أخبار عاجلة

الكاتب خيري حسن يكتب: مصر بين “سينوت حنا” و”عاطف زكى”!

“من تعاليم المسيح نحب بعضينا
نعيش كده فى أمان ولا يبق عدو لينا
رسالته كانت سلام/ ومصر استباركت بيه
فى الرايحة والجايه/ فات من جبل سينا”
بهذه الكلمات البسيطة، والعميقة، والصادقة، لشاعر العامية (الزجال) عاطف زكى (مهندس زراعى) كنا ـ نحن أهل القرية ـ ننتظر سماعها منه كل عام فى أعياد الميلاد.
ولقد جاءت أعياد هذا العام ولكن ـ للأسف ـ لن نسمعها منه مرة أخرى.. لتبقى هذه المعانى الطيبة، والكلمات الصادقة، وضحكته العالية، وابتسامته الصافية بيننا تذكّرنا بمصر الجميلة – (حلوة الحلوات) – كما وصفها الشاعر الراحل سيد حجاب.
لقد عاش عاطف زكى يكتب الشعر فى جمال النبى محمد ـ وهو القبطي ـ مثلما كان يكتبه فى جمال السيد المسيح. وحتى عندما انتشرت ـ مطلع التسعينيات ـ موجة من موجات الإرهاب الأسود ـ أو ما اصطلح على تسميته بذلك ـ ظل كما هو بين أهل القرية مبتسماً وضاحكاً وواثقاً ـ مثلما قال لى ذلك ذات يوم ـ من أن مصر بلد عظيم ولن يستطيع الإرهاب النيل منه أو من وحدته وقوته وترابط وتماسك أهله الطيبين! وخير دليل على ذلك ـ حسب قوله لى دائماًـ أنك ستجد هذا الترابط فى كتب التاريخ التى فيها حروف من النور سجلت الروح الوطنية للشعب المصرى بكل عظمة وافتخار.

***
“فى ليلة اتناشر من ربيع
اتولد المصطفى يتيم
من غير تعب أو ألم
سبحانه رب حكيم”

(مدينة المنصورة ـ1930 )

والتاريخ الذى كان يحدثنى دوما عنه الشاعر عاطف زكى يقول:” فى يوم 8 يوليو من ذلك العام قرر إسماعيل صدقى باشا منع الزعيم مصطفى باشا النحاس من السفر عبر قطار الدلتا ليتناول طعام الغداء فى منزل محمد بك الشناوى رئيس لجنة الوفد بالمنصورة، ثم يلتقى بلجان الوفد فى منزل محمود بك نصير. وأصدر صدقى باشا أوامره لمنع النحاس من السفر وانتشر عساكر البوليس ومخبروه يهدمون مظاهر الاحتفالات وتحولت شوارع المدينة إلى ميدان للحرب والكر والفر، واستمرت الحكومة فى غمر الشوارع بالزفت والقطران، ولكن الأهالى من عمال وفلاحين وموظفين وطلبة خرجوا يهتفون للنحاس والدستور ومرت سيارة النحاس باشا فى المسار المتفق عليه بين الوفد والإدارة، فلما أشرفت على اجتياز النطاق العسكرى الثالث وقعت المذبحة. وكان سينوت حنا ـ وهو قطب وفدى كبير ـ يشعر فى قرارة نفسه بأن هناك خطة دنيئة دبرتها حكومة صدقى باشا لاغتيال النحاس. وأسرَّ سينوت حنا بما يخالجه من شكوك إلى صديقه حامد جودة واتفق الصديقان على أن يلاصقا الزعيم حتى يفتدياه إذا تعرض لمكروه. وأسرع سينوت إلى سيارة النحاس باشا أما حامد جودة فقد فرق الزحام بينه وبين السيارة. ولمح سينوت أحد الجنود يسدد الحربة إلى صدر النحاس باشا فما كان منه إلا أن تصدى ليتلقى الطعنة القاتلة مكانه، ليموت متأثراً بها بعد أيام فى بيته بالجيزة بعدما دفع حياته ثمنا لمبادئه الوطنية التى عاش لها وأخلص لها كما تربى عليها من روح ثورة 1919 وما قبلها.
***

“لما أساءت فرنسا للرسول رديت
وقلت للى رسم خسئت واتعديت
وحلفت لازم هتيجى عندى لحد البيت
وتبوس أيادى المسلمين مكسور ومطاطى
يا أما نرفض بضاعتك لو حتى عود كبريت”

(محافظة بنى سويف ـ صيف ـ 1992)

ومن التاريخ نعود للحاضر، ومن الحلم نعود للواقع، ومن مدينة المنصورة نعود إلى مدينة بنى سويف وبالتحديد إلى قرية من قراها البسيطة، والفقيرة، والهادئة، والطيبة حيث كنت أقف فى ظهيرة يوم حار جداً مع الشاعر عاطف زكى يحدثنى فى الثقافة والسياسة والشعر والفن وكرة القدم. ويسمع منى ـ وأنا مازلت صغيراً ـ ما أكتبه من شعر حلمنتيشى لا يرتقى إلى ما يسمى بالشعر، ورغم ذلك كان يشجعنى ثم يسمعنى قائلاً: “الله يخرب عقلك يا خيري دانت شاعر بجد يا ولد” (يقولها وهو يضحك) مع علمه ويقينه بأن ما أكتبه لا يتجاوز ما يكتبه أى شاب صغير فى مراحل حياته الأولى. الحر كان شديداً، وشوارع القرية ـ قرية كفر أبو شهبة ـ فى هذه الساعة ليس فيها سوى السكون ينام تحت ظلال البيوت وخلف جذوع النخيل على الترع ووسط الغيطان بعدما عاد الفلاحون إلى منازلهم من شدة الحر والتعب. وهو – وأنا – مازلنا نقف فى مدخل القرية نتبادل الشعر والكلام تحت حرارة الجو الشديدة. من بعيد لمحت صديق لى ـ ممن انتموا بعد ذلك لما عرف وقتها بالجماعات الإسلامية ـ قادما من بعيد، جلبابه قصير، ولحيته طويلة، ووجه عابس، وخطواته ـ المتجهة إلينا ـ تحمل علامات الشر. بعد دقائق جاء هذا الصديق أو الأخ ـ كما كان يحب أن نناديه – ثم اندفع للتحرش بالشاعر بغرض افتعال مشاجرة معه، اندفعت تجاهه معاتباً وغاضباً بصورة كادت تتحول إلى “خناقة” بينى وبينه. لكنه ـ أى عاطف زكى ـ امسك بيدى قائلاً: “سيبه فى حاله.. لا تعاتبه لأنه مغيّب.. وأبوه راجل طيب وعِشرة عُمر.. وبكرة يعقل ويعرف أننا أهل بعض من يوم ما القرية دى ظهرت على وجه الأرض”.
ـ لا.. لن أتركه – هكذا قلت – حتى أفهم لماذا يفعل ذلك؟ وفى لحظة الصمت التى حانت بيننا عاد هذا الأخ ليقول: “فعلت ذلك لأن الإسلام قال لنا ضيّقوا عليهم الطرقات”. قال ذلك ثم فر هارباً قبل أن اشتبك معه فى الوقت الذى مازال الشاعر يمسك بيدى قائلا: “سيبه بكرة… يعرف الصح من الخطأ”!
***
“الطاهرة ولدت لنا ابن من غير أب
ولاده كانت معجزة تهز كل قلب
جانا المسيح ومعاه إنجيل رسالة حب
أما اليهود كعادتهم قالوا ما هوش معقول
إزاى تحبل بتول.. من غير خطية وذنب”

(القرية ـ شتاء ـ 1995)
مرت الشهور إلى أن قرر النظام (نظام مبارك) وقتها مواجهة تلك الموجة من الإرهاب وتم القبض على العشرات بل والمئات من القرى خاصة قرى الصعيد، ومن بينهم عدة أسماء من أبناء قريتنا وتم اعتقالهم ـ طبقاً لقانون الطوارئ ـ وترحيلهم إلى سجن المنيا العمومى ثم إلى سجن وادى النطرون شمال غرب القاهرة العاصمة، وكان من بينهم صديقنا الذى عاش هذه المرحلة مجاهداً وعاملاً بقول:(ضيّقوا عليهم الطرقات)! فى هذه الفترة كلما التقيت بالشاعر عاطف زكى أجده حزيناً من أجل صديقى هذا الذى اعتقل مع مَن تم اعتقالهم فى ذلك الوقت. وكنت أقول له: “يا أستاذ عاطف هل تحزن عليه وهو الذى أراد الاعتداء عليك ذات يوم؟”.. يبتسم قائلاً: “يا جدع.. صديقك هذا طيب.. وكل أهل قريتنا طيبين.. هو بس مضحوك عليه بكلمتين.. بإذن الله ربك يفك سجنه”.. وعرفت بعد عدة سنوات أنه ـ أى عاطف زكى ـ كان يشجع صديقاً مشتركاً بينى وبين الأخ المجاهد هذا اسمه عياد فؤاد فام (قبطى طبعاً) على السفر مئات الكيلو مترات من شمال الصعيد إلى معتقل وداى النطرون ليزور هذا الأخ فى المعتقل! وعندما سألته عن ذلك قال: “يا جدع مش قلت لك قبل كده.. احنا أهل بعض.. علشان كده شجعت عياد على زيارته فى المعتقل على أمل أن الحكومة تعرف أنه ولد غلبان ومضحوك عليه بكلمتين واحنا الاقباط ـ زى المسلمين ـ بنحبه وبنعتبره ابن من أولادنا”!
***

“مادام فقدت البصيرة والبصر الاتنين
حسك تسوق الهبل مع لعنة الشياطين
قال الصليب والهلال فى مصر كلمتهم
احنا فداك يا نبى أقباط ومسلمين”

( بنى سويف ـ 2021 )

لقد عاش الرجل بهذه الفلسفة البسيطة بين أهل القرية ـ مثلما عاش سينوت حنا أيام ثورة 1919 ـ فى محبة وشهامة، وود، وهدوء، وسلام، وأمان، وأحلام وتمنيات للجميع ـ مسلمين قبل الأقباط ـ بالخير والصحة والسلامة والسعادة. ولقد اعتاد أهل القرية فى كل الأعياد والمناسبات الدينية والاجتماعية والوطنية على وجوده بينهم وبضحكته بينهم وبكلماته الطيبة لهم. لكن هذا العام جاء وهذه الليلة جاءت ( ليلة 7 يناير) والتى سيحتفل فيها أقباط القرية ومسلموها بعيد الميلاد المجيد دون أن يكون بينهم الشاعر عاطف زكى لأنه فى منتصف شهر ديسمبر من ذلك العام مات الشاعر عاطف زكى إثر أزمة قلبية حادة عن عمر اقترب من 65 عاماً. مات وآخر ما كتبه من شعر كان عبارة عن قصيدة زجلية بالعامية المصرية عبارة عن رسالة هجوم شديدة اللهجة ضد (زكريا بطرس) قال له فيها:
“يا مشلوح بره مصر شريد
مفيش بينا لا حاء ولا باء
أنا لشخصك كرهت خلاص
وزاد حبى لأبا الزهراء”
***
(القاهرة ـ 2022)
فى هذه الليلة.. وفى هذا العيد.. أقول لك كل سنة وأنت طيب يا عم عاطف.. أينما كنت.

خيري حسن

•• الشعر المصاحب للكتابة للشاعر الراحل عاطف زكي.

°° المقال ينُشر اليوم الخميس 6 يناير كانون 2022 فى بوابة ” الهلال” اليوم.

•• الصور :
الراحل سينوت حنا
الراحل عاطف زكى