفناه .
لكنّ ما أسميناهم ” زعران يلدا” أكثر من وقع في مرمى نقفنا . كانوا يأتون آناء الليل وأطراف النهار يطوفون حول المخيم ، فيفسدون الفضاء بأصوات موتوسكلاتهم ، والهواء إذ تنعفه بالتراب على الدروب الترابية فيُعفِّر رئاتنا وعيوننا . لكنهم كانوا يمتحنون غيظنا حين كانوا يطوفون حول عائلات المخيم في المساءات ، الخارجة من رطوبة بيوت الطين وقلة حيلتها من الشمس والهواء إلى طزاجة البساتين في الجهة الغربية للمخيم ، وكانت أوصالنا وأقدامنا ترتجف من الغيرة على نسائنا ، وكان حسد دفين يجتر أرواحنا فقد كانوا يتبخترون على موتوسكلاتهم كفرسان هبطوا من الفضاء .
كنا نتوارى خلف الأشجار أو فوق غصونها على طرفي الطريق المؤدي من بلدتهم إلى المخيم وفي جيوبنا حصى سمينة منتقاة بعناية ، فيما نقيفة كلّ منا في يديه كأنها قطعة منها . كان لطعمة قلب حجر وجسد ثور .ويصرخ فاتحاً فمه فيكشّر عن سنّين إثنين لا ثالث لهما : ” إنت العقل ، ونحن العضلات . خطّط وعلينا التنفيذ ” . ويردد من معنا وراءه . وكنتُ أضع خططاً لا طاقة للجن الأزرق بكشفها . ولأن طعمة أسرعنا
كان يقبع في المقدمة ، أول الدرب من ناحية بلدة الزعران ، فيما ننتشر في مكامننا حسب خطة مسبقة نرسمها على الورق أولاً ونعاينها على المكان مع استقراء كافة الإحتمالات والتداعيات . وكان طعمة يدس لسانه بين سنيه ويطلق صفيراً ، ما أن يصل إلينا حتى نكتم في بطوننا ضحكا غلاباً كي لا يكشف عنا في مخابئنا ، وحين كنا نسأله في كل مرة بعد عودتنا إلى المخيم عن هذا الصوت الغريب كان يجيب ،وبه لكنة عنجهية طاغية : ” صوت البلطيق يا جهلة ” ، ولم يكن لنا أن نكذبّه ، فلم نكن قط قد رأينا البلطيق هذا أوسمعنا صوته . وكان يُسِرّ لكل منّا متفاخراً أنه طيرٌ له منقارٌ أشبه بمنقار النسر وجناحان كبيران كالنعامة وقدمان أطول من قدمي مالك الحزين وعينان كعيني الكوبرا . وحين كشفت أمرَطائره هذا الذي توهّمه فصدقته إلى حين ، أخفض جناحيه وصوته أمامي ، وقال : ” الله يستر على أختك . أسترْ علي ” . ولم أفضحه إلى حين .
وما أن يدب على شحمتي أذن كل منا صوت بلطيق طعمة حتى نبدأ بالنقف بالترتيب ولكل منا فريسته . وكانت الفرائس كثيرا ما تتعثر على موتوسكلاتها فترتطم بالأرض مبخوعة على نفسها ، وأحيانا كان يطلق ” كامل اليلداني ” النار في الأرجاء بحثا عن إخافتنا لنترك مكامننا . لكننا نتيبس فيها ، حتى ينسحبوا خائبين .
وكان كامل هذا يتبختر على موتوسكل الهوندا ببزة الشرطة العسكرية ، وبه كِبر وكأن الأرض تهتز تحته . فيزيد من غيظنا ، وكنا نخصه بالنقف أكثر من غيره .
لكن موقعة النقيفة الكبرى تمت في جمعة ” الخلاص من شرهم ” كما أطلق عليها أهل المخيم . وقد كنّا وقتها قد اخترعنا ” بارودة الفِتّيش ” لعبة في الصبا .
نُنجّرُ ( أي نمتهن النجارة إلى حين ) لوحا خشبيا على هيئة جسد البارودة دون أن نحفر كوّة للزناد ، فلنا اختراعنا الخاص ، ثم نثبّت عليها ، من مقدمتها ، أسطوانة حديدية ، ندس في مؤخرتها الفِتّيشة ، فيما نثبّت في مؤخرة اللوح الخشبي سيخا من حديد ، نربط نهايته بمطاطة فيما رأسه يصل مؤخرة الفتيشة في جوف الأسطوانة . وحين نصوّب ، مسدّدين بعين واحدة على الهدف ، نشد المطاطة والسيخ معها بين أصبعَي السبابة والإبهام ، وإذ نطلقها يخترق السيخ جوف الفِتّيشة فتصعق بصوت يُرعب ، لكنها لا تمس أحدا بضُرٍّ إلا عن قرب شديد .
وبقينا نفخر باختراعنا هذا حتى طرّش الفتيش وجه طعمة ، ولولا سِترُ الله لابيضت عيناه من عمى ..
جئنا ، من كل فج، وكل بارودته في يمينه . طوقنا ساحة المخيم من جهته الشرقية مقابل بيت ” أبي مخزوقة ” .هكذا خططنا بعناية . في وقت تكون فيه أقدام الدبيكة في عرس أحمد وناس تزلزل الأرض ، وأنفاس أبوالعبد الوهيبي تجرح الهواء وهي ترف بألحانها من زميرته فترق لها الأنفس ، فيما ميجنة وعلى دلعونة قاسم بن خزنة ترعش ايادي العاشقين المتشابكة في حلقة الدبكة وتلطّف الأرواح الموطوءة بما لا يطاق من كروب اللجوء وآثام الفقر وقلة الحيلة .
” أدبك عليها تنجلي ” غمغم طعمة ، ودار حول جسده دابكاً مرتين . وإذ رأى منا ما رأى ، قال ” يالله نطخطخ عليهم ، خليهم يحلّوا عن سمانا ، وندبك ” . وسدّد بارودته من خلف على كامل اليلداني . ورُجت بنا الأرض من خوف . وهمس محمود الشاذلي ” طق عقله . يموت إذا ما دبك اليوم ” . ونهره موسى الغوراني نهرَ عزيز مقتدر هاشّا المسافة بينهما .
وبكفين هائجتين شدّ طعمة البارودة إلى كتفه العريضة ، وغمزني بعينه اليسرى التي أغمضها على احمرارها الغاضب ، وكأنما ليسدّد بعينه الأخرى على جسد الرجل المائل قليلا على الموتوسكل مصطهجا لمنظر أجساد صبايا المخيم وهي تقفز إلى علٍ فتعلو بهن نهودهن وتهبط كأمواج بحر هائج . وسدّد طعمة ، وهدّد ، وأوعد وأزبد . وما أن حرّر السيخ من بين أصابعه الغليظة، فمسّ عَجُزَ الفتّيشة حتى أطلق صرخة زلزلت الأرض ومن عليها : ” أنا انعميت ، يا الله ” .
وبأعين نازّة بدمع مفاجئ خائف ، وأياد أخذتها الرعشات الغلابات سددنا على رجال نفروا في الجهات على موتوسكلاتهم هاربين ، مفسدين الهواء بأصوات ودخان موتوراتهم ، ناعفين خلفهم التراب . وأمطرمقفاهم من استطاع سبيلا من أهل المخيم بحجارة من سجيل .
وكأنما أغشي عليهم ، فصاروا سكارى وما هم بسكارى ، تسمروا في وقفتهم ، لوهلة طالت ، كأوتاد خيام دُقت عميقا في الأرض ، فيما انهمكنا ، نحن العصابة ، خشية أن ينزل علينا سخطهم ، باختطاف جسد طعمة بعيداً ..
لكنهم انهالوا علينا بالشتائم واللعنات ، ولم يرأفوا إلى حين بحال طعمة . وفيما رقّت لوجهه المحروق قلوبهم ، صرخت الحاجة حدواشة وبصاقها يطرش الفضاء الذي ضاق علينا : ” الله يلعن خلقتك يا طعمة ، خرّبت الدبكة ” .